«الثوب الواحاتي» يقاوم النسيان.. من منزل «أم هادي» تبدأ الحكاية

على مقعد خشبي صغير أمام باب بيتها الطيني في قرية باريس، جلست الحاجة «شادية زين الدين»، أو كما يناديها الجميع «أم هادي»، تنحني بتركيز على قطعة قماش داكنة اللون، تتناثر حولها خيوط ملونة، بعضها أحمر كلون البلح الواحاتي، وبعضها أصفر يشبه رمال الوادي الجديد وقت الغروب.
تتحرك أصابعها بخفة نسّاجة خبيرة، ترسم على القماش نقوشًا هندسية تشبه نخل الواحة وعيون الماء، بينما تهمس بابتسامة هادئة: «الثوب ده هو حكايتنا.. أول ما بدأنا نطرّز كان عشان نفرّق الواحاتي عن أي بلد تانية، دلوقتي بخاف يختفي زيه زي حاجات كتير راحت».. «باب مصر» في ضيافة أم هادي لتحكي لنا قصة الثوب الواحاتي.
بداية التطريز اليدوي
تقول «أم هادي» البالغة من العمر 61 عاما: “كنت من أوائل السيدات اللاتي تعلمن فن التطريز اليدوي في مركز ومدينة باريس بمحافظة الوادي الجديد، مطلع الثمانينيات. حيث ورثت المهنة عن والدتي، حين بدأ الثوب الواحاتي يأخذ شكله المميز في الوادي الجديد“.
وبثباتٍ لا يقل عن صلابة نخلةٍ تواجه الرياح، قررت “أم هادي” ألا تترك المهنة تندثر أو تموت على حد تعبيرها. وتتابع: “مع مرور الوقت، تراجع الإقبال عليه بسبب انتشار الملابس الجاهزة، والاتجاه نحو الموضة الدخيلة على ثقافتنا وهويتنا. لكني قررت ألا أترك المهنة تموت، فظللت أطرّز، وعلمت أولادي وأحفادي هذه المهنة، علمتهم كيف يحيكون ثوب الواحة”.
من قطعة قماش إلى هوية كاملة
يقول محمد عبد الله، من أهالي باريس ومدير مركز الشباب، إن «أم هادي» كانت أول من أعاد إحياء نقوش الثوب القديم بعد أن اختفى في التسعينيات: “كانت الناس بتضحك وتقول إن التطريز تعب ومفيش منه فايدة. لكنها كانت تقول دا تراثنا، النهاردة لما تروح أي معرض في المحافظة، هتلاقي شغلها معروض باسم مركز باريس”.
ويضيف: “يتميّز الثوب الواحاتي عن غيره من الأزياء في مصر بأنه يُطرّز يدويًا بخيوط قطنية أو حريرية تحمل ألوان الطبيعة المحيطة. الأحمر المستمد من تمر النخيل، والأزرق من السماء، والأسود من تربة الوادي الغنية بالمعادن. وتروي كل غرزة حكاية عن البيئة وعن المرأة التي كانت تُطرّز الثوب لتلبسه في الأعراس أو المناسبات القبلية”.
مشروع حرفي
توضح حلاوتهم ريفي، رئيس وحدة شؤون المرأة برئاسة مركز ومدينة باريس، أن هناك مشروعا حرفيا تعمل عليه بعض السيدات بالتعاون مع الوحدة المحلية. يهدف إلى إعادة نشر الثوب الواحاتي باعتباره منتجًا تراثيًا يمكن أن يدعم الاقتصاد المحلي.
وتضيف: “إحنا بدأنا نعمل ورش تدريبية بقيادة «أم هادي» نفسها، علشان البنات الصغيرين يتعلموا المهنة. وفي نفس الوقت نحاول نسوق هذه المنتجات أونلاين، وفي المعارض بالقاهرة. الفكرة مش بس نحافظ على التراث، لكن نخليه مصدر دخل”.
التراث والبيئة.. خيوط متداخلة
أوضحت ريفي أن الثوب الواحاتي ليس مجرد زي، بل هو مرآة لبيئة فريدة في عمق الصحراء الغربية. المواد التي كانت تُستخدم في صنعه قديما كانت تُستخرج من البيئة المحلية، مثل الأصباغ الطبيعية من نباتات صحراوية كالـ”الحنة” و”العشرق”، والأقمشة من القطن المصري. ومع تغيّر المناخ وارتفاع الأسعار، بات الحفاظ على هذه المواد تحديًا إضافيًا.
سجل بصري للهوية المحلية
يؤكد الباحث في التراث الواحاتي محمد البيرسي أن أهمية ما تقوم به «أم هادي» يتجاوز الجانب الجمالي، لأنها -على حد قوله- “تحافظ على سجل بصري للهوية المحلية”. ويتابع: “الثوب الواحاتي بيحكي عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وعن الواحة ككائن حي. فكل غرزة فيه كانت رسالة من سيدات الواحة عن الصبر والكرامة والانتماء”.
ويضيف أن تسجيل الحرف التقليدية ضمن قوائم التراث غير المادي لدي منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأجنبية في مصر، التي تهتم بالتنمية الثقافية والتراثية، يحتاج إلى استمرار ممارسيها. وهو ما يجعل دور “أم هادي” في مركز باريس محوريًا في الحفاظ على الحرفة من الاندثار. إذ يعد المركز أول من شرع في تصنيع الثوب الواحاتي دون باقي مراكز المحافظة الخمسة.

من خيوط البيت إلى المشاركة في المعارض
قبل عام، شاركت الحاجة شادية في معرض للحرف اليدوية ضمن احتفالات العيد القومي، بتنظيم من محافظة الوادي الجديد، وهناك نالت أعمالها إعجاب الزوار.
تقول وهي ترفع رأسها بفخر: “كنت فرحانة إن الناس من برّه الواحات بيشوفوا شغلنا. وساعتها حسّيت إن اللي بعمله مش بسيط.. دي هويتي اللي رجعت تتشاف”. ومنذ ذلك الوقت، تحوّل بيتها الصغير في باريس إلى ورشة مفتوحة لتعليم التطريز. تأتيها أخواتها وأحفادها وبعض فتيات القرى المجاورة ليتعلمن الغرز الأولى تحت إشرافها.
أمل يُطرّز بخيوط الماضي
بينما تغرب شمس باريس خلف الكثبان الرملية، تواصل «أم هادي» العمل في صمت، تصفف خيوطها كما لو كانت تصفف ذكرياتها. تقول بصوتٍ يشوبه الحنين: “الزمان بيتغيّر، بس لو سِبنا حاجاتنا القديمة هنتوه. الثوب ده هو اللي بيفكرني أنا مين”.
تبدو كلمات «أم هادي» تلقائية وبسيطة، لكنها تختصر جوهر القصة كلها: أن التراث ليس ماضيًا يُحكى، بل حاضر يُصنع بأيدٍ تعرف أن الجمال الحقيقي لا يعيش في المتاحف. بل في البيوت التي ما زالت تحفظ روح الواحة داخل كل غرزة وإبرة.
اقرأ أيضا:
قرية «حسن فتحي» تعود للأضواء مع احتفالات العيد القومي الـ66 للوادي الجديد