تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

اختفاء الأثر.. «الإبادة التراثية» تتوسع في جبانات القاهرة

في نهاية أكتوبر الماضي، أطل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على جميع المصريين ليعلن أن أعمال الهدم في جبانات القاهرة ستتوقف، وأنه لن يتم ارتكاب مزيد من الأخطاء في هذا الملف، لكن على أرض الواقع وبعد مرور نحو 10 أشهر على تصريح رئيس الوزراء، بات واضحًا أن البلدوزر لم تصله تصريحات مدبولي، فأعمال الهدم مستمرة وتجري على قدم وساق، بل بمعدلات أكبر لإنشاء محور مروري يشطر ترب الشافعي (القرافة الصغرى) إلى قسمين بعد هدم عشرات المقابر بدماء باردة، ليخلق ثقب في ذاكرة القاهرة عبر حذف مجموعة جديدة من المقابر التاريخية من الذاكرة بلا إمكانية استرجاع.

فالأنباء القادمة من الجبانات غير مبشرة، فأعمال الهدم تدور على قدم وساق في ترب الشافعي (القرافة الصغرى) وترب السيدة نفيسة، ولتقول إننا مقبلون على خسارة فادحة جديدة تخفي أثر الكثير من معالم هذه الجبانات التاريخية، مع التضحية بعدد من الأحواش التي تضم مجموعة من أندر مكونات القرافة الصغرى.

***

النسيج العمراني لهذه المنطقة الفريدة في القاهرة تم تمزيقه بلا رحمة وإلى الأبد، فتم إزالة المقابر التي تقع أمام حوش الباشا (الذي يضم مجموعة من مقابر حكام مصر من عائلة محمد علي وأسرهم)، كما تم إزالة قبر الأمير يوسف كمال، مؤسس مدرسة الفنون الجميلة وراعي الفنون، وصاحب الجهود الجغرافية الرائدة في مصر والتي يقف على رأسها موسوعته الفريدة (المجموعة الكمالية في جغرافية مصر والقارة).

كما حذر إبراهيم طايع، أحد أهم موثقي الجبانات، من بوادر هدم قبة سليم باشا الحجازي ناظر الجهادية، المعروفة باسم قبة شاهين كينج، وهي من “أجمل قباب القرافة، قبة عظيمة وفريدة من نوعها، ولا يوجد لها مثيل”، على حد قوله، لافتا إلى أنه تم هدم سورها وتم نزع بابها ونوافذها تمهيدًا لهدمها قريبًا.

بينما كتبت منى سليم، أن مدفن جدها رشوان باشا، والذي يضم رفات معظم أفراد العائلة، بدأت السلطات في هدمه على الرغم من جماله الاستثنائي، كذلك اقتربت عملية إزالة حوش خليل أغا، فضلا عن عشرات المقابر في المنطقة والتي فضلا عن أهميتها التاريخية والتراثية تشكل جزءا من النسيج العمراني الفريد لجبانات القاهرة، ولكن تم إزالتها بدون أي تعقل أو احترام لتراث لا يمكن تعويضه.

***
خرائط جوجل
خرائط جوجل

خرائط “جوجل” هنا كاشفة عن حجم ما يتم هدمه، فمن خلال مقارنة للصور الخرائط التي نشرها (باب مصر) في إبريل الماضي، مع خرائط جوجل الجوية لنفس المنطقة في ترب الشافعي يلاحظ بسهولة حجم الدمار الذي لحق بهذه الجبانة، فما تم خلال أربعة شهور هو توسيع حجم الإزالات في شارع الطحاوية، كما ان أعمال رصف الطريق قد بدأت بالفعل وأن عملية “توسيط” القرافة الصغرى تمضي بنجاح باهر، ولا عزاء لمحبي تراث القاهرة، فخرائط جوجل، بالتوازي مع صور موثقي الجبانات، تكشف لنا عن حجم الجريمة المرتكبة في حق ترب الشافعي (القرافة الصغرى)، التي تواجه خطر الإبادة التراثية.

عملية الهدم المستمرة طالت كل مكان في جبانات القاهرة حرفيًا، فلم يعد هناك مكان بعيد عن ضربات البلدوزر الذي بات عنوانا لمشروعات “التطوير” التي تتبناها الحكومة، وتفرضها على الجميع ملقية باعتراضات المتخصصين والمهتمين والموثقين عرض الحائط، فلا صوت يعلو فوق نغمة التطوير.

وهنا يجب التأكيد أن لا أحد ضد التطوير كمبدأ، لكن ما نرفضه هو أن يتحول شعار التطوير إلى لافتة لانتهاك النسيج العمراني لمدينة تاريخية مثل القاهرة التي تضم طبقات تاريخية وتراثية تتجاوز 1400 سنة، فلا يمكن التعامل معها بمنطق المطورين العقاريين، الذين لا ينظرون إلا لخرائط ومواقع متميزة تسيل لعابهم فيحذفوا بجرة قلم كل ما عليها من منشآت دون فهم ولا وعي بأهمية ما تم حذفه، فالكوارث ترتكب في حق تاريخ المدينة بكل أريحية من لا يعرف أهمية ما يدمر.

***

عمليات الهدم المستمرة تستهدف مجموعة جديدة من المقابر التاريخية التي وضعها حظها السيئ في مسار المحور المروري المزمع شقه في قلب القرافة الصغرى التي يعود تاريخها لنحو 900 عام على أقل تقدير، ليكون المحور بديلا عن مسار صلاح سالم الحالي، والواقع شمال باب القرافة ومسار سور مجرى العيون.

فلا أحد يعلم مصير قبر الإمام ورش (توفي سنة 197هـ/ 812م)، والذي يعد أحد أشهر علماء زمانه، فهو صاحب الرواية الشهيرة عن نافع أحد القراء السبعة للقرآن الكريم، فالهدم طال المقابر من حوله، كما تظهر الصور وخرائط جوجل بالقمر الصناعي، وقبره يقع في قلب مسار المحور المروي الجديد، ولا أحد يتحدث عن مصير هذا القبر الذي يكتسب مكانته التاريخية العظيمة من موقعه الذي يعد من العلامات التاريخية لتحديد المواقع في القرافة الصغرى، لكن على ما يبدو أن البلدوزر غير معني بالقيمة التاريخية.

هدم المقابر.. تصوير: إبراهيم طايع
هدم المقابر.. تصوير: إبراهيم طايع
***

لا يتوقف الهدم والإزالة عند ترب الشافعي (القرافة الصغرى)، بل تعدى ليصل لكل مكان تقريبا في الجبانات، فأعمال الهدم طالت المقابر الواقعة جنوب جامع السيدة نفيسة، التي تعد واحدة من أقدم المناطق في جبانات القاهرة، كذلك تواصل الحكومة بكل همة حاليا تدمير المقابر في ترب باب النصر التي يعود تاريخها إلى العصر الفاطمي الثاني، والتي تمتلك خصوصية تراثية كون مقابرها مغطاة بمقصورات خشبية نادرة، فضلا عن القيمة التاريخية لها كونها الجبانة الوحيدة الباقية من العصر الفاطمي، كما أن عدم إجراء أي حفريات في المنطقة التي تستحق الكشف عن ما في بطنها من كنوز مخفية، يضاعف من حجم الخسارة التاريخية والتراثية المتوقعة.

خلال خمس سنوات فقد الكثير من المقابر التراثية والتاريخية، التي تتوزع قيمتها بين من دفن فيها أي قيمة أدبية، وقيمته الفنية لأنها بنيت بطراز معماري مميز ونادر، وما تضمه من شواهد قبور فريدة الطراز تتجلى فيها آيات الجمال، فضلا عن القيمة التاريخية للنسيج العمراني لجبانات القاهرة.

***

فمن كان يظن أن قبر محمود سامي البارودي سيهدم، أو قبة محمود باشا الفلكي فريدة الطراز بتكوينها البديع مع مئذنة الجامع المجاور لها ستختفي من الوجود، وأن قبر أحمد شوقي أمير الشعراء، قاب قوسين أو أدنى من أن يبتلعه العدم، وأن تمتد يد الهدم إلى قبة مستولدة محمد علي باشا الرشيقة، والتي أثار هدمها موجة من ردود فعل واسعة وغاضبة لكن دون تأثير على مخططات الحكومة الرامية لهدم مزيد من المقابر.

إزالة المقابر بدأت في يوليو 2020، بهدم مجموعة من المقابر المطلة على طريق صلاح سالم، وفي قلب ترب الغفير أحد مكونات صحراء المماليك، لإنشاء محور مروري، ومنذ هذه اللحظة أصبحت مقابر القاهرة التاريخية تحت رحمة البلدوزر الحكومي الذي انطلق يدمر بلا رقيب ولا حسيب في جبانات القاهرة التاريخية، بحجة إقامة شبكة جديدة من المحاور المرورية بالإضافة إلى سلسلة من المطاعم والكافيهات والأنشطة الاستهلاكية.

فهكذا يباد تراث مدينة ألفية مثل القاهرة من أجل مشاريع مشكوك في جدواها، وكان يمكن إقامتها دون المساس بهذا التراث الذي لا يعوض، لكن الحكومة اختارت أن تضحي بكل هذا التراث على مذبح التطوير الذي يلتهم تاريخ القاهرة بلا هوادة ولا رحمة.

اقرأ أيضا:

تجاهل التراث: إزالة مدفن محمود سامي البارودي تثير التساؤلات

مقبرة محمود سامي البارودي وقبة ومسجد «الفلكي» على قوائم الهدم خلال أيام

قاهرة «نعمات أحمد فؤاد»: المدينة المعذبة (2-2)

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.