التشكيلي محمد البحيري عن معرضه «مولد يا دنيا»: لوحاتي لا تقدم إجابات جاهزة
مزمار، ورجل صوفي، وحصان خشبي، وزينة ملونة، ولعبة صندوق الدنيا، وقبعة ورقية… كلها رموز مألوفة في الموالد الشعبية، لكن الفنان التشكيلي د. محمد البحيري أعاد تقديمها بروح سريالية تلتقي فيها الذاكرة الشخصية بالتراث الجمعي. وذلك في معرضه الفردي «مولد يا دنيا» الذي يستقبل زواره حتى 14 ديسمبر الجاري بجاليري «آرت توكس» في منطقة الزمالك.
أعمال المعرض
يقدّم البحيري، المدرس المساعد بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، 31 لوحة زيتية إلى جانب رسومات على مجسمات خشبية. وتتنوّع الأساليب داخل الأعمال بينما تتوحد في روح «المولد» التي تظهر كخيط رمزي يربطها معا. وإن اختلفت ملامحها من لوحة لأخرى.
وفي حديثه لـ«باب مصر»، يكشف الفنان كواليس التجربة التي تزامنت مع سنوات دراسته للدكتوراه، قائلاً: «استغرقت فترة العمل والدراسة نحو عامين ونصف».
السخرية والسريالية
تتراوح أعمال المعرض بين البهجة والألعاب، وبين البعد الصوفي ورموزه مثل المسجد والدراويش. فنرى حصانا طائرا يحمل زوار المولد، وبائعا للقبعات الورقية يحلق ببوقه، ورجالا يرتدون الجلباب يقفزون في السماء ممسكين ببطيخة. ويشرح البحيري أن السريالية بطبيعتها ساخرة من الواقع، تتحدى المألوف وترتيباته. وتستند إلى قوة الخيال لإنتاج واقع بديل.
ومن أبرز الأعمال لوحة “ألحان البيانولا” التي يراها الفنان تجسيدًا لروح المعرض. إذ يرتفع المولد في فضاء بصري طائر. وهو عمل لم يُخطط له مسبقًا، لكنه تشكل تدريجيا مع مراحل التنفيذ.
عالم المولد
بدأ اهتمام البحيري بعالم المولد مؤخرا، بعد مرحلة اشتغل فيها على التعبير الحر عن البيئة والاحتفالات والتراث المصري. ويقول: “مع بدء العمل على المعرض اقتربت أكثر من عالم المولد، ليصبح الربط بين الأعمال -وإن كان بشكل غير مباشر- لكن حالة المولد موجودة”.
وتشترك الأعمال في روح البهجة والطقوس والرموز الشعبية. وهو المعرض الفردي الثاني للبحيري بعد معرضه السابق في يناير 2023 بعنوان “A pie in the sky” الذي دارت فكرته حول الأمل والبهجة. ويضيف: “لاحظت بعده أن فكرة المولد تجذبني بشدة”.
دراسة أكاديمية
تزامنت تجربة المعرض مع تحضير البحيري لرسالة الدكتوراه، التي وثق فيها الجانب العملي للتجربة في فصل خاص. بالتوازي مع الجانب النظري الذي أسهم في توسيع رؤيته الفنية.
تحمل الرسالة عنوان: “السريالية في مصر بين فكر جماعتي «الفن والحرية» و«الفن المعاصر» (دراسة تحليلية مقارنة)”. وترصد مسار السريالية في تاريخ الفن المصري منذ الثلاثينيات والأربعينيات وصولا إلى الخمسينيات.
ويقول: “اخترت هذا الموضوع لإسهامه في تكوين أرشيف شامل يقدم فهما غير مجتزأ للسريالية المصرية، فهناك حلقات مفقودة تحتاج لإعادة قراءة. ولرصد نقاط التلاقي والاختلاف بين الجماعتين، لما لها من أثر حاسم في فهم مسار الحداثة التشكيلية في مصر. وطبيعة التوترات الفكرية والفنية التي شكلت المشهد الفني الحديث”.
السريالية من باريس لمصر
تتضمن الرسالة فصلا تمهيديا يعرض الإطار العام، يعقبه فصل يشرح نشأة السريالية في باريس وكيف انتقلت إلى دول عدة بينها مصر.
وتؤكد الدراسة أن وصول السريالية إلى مصر جاء نتيجة تواصل مباشر مع الحركة الأم، في وقت كان المشهد الثقافي المصري مهيأ تماما لاستقبال هذا التيار الثوري. ويقول البحيري: “أحدثت السريالية عند وصولها حراكا واسعا ودفعت الفنون والثقافة المصرية إلى مرحلة أكثر جرأة وتحررا”.
ذاكرة مستلهمة
تناولت الرسالة أعمال رواد مثل عبد الهادي الجزار وحامد ندا، اللذين عاشا في أحياء قريبة من الموالد الشعبية مثل السيدة زينب والخليفة واستطاعا التعبير عنها من الداخل.
ويحاول البحيري استعادة هذا القرب في تجربته، إذ يشكل المولد جزءا من ذاكرته منذ طفولته في كفر الزيات. وكانت زيارات الأسرة مع جدته الراحلة لمولد السيد البدوي في طنطا ومولد إبراهيم الدسوقي في دسوق جزءا ثابتا من حياته.
يقول: “ظلت تلك المشاهد عالقة في ذهني حتى قررت الاستلهام منها في أعمالي. إضافة للزيارات الميدانية والتوثيق المستمر للاحتفالات الشعبية”.
رموز شعبية مصرية
يرى البحيري أن إحياء التراث جزء أساسي من دور الفنان، فهو “بحر لا ينضب” يمكن العودة إليه في كل مرة لاكتشاف طبقات جديدة بشرط النظر إليه بعيون مختلفة.
يعتمد في أعماله على الذاكرة والمعايشة المباشرة. ويؤكد أن التجربة الواقعية تمنحه قدرة أصدق على التعبير، إلى جانب الرجوع للأرشيف عند الحاجة لتفاصيل دقيقة.
الفولكلور والسريالية
يشرح البحيري فكرة المزج بين الفولكلور والسريالية، مؤكدا أن جذورها تعود إلى بدايات الحركة السريالية. حين التفت روادها في أوروبا – ولاحقا في مصر ودول أخرى – إلى الفنون الشعبية، ووجدوا فيها مصدرا لرموز تعبر عن “اللاوعي الجمعي” للمجتمعات وتمكنهم من تشكيل طقوس خيالية وأساطير جديدة.
ويستلهم الفنان هذا المنهج في تعامله مع الموروث المصري، إذ يعيد قراءة التراث الشعبي بوصفه مادة حية قابلة للتحويل. ويسعى من خلال دمجه بالسريالية إلى بناء عالم بصري جديد يحمل روح التراث. ويقول إن المزج بينهما لا ينتقص من أصالة الفولكلور ولا من حداثة السريالية، مضيفا: “يحدث المزج في مساحة يلتقي فيها التراث مع الخيال. ليولد منها عالم فني خاص بي يعيد تقديم الموروث المصري في صياغة معاصرة”.
تفكيك الذاكرة وإعادة بنائها
يرى البحيري أن إعادة صياغة الرموز الشعبية في سياق معاصر هي محاولة لحفظ الذاكرة عبر تفكيكها وإعادة بنائها. ويقول: “يكمن حفظ الذاكرة في إعادة تناولها من جديد وتفكيكها من خلال تحليلها وتقديمها في قالب جديد. فهذا تجديد للذاكرة وتأكيد لأًصالتها واستمرار حضورها”.
ويشير إلى أن الأجيال الجديدة أصبحت أقل ترابطا بالمرجعيات الشعبية. الأمر الذي يجعل استقبالها للرموز الشعبية مختلفا عن أجيال سابقة كانت أكثر التصاقا بها.
قراءات متعددة
يردف البحيري: “حين يزور المعرض أشخاص عاشوا هذه الطقوس ويعرفون تفاصيل الموروث الشعبي، يصبح التواصل مع الأعمال أسرع. لكن لوحاتي لا تُقدم إجابات جاهزة، بل تفتح بابا للتأويل والتفسيرات المتعددة”، معتبرا ذلك جزءا من طبيعة العمل الفني نفسه.
فالتعددية في القراءة تمنح العمل الفني حياة أطول، إذ إن عالم المولد- بما يحمله من ألوان وحركة وطقوس وطبقات من الخيال الجمعي- لا يمكن حصره في اتجاه فني واحد. سواء تم تقديمه بواقعية أو عبر رؤية تعبيرية أو سريالية.

منهج ماكس إرنست
يرجع اهتمام البحيري بالسريالية إلى فترة دراسته الجامعية، وإن لم يكن التعمق فيها قد بدأ إلا بعد التخرج. ومع الوقت، أصبح تركيزه منصبا على هذا التيار، ويفسر اختياره بأنه يدهشه باستمرار. فضلا عن قلة المراجع العربية التي تتناوله.
اختار البحيري منهج الفنان “ماكس إرنست” أحد أبرز مؤسسي الفن السريالي، لرسالة الماجستير. موضحا: “لم أجد دراسة عربية تحلل أعماله وتقنياته المبتكرة التي تحول اللوحة إلى لغز يحتاج إلى فك شفرة. وأردت كشف أسرار هذا العالم والاستفادة منها”.
خصوصية السريالية المصرية
يشير البحيري إلى أن دخول السريالية إلى مصر في ثلاثينيات القرن الماضي اتّخذ مسارًا مغايرًا لنشأتها في أوروبا. إذ جاءت في سياق محلي شديد الخصوصية. فمصر آنذاك كانت تخطو خطواتها الأولى نحو الفن الحديث، في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية مضطربة انعكست على التعبير الفني.
ويضيف أن الخيال بوصفه طاقة مبدعة، ليس وافدا على الثقافة البصرية المصرية. بل يمتد بجذوره إلى الفن المصري القديم بما يحمله من رؤى أسطورية وصور خيالية يمكن النظر إليها كبدايات مبكرة لروح سريالية محلية.
ويرى أيضا أن التحولات البصرية في المنطقة العربية أسهمت في تشكيل حس فني مختلف عن التجربة الأوروبية التي جاءت مكملة لإرث طويل يمتد من عصر النهضة حتى الحداثة. وهو اختلاف منح السريالية المصرية خصوصيتها وتميّزها الأسلوبي والفكري.
السريالية والمقاومة الثقافية
يقول البحيري إن السريالية المصرية شكلت – في سياقها التاريخي- نوعا من المقاومة الثقافية. فقد قادت قدمت جماعة «الفن والحرية» بقيادة جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل ثورة فكرية وفنية على الجيل الأول من الفنانين.
تمردت الجماعة على السائد، ساعيةً لإحداث صدمة جمالية وفكرية تُزعزع القوالب الرومانسية التي اعتبرتها غير قادرة على التعبير عن اضطرابات المجتمع وتوتراته العميقة. ومن هنا جاءت السريالية المصرية كتعبير عن رفض، ورغبة في تفكيك الواقع وإعادة صياغته بمنطق الحرية والخيال والرغبة.

امتداد وتوطين
لم تتوقف الطاقة السريالية عند جماعة «الفن والحرية»، فمع انتقال المشهد الفني إلى أواخر الأربعينيات ورثت جماعة «الفن المعاصر» جانبًا من تلك الروح التحريضية، لكن بصياغة مختلفة.
فقد أعاد فنانو «الفن المعاصر» – وفي مقدمتهم عبد الهادي الجزار وحامد ندا وسمير رافع – توطين السريالية داخل سياق شعبي ومحلي. مستبدلين صدمة التمرد السياسي بصدمة الصورة الرمزية المستمدة من الثقافة الشعبية والمخيال الجمعي.
وبذلك امتد تأثير السريالية من مستوى الثورة الفكرية لدى «الفن والحرية» إلى مستوى بناء رؤية بصرية جديدة لدى «الفن المعاصر». رؤية تنفتح على ما هو أسطوري وشعبي وسحري، وتواصل -بطريقتها الخاصة – فعل المقاومة عبر الفن، ولكن من قلب الواقع الشعبي هذه المرة لا من خارجه.
اقرأ أيضا:
مزاد ومستودع سري.. كواليس سقوط شبكة «روبن سايمز» لتهريب الآثار المصرية
سافر عبر 5 دول.. كيف وصل تمثال مصري بقيمة 6 ملايين دولار إلى مطار أمريكي؟
خريطة تهريب آثار مسروقة من مصر إلى مطار «جون كينيدي» الأمريكي|مستندات رسمية







