تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

البلدوزر الحكومي يطيح بمبنى «هندسة السكة الحديدية» التاريخي

عندما تخرج من محطة مصر إلى ميدان رمسيس، ستجد أعمال هدم وبناء قائمة تحت لافتة “التطوير”، الذي تحتفظ الحكومة وأجهزتها بأسراره، لكي تفاجئنا بين حين وآخر بالتضحية بأحد المباني التاريخية على مذبح التطوير، وهذه المرة جاء الدور على مبنى الإدارة الهندسية لسكك حديد مصر، والذي يقع عند مدخل شارعي الجلاء والسبتية ويطل على ميدان رمسيس، فلم تشفع سنوات عمره الـ 115، أمام قرار الإزالة الذي صدر ليحذفه من ذاكرة المدينة، ويُلحقه بسوق محطة مصر الذي كان شريكه في لحظة الميلاد في العام 1910، وسبقه في الوفاة الإجبارية بفعل البلدوزر الحكومي الذي أعدمه من الوجود العام الماضي.

** **

القرار الحكومي الذي اُتخذ وبدأ التجهيز له على الأرض بإخلاء المبنى، وتفكيك أخشاب نوافذه، يحتاج إلى وقفة قبل أن نفقد المبنى الجميل الذي لا يزال على حالته بجماله الهادي، كما يحظى بإطلالة رائعة تمزج بين الشموخ والبهاء رغم ضجيج السيارات والبشر، وقبح الكوبري الذي يكتم على الأنفاس في شارع الجلاء. فالمبنى يستحق الإنقاذ لا الإفناء، فهو يعود إلى بدايات القرن العشرين، ومبني على الطراز الكلاسيكي، ومن المباني المميزة بالبواكي التي تغطي الرصيف فتحمي المشاة من تغيرات المناخ، لذا فتنطبق عليه مواد القانون رقم 144 لعام 2006، والخاص بتسجيل المباني ذات القيمة التراثية، ولا مبرر لهدمه خاصة أنه يشكل علامة في ذاكرة المكان، ويتناغم في حضوره المعماري المميز مع محطة القطارات الرئيسة بالعاصمة، والمعروفة اختصارًا باسم محطة مصر، وهو أمر يمكن مشاهدته من الصور القديمة التي تكشف عن جمال الميدان، قبل أن يأتي كوبري أكتوبر فيجلب قبح العالم كله يبدد به جمال المكان.

ميدان رمسيس في عشرينيات القرن الماضي..ويظهر مبنى الإدارة الهندسية فى الطرف الأيسر
ميدان رمسيس في عشرينيات القرن الماضي..ويظهر مبنى الإدارة الهندسية فى الطرف الأيسر

إزالة المبنى تأتي في إطار خطة لتطوير ميدان رمسيس أقرتها الحكومة بليل، ودون أي حوار مجتمعي حقيقي وفي غياب كامل للشفافية، وهو أمر تم منذ فترة في هدوء ودون ضجة، إذ أصدر اللواء خالد عبد العال، محافظ القاهرة وقتها، قرارًا يحمل رقم 924 لسنة 2023، بإعلان منطقة ميدان رمسيس والسبتية وكوبري الليمون منطقة إعادة تخطيط، وهو القرار الذي نشر في الوقائع المصري أول أغسطس 2023، وتم على أساسه إزالة سوق محطة مصر التاريخي الذي يعود بتاريخ بنائه إلى العام 1910م، ثم جاء الدور على مبنى الإدارة الهندسية لسكك حديد مصر الذي بني في العام ذاته، ويبدو أن مبنى سكك حديد مصر، هو المقصود في القرار الذي أصدره وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، عاصم الجزار، بتاريخ 24 أبريل 2024، والذي تضمن إزالة أربعة مباني من سجل المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز لمحافظة القاهرة، فهو المبنى المذكور في نص القرار بـ “6 ميدان المحطة ناصية شارع الجلاء برقم توثيق (03190001045)”.

** **

في هذه الجريمة التراثية تقف خلفها الحكومة بكل أجهزتها والجهات المتعاونة معها، ولم تهتم حكومة مدبولي يومًا بتبرير الهدم للمباني التراثية، بل بدت سعيدة بالتخلص منها في سبيل مشروع تطوير ميدان رمسيس والمنطقة المحيطة به، إذ تم التخطيط لبناء موقف متعدد الطوابق، عبر إزالة أرض الصوامع وموقف القللي القديم وسوق محطة مصر، بالإضافة لإزالة مبنى الإدارة الهندسية لسكك حديد مصر، لإنشاء مطلع جديد لكوبري 6 أكتوبر، وخلال الشهور الماضية تم رمي الخوازيق وتم وضع الأساسات وارتفع البناء الضخم الذي يتعارض جماليًا مع محطة مصر ووقارها، فكل شيء يمضي وفقًا للخطة الحكومية التي لا نعلم عنها أي شيء إلا بعد وقوع الكوارث في حق القاهرة وتاريخها.

يبدو أن لا صوت يعلو فوق الصوت البلدوزر الذي يطيح تباعًا بمعالم القاهرة ومبانيها التراثية والتاريخية، ويدهس الخصوصية التاريخية للمكان ليحوله إلى كيان لا روح فيه ولا أصالة، يفتقد لعبق التاريخ والعتاقة الذي يميز مدينة ألفية مثل القاهرة، لها خصوصية في أي تعامل مع مكوناتها، فالمنطق غائب ودراسات الجدوى لا نعرف إذا ما كانت أثبتت أي فائدة لهذه المشاريع، علمًا أن مبنى الترجمان الضخم الذي يضم الموقف والجراج، ولا يبعد عن رمسيس إلا مسافة قصيرة، لا يزال بلا نسبة إشغال تقريبًا، كأحد المشاريع الفاشلة التي يبدو أن مشاريع هدم التراث المعماري الحالية لن تختلف نتيجتها عنها كثيرًا.

** **

ويكشف قرار هدم المبنى التاريخي والذي تتوافر فيه كل معايير التسجيل كأثر في سجلات جهاز التنسيق الحضاري، عن أزمة في مفهوم “التطوير” عند حكومة مصطفى مدبولي وكل الجهات العاملة معها، فهنا يستخدم هذا المصطلح لاستباحة مدينة القاهرة التي تضم طبقات تاريخية متعددة تبلغ مئات السنين، فلا أحد ضد التطوير كمبدأ، خصوصًا في ميدان مثل ميدان رمسيس، الذي يلخص حالة العشوائية في مصر خير تمثيل، لكن لا يعني ذلك أن التطوير يجب أن يعتنق الحلول التي تدل على ضيق أفق وتفكير، فلا يمكن قبول منطق هدم المباني التراثية والتاريخية كلما أردنا توسيع كوبري، أو بناء مطلع جديد له، فليس في هذا أي منطق، بل أن المنطق يقول إن الحفاظ على المباني ذات القيمة المميزة أولوية، يجب بذل الجهد وسؤال أهل الخبرة والاختصاص من أجلها، بل وفتح نقاش لبحث سبل إنقاذ المبنى مع إنجاز المشروع عبر بدائل مختلفة.

المبنى التاريخي غلافا على مطبوعات السكة الحديد
المبنى التاريخي غلافا على مطبوعات السكة الحديد

هدم المبنى كان رغبة تيار داخل الحكومة منذ عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكن منطق الحفاظ على تراث هذا البلد العريق انتصر في النهاية، وأجريت مسابقة دولية لتطوير ميدان رمسيس في العام 2009، كان منطقها الأساسي هو تطوير الميدان المكتظ بحركة آلاف البشر يوميًا، وإعادة الجمال الغائب، بالتوازي مع ضرورة الإبقاء على جميع المباني التراثية في محيط الميدان، لكن هذا المنطق الذي يراعي خصوصية تراث القاهرة وتاريخها، يبدو أنه لم يعد يشغل أي مساحة تفكير في عقلية القائمين على مشاريع “التطوير” التي أصبحت تسلك أقصر الطرق بإزالة المباني التراثية والتاريخية والمستوفية لكل شروط التسجيل كأثر.

** **

المفارقة التي نضعها أمام القارئ، تتمثل في أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بالتنسيق مع محافظة القاهرة، نظم المسابقة الدولية لإعادة تخطيط ميدان رمسيس العام 2009، وفاز بالمشروع مكتبان مصري وفرنسي، بينما جاء المشروع الأيرلندي ثانيًا، في ما حل المشروع التركي ثالثُا، وتضمن المشروع الفائز والذي حصل على جائزة قيمتها 100 ألف دولار، إزالة كوبري 6 أكتوبر، مع تنفيذ نفق في المنطقة المُزال منها الكوبري بين الإسعاف وغمرة، مع زيادة قياسية في المساحات الخضراء (18 فدانًا)، وإزالة جميع الحواجز الحديدية بالميدان، مع تخصيص الميدان لمسارات المشاة، والحفاظ على المباني التراثية بما في ذلك مبنى سوق محطة مصر، ومبنى الإدارة الهندسية للسكك الحديدية، لكن المشروع لم ينفذ أبدًا.

وجرت في نهر عمران القاهرة الكثير من المياه الملوثة، فاعتمدت السلطات الحكومية مشروعها الذي لا نعرف من أين جاءت به، والذي يتضمن توسعة كوبري 6 أكتوبر، وهدم المباني التراثية، وإقامة مول وموقف لسيارات الميكروباص متعدد الطوابق! المدهش أكثر أن مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء الحالي والذي يشهد عهده أضخم موجة تعديات على تراث القاهرة ونسيجها العمراني، كان يشغل في العام 2009، منصب رئيس هيئة التخطيط العمراني، وكان وقتها من المتحمسين لمشاريع تطوير ميادين العاصمة، وفقًا لمعايير تتناقض تمامًا مع ما تنفذه حكومته في السنوات الأخيرة، المدهش أكثر أن جميع أخبار المسابقة الدولية على موقع جهاز التنسيق الحضاري، تم حذفها مع الإبقاء على عناوينها فقط!

اقرأ أيضا:

سوق محطة مصر.. معلم تاريخي أعدمه البلدوزر

تطوير وسط القاهرة: أفكار لا تناقشها الحكومة

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.