الخادمة التي صبغت تاريخ الكوميديا

عام 1900، نشر الروائي الفرنسي أوكتاف ميربو (Octave Mirbeau) رواية صارت من كلاسيكيات الأدب الجريء، بل والإيروسي، بعنوان “مذكرات خادمة”، ويمكن كذلك ترجمة العنوان إلى “يوميات وصيفة” (Journal d’une femme de chambre). واكتسبت الرواية شهرة واسعة بفضل اهتمام المسرح والسينما بها، بل ومنذ بدأ ميربو في نشر نسخة موجزة منها، مسلسلة في الجرائد عامي 1891 و1892.
لكن ما خلد الرواية في الثقافة الغربية هو أنها قد اقتبست سينمائياً عدة مرات في العديد من بلدان الغرب. لكن ترسخ في الأذهان منهما فيلمان شهيران، قامت بالبطولة في كل منهما نجمة عالمية متألقة: الأول هو فيلم “يوميات خادمة” من إخراج المخرج الفرنسي الكبير جان رنوار (Jean Renoir)، وإن كان الفيلم أمريكيا ناطقاً بالإنجليزية. ظهر الفيلم عام 1946 من بطولة بوليت جودار (Paulette Goddard)، التي كانت يوماً زوجة للعملاق شارلي شابلن.
أما الفيلم الثاني، فقد عرض بالعنوان نفسه عام 1964. وهو فيلم فرنسي ناطق بالفرنسية، من إخراج المخرج الإسباني الكبير، السيريالي لويس بونويل (Luis Bunuel) وبطولة جان مورو (Jeanne Moreau).
***
هذا المثلث: رواية “يوميات خادمة” وفيلما رنوار وبونويل المقتبسان عنها، يحتل مكانة هامة في هامش الثقافة الرفيعة، على حدود الثقافة الدارجة في الغرب. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن هذين الفيلمين ربما يشكلان مصدراً لمشهدين من أهم المشاهد في كلاسيكيات الكوميديا العربية. ربما لعب الفيلمان دورا صغيراً، لكن بالغ التأثير في اقتباس الكوميديا على شاشة السينما المصرية تحديداً. للفيلمين تأثير أزعمه على فيلمي “غزل البنات” الذي أخرجه أنور وجدي عام 1949، و”مطاردة غرامية” الذي أخرجه نجدي حافظ عام 1968.
مطاردة الأحذية الغرامية
لا أحتكم إلى وثائق أو شهادات تثبت المصدر الذي استقى منه صناع فيلم “مطاردة غرامية” فكرة ولع شخصية فؤاد المهندس بأحذية السيدات، ووقوعه في غرام الحذاء قبل أن يقع في غرام من ترتديه. وما زالت جملته: “اسمحي لي يا هانم أهنيك على جمال جزمتك” ترن في أذهان الملايين من عشاق الكوميديا الكلاسيكية بالأبيض والأسود، والتي تبدو للكثيرين قادمة من صميم القريحة المصرية في الستينات.
لكن يبدو لي أن الفكرة مقتبسة اقتباساً حراً من موتيفة مهمة في فيلم بونويل “يوميات خادمة”، الذي عُرِضَ عام 1964، أي قبل ظهور فيلم “مطاردة غرامية” بأربع سنوات.
في فيلم بونويل، أكثر من مشهد يبرز انجذاب والد سيدة المنزل إلى أحذية السيدات والبوت، ويظهر أن ألوان الأحذية، وملمس جلودها، وروائحها تثير الرجل العجوز أيما إثارة. فالوالد يمتلك خزانة أحذية (دولابا) تمتلئ عن آخرها بصفوف من الأحذية النسائية. وبعد وصول الخادمة الباريسية جان مورو إلى المنزل بساعات، يبدأ العجوز في التودد إليها وإغراقها بالثناء والإطراء. وسرعان ما يري الخادمة مجموعته من الأحذية، ويستعرض معها أحذية بعينها قريبة إلى قلبه، ويطلب منها أن ترتدي حذاءً معيناً يحبه.

***
في الفيلم الفرنسي، تتواتر المشاهد وتتكرر بناء على الحدث نفسه: يطلب الوالد العجوز من الخادمة أن ترتدي حذاء معينا، وأن تتبختر أمامه بذلك الحذاء، أو أن تقرأ عليه كتاباً يختاره وهي ترتدي الحذاء الذي يثيره. والمثير أن ذلك الخط الدرامي موجود في الرواية الفرنسية الأصلية، وليس إضافة من عند بونويل الذي اشتهر بتصوير الانحراف الجنسي في أفلامه.
تتشابه تلك المواقف وملامح شخصية العجوز مع مواقف تبرز فيها ملامح شخصية فؤاد المهندس في “مطاردة غرامية”. فالمهندس، عند نجدي حافظ، مثل العجوز عند بونويل، مغرم بالأحذية، وكلاهما يشعر بانفعال عاطفي عند التقاء جلد الحذاء بجلد قدم المرأة. لكن عند بونويل، الاستثارة جنسية، بينما عند نجدي حافظ يبدو الأمر رومنتيكيا وعجيباً. فتخفي المبالغة الكوميدية، وبراءة التهريج وأداء الفارس، الجانبَ الجنسي الصنمي (أو الفيتيشي) في شخصية المهندس.
فشعور المرء باستثارة جنسية عندما يركز طاقته الحيوية على أداة ما، مثل الحذاء، هو ما يسميه علم النفس صنمية أو فيتيشية، وهو الوصف العلمي لظاهر تصرفات شخصية المهندس في الفيلم.
***
لكن “مطاردة” لا يقدم ذلك الانحراف في الذوق الجنسي بوصفه إهانة أو انتقاصاً لا من النساء ولا من فؤاد المهندس، بل يبدو ذوقاً غريبا يثير الاندهاش والابتسام ويستدعي المداعبة. أما في فيلم بونويل، فالهوس بالأحذية يشكل ملمحاً من عدة انحرافات يعرضها الفيلم، مثل مطاردة زوج سيدة المنزل للخادمات وإغوائهن، أو قيام رئيس الخدم باغتصاب طفلة أبوها غائب. يستخدم بونويل تلك الانحرافات والجرائم للتعبير عن العنف الطبقي الذي تمارسه الطبقات الحاكمة ومالكة الثروة (الزراعية في هذا السياق) وتتعرض له الطبقة العاملة من الخدم والأجراء العاملين في أراضي كبار الملاك الزراعيين.
انحرافات واختلافات ومبالغات
كعادة كوميديات الستينات في المبالغات والتكرار، يبالغ فيلم “مطاردة” في استحلاب موقف إعجاب فؤاد المهندس بأحذية النساء. فهو يبدو مجذوباً، لا يستطيع السيطرة على نفسه إن استثاره حذاء امرأة. بينما يتمالك والد سيدة المنزل أعصابه على أكمل وجه، في فيلم “يوميات خادمة” لبونويل. كذلك يبالغ الفيلم المصري في عرض كمية الأحذية الحريمي التي يمتلكها فؤاد المهندس، والتي تبلغ على الأقل ضعف عدد الأحذية النسائية التي يحتفظ بها العجوز الفرنسي في مجموعته الخاصة.
لكن في كلا الفيلمين، يتسبب الولع الصنمي بالأحذية في أزمة كبيرة للشخصية المنحرفة. في الفيلم الفرنسي، يلقى العجوز حتفه وهو يحتضن حذاء مشبعاً برائحة الخادمة، لأنها كانت تلبسه. ويعثر الخدم على العجوز ميتاً وهو عارٍ، في وضع يمثل فضيحة أخلاقية. وفي الفيلم المصري، تشكل الأحذية عائقاً كبيراً أمام تطوير علاقة الحب الحقيقية بين المراقب الجوي فؤاد المهندس والمضيفة الجوية شويكار.
***
تمثل الأحذية هنا مجازاً مرسلاً عن العلاقات المتعددة اللاهية، غير الصحية، التي كان ينغمس فيها فؤاد المهندس. وعندما يتخذ المهندس قراره بالتخلص من تلك الأحذية، وإلقائها في الشارع، تؤكد تلك الحركة لحظة تخلي البطل عن حياة “الهلس”، إيذانا بتوجهه نحو الاستقامة وبناء علاقة زوجية جادة مع شويكار وحدها. إذاً بمعنى ما، فالولع بالأحذية يلعب في سيناريو “مطاردة غرامية” دوراً أكثر تعقيداً، متطوراً، مغيراً، أكثر منه في فيلم بونويل “يوميات خادمة”.

البستاني صاحب الأملاك
أما الفيلم الأمريكي الذي أخرجه جان رنوار عام 1946، عن الرواية نفسها “يوميات خادمة” فهو يحمل في رأيي تأثيراً محتملاً على مشهد فارق في فيلم آخر من كلاسيكيات السينما الكوميدية العربية، وهو “غزل البنات” من إخراج أنور وجدي وبطولة نجيب الريحاني. أكرر أني لا أحتكم إلى وثائق تعضد تصوري، لكني أرصد التشابه المثير بين الفكرة الأساسية في مشهدين، واحد في فيلم رنوار، الذي ظهر عام 1946، وواحد في فيلم أنور وجدي، والذي عرض بعد الفيلم الأمريكي بثلاث سنوات، عام 1949.
في فيلم رنوار، زوج سيدة المنزل قريب من الخدم ويتباسط نسبياً معهم في الحديث، بل وأحياناً ما يتناول معهم كاساً في المطبخ. يبدأ فيلم رنوار “يوميات خادمة” مثلما يبدأ فيلم بونويل: تصل الخادمة إلى المدينة الفرنسية الصغيرة، ويقلها كبير الخدم في عربته إلى منزل السادة من كبار ملاك الأراضي، الذين دخلت في خدمتهم. تبدأ الخادمة في التعرف على بقية الخدم. في أحد المشاهد، تدخل إلى المطبخ، ويدور الحوار بين الخدم في ذلك الفضاء المقتصر تقريباً عليهم وعلى أبناء الطبقات القريبة من ذلك المستوى الاجتماعي.
لكن فجأة يصل زوج سيدة المنزل من جولة في أراضيه، وينضم إلى الخدم في المطبخ. الزوج سيد المكان، لكنه بسيط ومتواضع، ويحب العمل في حدائق عزبته. وقد وصل للتو من الحديقة، بعد جلسة عمل بين الأشجار والزهور. وإذا به يجلس ببساطة مع الخدم لتناول كأس من النبيذ معهم. تظنه الخادمة بوليت جودار بستانياً، ولا تتصور أنه السيد.
***
تشترك الخادمة في حوار مع السيد وهي تظنه البستاني، وتقول له في معرض الحديث إنها لن تسمح لسادة المنزل بالتكبر عليها، أو بالإفراط في توجيه الأوامر إليها.وعندما يشير السيد إلى أن سادة العزبة ليسوا جميعاً مزعجين، تجيبه الخادمة إنه البستاني، وإنه بالتالي لا يحتك بالسادة طويلاً على مدار اليوم، موحية بأن ظروف عمله لا تمكنه من الحكم على طبائع السادة من حيث تعاملهم اليومي مع الخدم.
لكن عندما تطور الحوار بين الخادمة والسيد، واخذ ذلك المنحى، تبدأ الخادمة الأقدم في الإشارة بيدها إلى الخادمة الواصلة من أيام، بوليت جودار. وأخيرا تصحح الخادمة الأقدم الصورة، فتعرف بوليت جودار أنها تتحدث مع صاحب البيت، لا مع البستاني. وينتهي الموقف المحرج بفضل سماحة السيد وبساطته. في الفيلم الأمريكي، ينشأ سوء التفاهم الكوميدي هذا من التناقض بين ملابس الرجل وبساطته في الجلوس والحديث، وبين وضعه الاجتماعي كسيد المنزل.
***
يتشابه مضمون ذلك المشهد في “يوميات خادمة” لرنوار مع مضمون مشهد خالد في “غزل البنات” لأنور وجدي. في الفيلم المصري، يدخل الباشا سليمان نجيب، سيد المنزل، إلى الصالون، حيث يجلس نجيب الريحاني، في دور الأستاذ حمام، المدرس الذي دخل حديثاً في خدمته. يتصور الريحاني/حمام أنه يكلم البستاني، بينما هو في الواقع يخاطب الباشا/سليمان نجيب. يزداد سوء التفاهم تعقيداً بسبب التناقض الكبير بين ملابس الباشا البسيطة وطريقته العنجهية في الكلام، ثم بسبب الاشتباك اللفظي بين المدرس والباشا، حيث عن الأول يرفض ان يتباسط معه من يظن أنه مجرد عامل بالمنزل.
سوء التفاهم هذا، وتحديداً التباس الأمر على شخص يدخل حديثاً في خدمة أهل المنزل الأثرياء، ونشوء تجاوز محرج في خطاب المستخدم للسيد، هو المضمون المشترك بين الفيلمين الأمريكي والمصري. ومن الطريف أن سوء التفاهم في الفيلمين محوره تصور خاطئ ينظر إلى سيد البيت على أنه بستاني.
***
لكن المثير أن “غزل البنات” لأنور وجدي يذهب إلى مدى أبعد بكثير مما يذهب إليه “يوميات خادمة” لجان رنوار. فسوء التفاهم يشغل مساحة بسيطة في المشهد المعني في الفيلم الأمريكي. بينما هو عماد المشهد الكلاسيكي في الفيلم المصري. كما أن درجة تعقيد بناء المشهد أعلى عند أنور وجدي ونجيب الريحاني. فالأمر لا يقتصر على أن الريحاني يتصور أن سليمان نجيب بستاني لا باشا
بل إن الكوميديا تتفجر بسبب امتداد خط سوء التفاهم على طوله، بحيث يتحدث الباشا بصفته السيد، ويهينه المدرس متصوراً انه ليس إلا بستانياً. ثم تتفجر الكوميديا مرة أخرى عندما تظهر حقيقة الموقف فيذهل الريحاني ويعتذر. ثم تمتزج الفكاهة بالمأساة عندما ينهر سليمان نجيب مستخدمه المدرس نجيب الريحاني ويطرده. أي أن الفيلم المصري يفصل ويستكشف كل تفصيلة يمكن لها أن تثير الضحك في الموقف، ويستخدمها. بينما كل تلك اللحظات “مضغومة” في ثلاث عبارات أو أربع تمر مروراً عابراً في فيلم رنوار.
التعقيد الفني
من الاستعراض السابق، يبدو وكأن ملمحين فكاهيين في فيلمي “يوميات خادمة” عام 1946 و1964 قد تحولا على علامتين فارقتين في فيلمين من أهم الكوميديات السينمائية العربية، عن طريق المبالغة في الموقف والحوار وعن طريق التفصيل والإطالة فيهما.
لا يعنيني أن أثبت أن فيلمي “مطاردة غرامية” و”غزل البنات” قد تأثرا بالفيلمين الأمريكي والفرنسي المقتبسين عن رواية “يوميات خادمة”. المثير في رأيي هو رصد الملامح المشتركة بين الفيلمين الغربيين والفيلمين المصريين. وكذلك ميل السيناريو في الفيلمين المصريين إلى استخدام تفصيلي مرهف ومعقد لفكرتين حاضرتين في الفيلمين الغربيين، مع تحويل الفكرتين إلى مشاهد كاملة، مركبة، تؤثر بشكل حيوي في رسم الشخصيات وملامح نفسياتها، وتمثل نقاطاً فارقة في تطور أحداث الفيلمين المصريين، وتتحول على لحظات فارقة في قائمة المشاهد التي لا تنسى، ضمن كلاسيكيات الكوميديا السينمائية العربية.