«السمسمية» في البحر الأحمر.. موسيقى لا تشبه مدن القناة
صعد خمسة راقصين من فرقة حلايب التلقائية للفنون الشعبية لأداء رقصة «الهويست» أمام جمهور مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية، في أكتوبر الماضي. وبالكاد ميز الجمهور صوت آلة السمسمية في خلفية أغاني الفقرة، ولم يتفاعل معها بنفس بالحماس المعروف عن الآلة في مدن قناة السويس.
طنبورة بلا جمهور
يقول علي عبد الرافع، مدير قصر ثقافة حلايب: “من الطبيعي ألا يتفاعل الجمهور مع طنبورة شلاتين. لأن وقع الموسيقى مختلف بسبب الآلات المصاحبة التي تغطي علي صوت الطنبورة”.
رقصت فرقة حلايب على أغانٍ تراثية لا يعرفها جمهور مدن القناة، لارتباط الآلة بتراث ممتد بطول حوض البحر الأحمر. من الأردن شمالا حتى جدة وينبع في السعودية واليمن جنوبا، وغربا إلى إريتريا والصومال والسودان وحتى موانئ مصر. وهو ما يجعل الآلة جزءا من تراث عميق لا ينتمي في أغلبه إلى منطقة قناة السويس. التي تشتهر بآلة السمسمية كصوت موسيقي مرتبط بتاريخ المقاومة في المنطقة.
جيل جديد.. صوت مختلف
يشرح عبد الرافع أن الشباب والجيل الحالي من العازفين يعتمدون حاليا على آلة الأورج كمصاحبة للطنبورة، بدلا من آلات الإيقاع والطبل التي استخدمها الجيل الأكبر سنا. كما أن اعتماد الفريق على أغان مسجلة يجعل صوت الآلة مختلفا على الأذن.
ويؤكد مدير قصر ثقافة حلايب استمرار آلة الطنبورة، أو “الباسنكوب”، كآلة موسيقية تراثية في حلايب وشلاتين، يتدرب عليها الشباب. بينما يحتفظ الجيل الأكبر سنا بأدوار غنائية تراثية لم يعد يعتمد عليها الشباب في الوقت الحالي.

السمسمية على قوائم اليونسكو
سجلت مصر والسعودية آلة السمسمية ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي بمنظمة اليونسكو في ديسمبر 2024. وقالت الدكتورة نهلة إمام، مستشار وزارة الثقافة للتراث غير المادي، في تصريح سابق لـ«باب مصر»: “تسجيل السمسمية كتراث ثقافي جاء استجابة لطلب دول حوض البحر الأحمر. حيث تقدمت الأردن للانضمام إلى ملف التسجيل، إضافة إلى طلبات غير رسمية – حتى الآن – من اليمن والسودان. ما يؤكد أن تراث السمسمية مشترك بين هذه الدول، مع احتفاظ كل دولة بخصوصيتها وتنوعها الثقافي”.
آلة صوت البحر
قديما، كان الصيادون يخرجون إلى الصيد في “السنابك” و”الفلايك” (قوارب صغيرة مخصصة للصيد). ويقضون أياما أو شهورا في البحر، ومعهم “الزوادة” من براميل خشبية تحتوي على الملح لتمليح الأسماك قبل ظهور الثلج. إضافة إلى الدقيق والقماش للتبادل التجاري في الموانئ. وكانت السمسمية رفيقتهم في السفر والصيد، بحسب عمر راوي، مدير فرقة شباب البحر في رأس غارب.
ويقول راوي إن العلاقات التجارية كانت سببا في التبادل الثقافي داخل حوض النيل والبحر الأحمر. مشيرا إلى أن انتشار الطنبورة والسمسمية ارتبط بحركة السفن بين الموانئ، سواء للتجارة أو الحج والعمرة.
ويوضح أن موسيقى السمسمية في الغردقة ورأس غارب والقصير تأثرت بالأدوار الجداوية والإيقاع البحري، الذي يختلف عن الإيقاع العادي أو “المقسوم” (واحدة ونص). إذ يعتمد أساسا على نغمة “الدُم” التي تحاكي دمدمات وتقلبات البحر. ويضيف أن التأثير الأكبر جاء من الفن الخبيتي (اليمني)، وهو ما يختلف عن مقام “الرست” المعروف في مدن القناة.
من القصعة إلى سلك التلغراف
يحكي راوي أن انتشار السمسمية ارتبط بحركة التجارة في البحر الأحمر وبالأفارقة الذين تنقلوا بالمراكب مصحوبين بموسيقاهم وأدواتهم. واستقروا في موانئ مثل القصير والسويس والطور وجدة والعقبة. وكانت السمسمية قديما تصنع من “القصعة”، وأوتارها من أمعاء الحيوانات. لكن بسبب الرطوبة كانت الأوتار ترتخي، فجرى تطويرها إلى أوتار من غزل الشباك وخيوط الصيد.
ومع ارتفاع صوت الرياح والشراع، تحولت الأوتار إلى سلك التلغراف ثم سلك فرامل الدراجات. كما تغيرت حوايا الصوت إلى الخشب، وصنعت الأذرع والفرمان من خشب، وصندوق الآلة من الصفيح، ليعلو صوتها.
تجارة البحر وأصول العازفين
يؤكد راوي أن العزف على آلة السمسمية يختلف في المقامات بين مدن القناة والمدن المطلة على البحر الأحمر، رغم أن المصدر يبدو واحدا. ويطرح نظرية تربط انتشار الآلة بنشاطين أساسيين: رحلات صيد اللؤلؤ في عهد بلقيس ملكة سبأ، وحركة التجارة بين ضفتي البحر، بما فيها تجارة العبيد.
ويضيف أن الرواد الأوائل لعزف السمسمية في العقبة وجدة واليمن وحتى مدن القناة كانوا في الغالب من ذوي البشرة السمراء وأصول إفريقية. ويشير إلى كوبليه من دور غنائي على المقام الخبيتي في الأدوار الجداوية، يقول فيه:
“دلال ياخدني بإيدي في السوق يدلل علي
وإن سألوني العوازل قول المقدر علي”.
موضحا أن “الدلال” هنا هو النخاس الذي ينادي لبيع العبيد. وهو دور غنائي أصبح نادرا ومخفيا في تراث السمسمية. مشيرا إلى أن معظم الرواد ممن عزفوا السمسمية من البشرة السمراء، ومنهم قبائل البجا وتزاوجهم مع قبائل العبابدة والبشارية. ومعهم آلة تسمى باسنكوب معروفة من أيام الحضارة المصرية القديمة وحاليا في حلايب وشلاتين.

مسميات متعددة لآلة واحدة
تعرف الآلة بأسماء متعددة في حوض البحر الأحمر، فهي “السمسمية العقباوي” في الأردن، والسمسمية في يُنبع وأبها وجدة بالسعودية، وفي جنوب اليمن. وعلى الجانب الإفريقي تعرف باسم الطنبورة أو الباسنكوب لدى قبائل البجا في السودان. وفي حلايب وشلاتين بمصر، وباسم “المسنقو” و”قرار” في إريتريا.
وتشير الدكتورة كوكب توفيق، الأستاذ بالمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، في بحثها عن آلة السمسمية المقدم بمؤتمر الموسيقى العربية بدار الأوبرا عام 2021، إلى أن عالم الإثنوغرافيا الألماني هانز ألكسندر وينكلر رصد في كتابه “الفلكلور المصري” (1936) وجود الآلة في منطقتي حماطة والقصير بصعيد مصر لدى قبائل تعمل أساسا في صيد الأسماك. وسُميت الآلة بالطنبورة في حماطة، وبالسمسمية في القصير.
كما أشار وينكلر إلى وجود آلة السمسمية في مقاهي ميناء جدة بالسعودية. وهو ما يرجح أن انتشار هذه القيثارة عبر منطقة البحر الأحمر بدأ من السودان والقرن الإفريقي. وأنها كانت في الأصل آلة موسيقية يستخدمها الصيادون، وموجودة في المقاهي بهذه المدن الساحلية.
الطنبورة.. جذور نوبية قديمة
في كتابه “موسيقى مصر والسودان.. شواهد حضارية وثقافية”، يرصد الشاعر والملحن عبد الله صالح الموسيقى التراثية في مصر، ويذكر من بين الآلات التي اشتهرت في الحضارة المصرية: الناي، والهارب، و القيثارة، والسمسمية، والعود، والبزق، والكنارة. ومن هذه الآلات ما يعرف حاليا باسم “الطنبورة” وهي آلة موسيقية وترية قديمة ذات أصول نوبية.
ويشير صالح إلى أن كلمة “طنبورة” في اللغة النوبية مركبة من جزأين: “تو” وتعني البطن، و”بور” وتعني الأجوف، ليكون المعنى الكامل “ذات البطن الأجوف”.
بين أغاني المقاومة والبحر
يفرق عمرو راوي بين الأغاني الشهيرة في مدن قناة السويس وتلك المنتشرة على سواحل البحر الأحمر، موضحا أن موسيقى القناة خرجت من رحم مقاومة الاحتلال والحروب، مع بداية ترسيخ السمسمية كصوت موسيقي مميز لمدن القناة خلال حرب العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، خاصة مع أشعار محمد يوسف التي ما زالت حاضرة حتى اليوم.
وعلى النقيض، يشير راوي إلى أن البحر الأحمر، رغم وقوع معركة جزيرة شدوان وتحول تاريخها إلى عيد قومي للمحافظة، لم تنتج مدنه أغاني سمسمية بالزخم نفسه من الحس المقاوم، إذ التزمت الأغاني هناك بالكتابة والغناء للبحر وطقوس السفر والحج.
مبادرات تعليم حديثة
في مدينة رأس غارب، بدأ عمرو راوي تأسيس مدرسة لتعليم العزف على آلة السمسمية للأطفال داخل مركز خاص. وتقول هبة حامد، مديرة المركز: “نحاول سد فجوة في تعليم الموسيقي بالمدينة، لأن المدارس لا تتوفر بها حصص للموسيقى، وأيضا قصر الثقافة الرسمي، لذا بدأنا دورات تدريبية ونستهدف الأطفال لتعلم العزف على السمسمية”.
وتضيف: “نحب السمسمية ونعرفها، لكن الأجيال الجديدة لا ترتبط كثيرا بالتراث، لذا بدأنا الترويج للفكرة. لدينا حاليا 15 متدربا يتطورون باستمرار، ونؤكد أن السمسمية ليست مجرد آلة لإحياء الأفراح، وإنما تراث ثقافي موسيقي للمدينة ومصر كلها”.
اقرأ أيضا:
«القلوب البيضاء» و«قناة السويس».. فرق من ذوي الهمم تضيء مهرجان الإسماعيلية للفنون
لحن صعيدي ودبكة فلسطينية.. مهرجان الإسماعيلية للفنون يحتفي باليوبيل الفضي
«السمسمية».. موسيقى الناس وسر البهجة التي عبرت من القناة إلى اليونسكو



