الأسئلة الحرجة في ملف التكفير وحرية الدين والاعتقاد (4/4)

يواصل المفكر الكبير نبيل عبدالفتاح حديثه عن حرية الدين وملف التكفير. تناول في الجزء الثالث من هذا المقال المرحلة المضطربة من حكم جماعة الإخوان، ورصد العديد من الانتهاكات لحرية التدين والضمير، وأيضا الانتقال السياسي وتغيير طبيعة الدولة ونظامها القانوني.

ثالثًا: التحول الديني مشكلة وطنية أم مشكلة لاهوتية في البلدان الإسلامية؟

السؤال المطروح هل التحول الديني مشكلة وطنية أم مشكلة لاهوتية في البلدان الإسلامية؟

في ضوء غياب الإحصائيات الدقيقة رسمية أو عرفية، تبدو الإجابة على هذا السؤال انطباعية، خاصة في ظل غياب دراسات امبيريقية حول ظاهرة التحول الديني – أيا كانت من الإسلام إلى المسيحية أو من المسيحية إلى الإسلام أو إلى غيرهما من الأديان الآخرى-. وذلك لمعرفة التضاريس الاجتماعية والتعليمية والمناطقية لهذا النمط من المتحولين الدينيين. من حيث انتماءاتهم الطبقية، والمناطقية، والتعليمية، ووظائفهم، وحالاتهم الاجتماعية، ونوعهم الاجتماعي ذكور/ إناث، وأسباب ودوافع تحولهم الديني.

هل الظاهرة في حالة نمو وأسبابه إن وجدت، أم لا تزال ظاهرة أفراد محدودة؟! نحن إزاء مشكلة لا تزال محدودة في ضوء المؤشرات المتاحة. ومن ثم لا نستطيع القول إنها مشكلة وطنية مثلها مثل الكثير من المشكلات السياسية أو الدينية كالجماعات الإسلامية الراديكالية. أو المشكلات الاقتصادية الهيكلية المتفاقمة. أو البطالة، وعدم القدرة على الزواج. أو الإسكان، أو الصحة أو التعليم أو الثقافة. أو بعض أنماط التدين الشكلي السائد بين الجمهور العادي، والتي تنطوي على الازدواجية، والشكلانية والاستعراض الديني الطقوسي، والنفاق الاجتماعي، ومحاولة بناء بعضهم للمكانة من خلال التشدد الديني، أو الاستعراض السلوكي الديني في لغة الخطاب اليومي، أو عبر اللغة الدينية، والزى.

**

هي مشكلة عديد من الأفراد –أيا كانت أسبابهم اقتصادية – واجتماعية، أو مشكلة الضمير الفردي القلق الساعي إلى البحث عن إيمان يخالف الإيمان والعقائد الموروثة. وغالبًا ما يكون غالب هذا النمط من العابرين يبين الأديان والمذاهب، أو المتحولين دينيًا على درجة من التعليم والوعي والمعرفة، والتفكير الذي يجعلهم، يدرسون أسس عقائدهم الموروثة، ويطرحون على أنفسهم الأسئلة بحثًا عن إجابات قد لا يجدونها في الخطابات الدينية والتأويلية التقليدية السائدة حول معتقداتهم وشرائعهم الدينية، ويسعون إلى البحث عن إيمان ويقين في دين أو عقائد أو مذاهب أخرى.

التحول الديني ينطوي على مشكلة فردية تتعلق بالإيمان الفردي. وبعضها له علاقة بالأوضاع الاقتصادية، والرغبة في الهجرة، أو الزواج بزوج مختلف دينيًا، ويشترط اتخاذ الديانة أو المذهب، لإتمام الزواج، أو لأن قانون الدولة للأحوال الشخصية يشترط ذلك.

من ناحية ثانية: التحول الديني هو في أحد إبعاده يشكل مشكلة وطنية في بعض الدول العربية. وذلك للقيود الدستورية أو القانونية المفروضة في بعض التشريعات على التحول الديني، من حيث آثاره القانونية، ومنها خانة الدين من الأوراق الثبوتية كجواز السفر، أو البطاقة الشخصية، وشهادة الميلاد، أو تصاريح العمل… إلخ. توثيق بعض الأوراق الرسمية..إلخ.

من ناحية ثالثة: أثر التحول الديني على الأسرة واستمراريتها في ظل نصوص قوانين الأحوال الشخصية، أو توثيق الزواج بين المختلفين دينيًا، أو من الأديان لا يعترف بها الدستور والقانون كالبهائية مثلا،…إلخ.

 **

من ناحية رابعة: التحول الديني قد يمثل في بعض الأحيان مشكلة وطنية، لأنها تثير بعض من التوترات الطائفية. كما حدث في عديد المرات في المجتمع المصري.

من ناحية خامسة: يمثل مشكلة وطنية، لأنه يؤدي إلى نزاعات دينية، مع الجماعات الإسلامية السياسية، المتصارعة مع النخبة الحاكمة، التي يتم اتهامها بالتقاعس عن مواجهة الارتداد الديني والتشكيك في الشرعية الدينية والسياسية للحكم.

التحول الديني في أحد أبعاده مشكلة لاهوتية. من خلال استخدام الجماعات الإسلامية، والمؤسسة الدينية الرسمية، خطاب الردة/ التكفير التقليدي في التجنيد والتعبئة والصراع السياسي مع الدولة والقوى السياسية الأخرى.

يشكل التحول الديني مشكلة لاهوتية، لأسباب سياسية، وإيديولوجية، وليس لأسباب عقائدية أساسية في الأصول الإسلامية المقدسة والشريعية.

**

رابعًا: هل الإسلام وحرية الضمير يتوافقان: نعم يتوافقان

هل يمكن للاهوتيين في البلاد الغربية تطوير وجهات نظر؟

أشرنا في القسم الأول من الدراسة أن ثمة توافق بين الإسلام وحرية الضمير والتحول الديني. وذلك وفق المصادر الإسلامية، وآراء بعض كبار الفقهاء في هذا الصدد من القدامى والمعاصرين. وأن ما يثيرون التناقض بين الإسلام وحرية الضمير والتدين والاعتقاد، يعتمدون على حديث ضعيف. ومن ثم يرون أن حرية الضمير في الإسلام مكفولة تماما.

التوافق بين الإسلام وحرية الضمير أمامه بعض العوائق مصدرها الدوجماتية العقائدية لبعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، وبعض الدعاة المتشددين، الذين يريدون ويدعون إلى بناء دولة دينية. وفي ذات الوقت ثقافة التكفير الديني لدى هذه الجماعات. من ناحية أخرى بعض أنماط التدين الشائعة لدى بعض الأوساط الاجتماعية، في ظل صعود الإسلام السياسي والفكر الحنبلي والوهابي السائد في إقليم النفط. بعد هجرة العمالة المصرية والعربية للعمل في هذه البلدان وتأثير بعضهم بأنماط التدين البدوي والصحراوي السائدة في البيئات الاجتماعية هناك، وتمدد دور دول إقليم النفط في السياسة والإعلام، ووسط بعض الدعاة ورجال الدين. ثمة بعض الضوابط الدستورية والقانونية على حرية التدين وممارسة الشعائر الدينية، وقصرها في إطار الأديان السماوية الثلاث.

بالطبع يمكن للاهوتيين في البلاد الغربية تطوير وجهات نظر في هذا الإطار. وذلك من خلال المساهمة في الدراسات التاريخية الخاصة بالكتابات الفقهية التأسيسية. وهو ما قام به بعض الباحثين الغربيين المتخصصين. من ناحية أخرى التركيز على مقررات الفاتيكان الثاني، وانفتاحها على الأديان، والمذاهب الأخرى خارج نطاق الكاثوليكية.

التركيز على المشتركات في القيم الدينية الكونية العابرة للأديان جميعها السماوية وغيرها. وذلك كقيم التعايش الإنساني المشترك، حول رب العزة جل جلاله وعلَّة قدرته وشأنه، خالق الكون والبشر أجمعين.

المساعدة على الاحترام المتبادل بين أصحاب الديانات في إطار قيم ومبادئ المواطنة والحريات الدينية. دعم تطور الأفكار الحديثة والديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

**

السؤال الرابع: هل بيانات حرية الاختيار الفرد للدين أمر مرغوب على المدى البعيد أم يبشر بانفتاح جديد للإسلام؟: الحركة نحو الانفتاح النسبي.

هذا النمط من البيانات حول الأخوة الإنسانية والتعايش المشترك. تزايد في العقود الأخيرة. كنتاج لتمدد ثقافة حقوق الإنسان بأحبالها المتعددة، ووثائقها الدولية. وللثورة المرئية التلفازية والرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وانفتاح الأجيال الجديدة الشابة على ثقافات وأديان العالم.

لاشك أن هذا التحول الرقمي، والاتصالي، يلعب دورًا في الانفتاح الثقافي النسبي في المجتمعات العربية والإسلامية.

من هنا تشكل الحوارات الدينية جسرًا للفهم المشترك.

من ناحية ثانية: لا تزال هذه الوثائق والبيانات الحوارية محدودة التأثير على أنماط التدين الشعبي السائدة ومحمولاتها المختلفة، إزاء الأديان والمذاهب الأخرى.

من ناحية ثالثة: الدور السلبي الذي يمارسه بعض رجال الدين المتشددين في التشكيك وتجريح الأديان والمذاهب الأخرى على نحو يؤدي إلى نقل هذا التشكيك والنقد إلى قطاعات من المؤمنين بهذا الدين أو المذهب أو ذاك.

 من ناحية رابعة: ردود فعل المؤسسات الدينية الرسمية العربية إزاء بعض ظواهر التبشير والتحول الديني والإلحاد. والتي تميل إلى التشدد ونقد الآخر الديني في عقائده وفي مواجهة بعض خطابات التشكيل المسيحي في العقائد الإسلامية.

 من ناحية خامسة: أن البيانات الرسمية بين المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية، تظل رهينة قياداتها العليا، وترتهن بالعلاقات بين هذه القيادات بعضها بعضًا على المستوي الرسمي.

**

بعض هذه البيانات هي جزء من بعض محترفي حوار الأديان على المستوى الكوني والإقليمي. دون أن يكون لها تأثير على قطاعات اجتماعية واسعة أو محدودة. وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك بين الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكية الجامعة، هي واحدة من البيانات والوثائق الدولية الهامة. وخاصة في إقرارها “أن الحرية حق لكل إنسان” اعتقادا وفكر وتعبيرا وممارسة. وأن التعددية والاختلاف في الدين واللون والجنس والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها. وجعلها أصلًا ثابتًا تتفرعه عنه حقوق حرية الاعتقاد، وحرية الاختلاف. وتجريم إكراه الناس على دين بعينه أو ثقافة محدودة، أو فرض أسلوب حضاري لا يقبله الآخر. وغيرها من القيم والحريات الدينية والإنسانية المشتركة كما ورد بالوثيقة.

الملاحظ أن هذه الوثيقة، تحتاج مثل غيرها إلى تفعيلها في واقع المجتمعات العربية والإسلامية. من خلال آليات متعددة، على رأسها: عمل أدلة لتدريب الدعاة، من خلال ورش العمل، وتحويل بعض ما جاء بها إلى جزء من الثقافة الوطنية في التعليم في مراحله المختلفة. في إطار قيم ومبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين. وفي تدريب الإعلاميين في الإعلام التقليدي، والرقمي، وكذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.

أن التوقيع على الوثائق([1]) أيا كانت أهمية ما جاء بها، دون خطط للعمل في عديد المجالات. يؤدى إلى اقتصار أهميتها على مجرد التوقيع عليها. لا شك أن هناك تحديات تواجه المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، في عالمنا العربي، وهناك اهتمام من السلطات الحاكمة بضرورة تطوير الخطاب الديني كما هو الوضع في مصر. ومطالبات الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطاباته السياسية المختلفة بضرورة التطوير والتجديد والإصلاح الديني. وهناك بعض من المؤشرات الأولية على الاستجابة النسبية الأولية. مع بعض التحفظات النسبية، التي تعود إلى الإسلاموفوبيا وظواهر الهجوم على الديانة، الإسلامية من بعض رجال الدين المسيحيين وتشكيك بعض الباحثين في بعض السرديات التأسيسية للديانة. وخاصة السنة النبوية الشريفة والإمام البخاري.

المراجع

[1] – أنظر في ذلك وثائق الأزهر والمثقفين المصرين، في نبيل عبدالفتاح، تجديد الفكر الديني: مقدمات أساسية، دار نشر بتانة، القاهرة 2019.

اقرأ أيضا

الأسئلة الحرجة في ملف التكفير وحرية الدين والاعتقاد (3/4)

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر