الأخيلة المهدرة

طيلة أعوام مضت، كان قد تراكم لدي عدد هائل من الصور المتنوعة والنوعية، حيث غمرني الهوى بالصورة، وكتبت عن رحلتي عن تلك التجربة، حيث عبرت عن الافتنان بالصورة التي مثلت لدي وقتها سحراً ونشوة جارفة. وبعد حقبة طويلة من غواية “مراهقة الخيال” عزفت عن تلك اللذة، حيث لاح لي تصور آخر ورؤية أخرى خالفت الاعتياد، بالولع بالصورة، حيث أعدت إدراك العلاقة بين الصورة والذات، المحيط الاجتماعي والكون.
ففي سياق التأملات التي تخص الصورة والتي راودتني طويلاً، أذكر الصورة الأولى في الاستوديو، ربما في الرابعة من عمري جالساً على منضدة مستديرة، ارتدي جلابية مخططة في دهشة وغرابة، مثلما كافة الصور التي طالعتها، عيون محدقة ومتسعة تمعن في اللاشيء سوى الكاميرا. كل ذلك يحدث مجهز ومتزمت، أفضى هذا التحضير إلى سلب كافة الحواس والمشاعر الحقيقية.
برز ذلك أيضاً في تردي طبيعة الطرائق التي تعطل التفاعل الحقيقي بين الوسيط (الكاميرا) والعنصر البشري. وتوسع التعاون بين الأطراف الذي أحدث صورة نمطية تجسد كائنات أشبه بهياكل خشنة استغرقها الركود والسكون.
***
ورغم أن الصورة تعكس واقعاً اجتماعيا، إلا أنها كثيراً ما تبدد الخيال المتوطن في الواقع، وتهدر جوهر الواقع الاجتماعي، وتهدد اللحظة الحيوية لحركة الأشياء؛ بتجريدها من الرهافة والتجدد والإلهام؛ ليحل الجمود والعزلة والغربة محلها.
كل تلك الرؤى أنتجت انعكاسات ملموسة ومحسوسة، في ساحات عديدة، ففي صبانا، تحديداً في سنوات الدراسة الابتدائية كنا نختتم العام الدراسي بصورة جماعية لكل مرحلة، تضم المعلمين والتلاميذ، حيث نحتشد في امتثال وانضباط بالزي المدرسي؛ أمام الكاميرا، في وجوه تتميز بالعبوس والفاقة. ولا أحد يدري ضرورة أو جدوى تلك الصورة. أو يدري معنى ذكريات ولا أحد يعرف من يجاوره في الصورة. كان محض تقليد لا يخلو من عسف؛ ويخلو من أي تعبيرات أو انفعالات ولا شيء يهم، وكل ما يهم أن يقبض الأخصائي الاجتماعي ثمن الصورة خمسة قروش آنذاك. وكان عديد من التلاميذ لا يكترث بملكية الصورة.
***
وفي مشهد آخر، كان يطوف بالحدائق العامة مصوراتي الحديقة. فكان بحديقة النزهة الرحبة والتي تضم حديقة أنطونيادس وجنينة الورد؛ زغلول المصوراتي بقامته الممشوقة ونظارته السوداء وقميصه المفتوح ويكشف عن صدر عريض؛ حاملاً كاميرا كبيرة. كان يحل بالحديقة في الأيام الأخيرة قبل الامتحانات حيث تكتظ روابي ومروج الحدائق بالطلبة والطالبات تتوارى وراء الأشجار الضخمة بغية المخاتلة حيث ينهب زغلول المصوراتي صوراً لقبلات مسروقة أو أحضان ساخنة طواعية وبعيداً عن القصد الأخلاقي، فإن ذلك يعد فعلاً من السطو الموارب ويقوض مقومات قواعد الفن المضادة للحجب والتمويه وصناعة الزيف؛ وتعلن عن بؤس الهندسة.
فصناعة الصورة يمثل أداء من البذل مع التصورات ومع المعرفة، هي إنتاج لوحدة المعنى والدلالة والقيمة. وبلوغ الدراما الحقيقية في الصورة؛ واستبطان المشاعر والوعي بها، لتحقق الإبداع والابتكار عبر التوليف والتركيب في غرفة التحميض.
غير أن الكلف بأن نقعد صحبة حول البوم صور العائلة أو الأصحاب لا يعدو أكثر من طقس عابر؛ يعبر عن متعة ونشوة خالصة، تعبأ وفقط بجماليات الصورة أو استعادة لذكريات هشة ومهمشة ولا تتسع لتأمل وتفكر في المضمون الاجتماعي للصورة؛ حيث صارت محض محاكاة لواقع أو مثال؛ فتنفض كما انعقدت.
***
والمصور، الذي لابد وأن يبرهن على تحققه، ويؤكد حريته هو المصوراتي المأخوذ بالشارع، أو المتسكع خارج السرب. حيث يعبر عن ضديته وائتلافه في آن، حيث يلتقط صوراً غير مألوفة، لكنها تبوح بالوعي الحقيقي بالواقع، وترسخ مفاهيم خلاقة لمعرفة أخرى، تكرس لمنظومة جديدة لبناء العقل والوجدان ويؤكد الخصوبة والنماء الذي تحفل به الحياة؛ إن مصوراتي الأماكن المفتوحة يعلن عن شغفه بضوء الطبيعة فيركض وراءه ليتواشج مع “فلترة” الصورة ونصاعتها، ولإزاحة استنساخ الطبيعة ولفظ المسخ الميكانيكي المحدق بالصورة؛ وينمو زخم الوعي التاريخي بالعفوية والحرية، في محاولة لاستنباط التجارب والخبرات الكاملة في روح خفاقة.
ولنؤكد على أن كل شيء صالح للاستعمال والاستعادة ثانية، فمن يحصد صوراً قديمة تالفة ومتآكلة في ركام من الأشياء المهملة، التي لا تمثل قيمة أو معنى لديه، لا تغفل عين آخر، عثر عليها لدى من أغوته الصورة فاجتذبته لدلالتها وحيث تراوحت المفاهيم بين الاستغناء والاستثناء يظل قانون الحاجة والإغواء بكافة صوره وأشكاله النفسي الاجتماعي هو المعيار الحيوي لإحياء الذكريات عن ظهر قلب.
***
وهكذا ننجو من الفقد الذي طال تلك الصور التي تسربت من موطن أربابها حتى صناديق المهملات لتسرى ثانية لدى غرباء لا تعرف الينابيع جيداً ولكنها تدرك ما تحمله من مشاعر الكتابة: “تذكار إلى الأخ ياقوت أفندي حافظ بمناسبة زواجه السعيد” 23/4/1945، أو “أخذت ليلة رأس السنة 1:30صباحاً بميدان محطة الرمل” أهدي إليك صورتي تذكار، لعلها تكون في غيبتي لك شعاراً 1930″، توفي إلى رحمة الله تعالى ابن بنت عمتي المرحوم/ نبيل في مستشفى الحميات بتاريخ 15/6/1947 وهذه الصورة تذكار منه إلينا “المصوراتي عزت – وصوره مهداه من حضرة الوجيه الشيخ إسماعيل عبدالله الطهطاوى التاجر ومن أعيان جرجا في أول يونيه 193 إلى الأخ الأستاذ/ محمد بدوي البنا أفندي”.