«إبراهيم طايع»: الصحافة عملت على «شيطنة» قضية المقابر!

قادته الصدفة للتعلق بالقرافة. خلال تردده المستمر على مدينة القاهرة، كان دائمًا ما ينظر إليها بعين السائح، يتنقل بين وسط البلد وكوبري قصر النيل وميدان التحرير، كغيره من أبناء الجنوب القادمين إلى العاصمة، بحكم موقعها القريب من «محطة مصر». لكن رحلة واحدة غيرت كل شيء. في إحدى رحلاته من سوهاج إلى القاهرة، وبدلًا من اختياره للوجهات المألوفة، قرر أن تكون وجهته نحو منطقة الإمام الشافعي. ما إن وطأت قدماه المنطقة، حتى أصبح أحد دراويشها، ممن فتنوا بسحر المدينة القديمة. لم يرد أن يغادرها أبدًا، ولم يفوت بعدها أي مناسبة أو فرصة لزيارة المدينة، إلا وكانت منطقة القرافة حاضرة على رأس أولوياته.

بعد أن تعرف «إبراهيم طايع» -أحد أبرز المهتمين بتوثيق مقابر القاهرة خلال السنوات الأخيرة-  على كنوز هذه المقابر، جاءته فرصة للسفر إلى الخليج بحثًا عن الرزق، لكن ظلت القاهرة حاضرة معه رغم غيابه. وبمجرد العودة، كانت القرافة وجهته الأولى، فقد أراد إعادة اكتشافها، وكأنها متعته الوحيدة في الحياة. يقول: «تعرفت وقتها على كنوز مدينة الموتى بشكل كامل. لم تكن مجرد مقابر، بل كتاب مفتوح داخله تاريخ مصر القديم والمعاصر؛ لذلك بدأت عمليات التوثيق والتصوير لشواهد القبور الموجودة داخل القرافة. (يضحك) عندما تزوجت في عام 2015، قررت استغلال فترة الإجازة الطويلة، وخصصت جزءا من وقتي لاكتشاف القرافة».

حكايات لا تتكرر

عقب عودته إلى مصر، قرر إبراهيم الاستقرار في القاهرة، رغبة منه في توثيق القرافة. هذه الرغبة تزامنت مع بدء الحكومة هدم أجزاء كبيرة من مقابر القاهرة التاريخية. يقول: «يوميًا أقوم بالنزول لمنطقة القرافة. اهتمامي بالمنطقة دون غيرها سببه أنني أرتاح في التعامل مع أهالي القرافة وناسها. هؤلاء نماذج نادرة، طيبون، ومرحبون، ولم تلوثهم الحياة بعد. الحياة هناك بسيطة، بمجرد أن أمر بالقرب من أحد الأحواش وأطلب من سكانه الدخول لمشاهدة شواهد القبور، أجدهم مرحبين ويقدمون لي كل ما يمتلكونه بدون أي تكلف. هذه البساطة جعلتني أتعلق بالمنطقة، لأنها ليست مجرد حجارة، بل حياة كاملة. ومع مرور الوقت، أدركت أن واجبي هو تعريف الناس بقيمة ما نمتلكه من تراث منسي، وهي أمور لم أجدها في مناطق أثرية أخرى. حكايات المقابر مختلفة، وهي لا تتكرر. كل حكاية، إذا تتبعنا خيوطها، سنجد فيها حكايات وقصص لا مثيل لها».

شيطنة قضية المقابر

يرى إبراهيم طايع أن الصحافة المصرية عملت في السنوات الأخيرة على شيطنة قضية المقابر، من خلال إلصاق التهم بسكانها، وتقديمهم كمجموعة من البلطجية محترفي تجارة المخدرات. «هذه الأمور لم تكن حقيقية، ومن الظلم نعتهم بهذه الصفات، لأنهم عكس ذلك. فهم أكثر الناس شهامة ورغبة في الحفاظ على تراثهم المحلي. وكان الأولى أن يتم الاستثمار فيهم، كونهم نقطة انطلاق لأي عملية إعادة تأهيل للمواقع الأثرية، لكن على الأرض، فقد تم طردهم وهدم المقابر التي كانوا يقومون برعايتها أبًا عن جد».

ويكمل: خلال 12 عامًا، وهي المدة التي قضيتها في التعرف على مقابر التاريخية، تغيرت وتبدلت بشكل كامل. لم تعد مدينة الموتى كما كانت في المرة الأولى التي شاهدتها فيها. لقد تبدلت، ودمر جزء كبير منها منذ عام 2021. منطقة الإمام الشافعي، مثلًا، فقدت ثلث ما كان داخلها من مقابر خلال السنوات القليلة الماضية. القرافة استُبيحت بالكامل، وللأسف، فإن عمليات الإزالة العشوائية دفعت اللصوص لسرقة شواهد القبور، والتراكيب الرخامية، والكنوز الموجودة داخلها.

كنا نذهب في المساء للمقابر، وعندما نعود مرة أخرى في الصباح، نجد أنها جردت تمامًا من كافة النقوش والزخارف التي كانت تزينها. العملية كانت ممنهجة. فما إن يعرف اللصوص أن الحكومة ستبدأ الهدم، حتى يبدأوا في خلع الأبواب الخشبية وكل ما بداخلها. هذه أمور حدثت، ولم يقم أحد بحماية هذا التراث. تخلت وزارة الآثار عن دورها الحقيقي في الحفاظ على المقابر، والدولة من جانبها سمحت بالهدم؛ لذلك لم نجد أحدًا نستطيع أن نستنجد به في الدفاع عن قضيتنا.

إحباط كبير

مؤخرًا ابتعد «طايع» نوعًا ما عن التردد على الجبانات، خاصة تلك المقرر هدمها، تجنبًا للمشاكل. يقول: «أحيانًا نعجز عن التصوير أو النزول للموقع، لكننا حريصون على الكتابة عما يحدث داخلها. نحن في سباق مع الزمن لتوثيق القرافة، فهي تتبدل يوميًا؛ لذا نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. بدأت توثيقها بشكل موسع في عام 2021؛ أي بالتوازي مع بدء عمليات الهدم داخل القاهرة. وقد لعبت المجهودات الفردية والمبادرات دورًا كبيرًا في توثيق تراث الجبانات، لكن المجهودات الفردية كانت هي الأهم. «حاولنا الحفاظ على الجبانات، لكن الدولة كان لها رأي آخر. لم نعد نستطيع توثيق المقابر من خلال الكاميرا. فقد تم منعنا من استكمال مهمتنا، وهذه الأمور سببت لنا إحباطًا كبيرًا».

رفقة د. مصطفى الصادق
رفقة د. مصطفى الصادق
توثيق مقابر المجاورين

يرى طايع أنه من الضروري خلال الفترة المقبلة التركيز على توثيق مقابر المجاورين. «صحيح أن هذه المقابر لا تحمل الكثير من الطرز المعمارية الموجودة في مقابر الإمام الشافعي، لكنها تضم داخلها مقابر المتصوفة والعلماء. والخوف كل الخوف أن تمتد إليها معاول الهدم. فالتعامل مع المقابر يجب أن يتم وفقًا لسياق أوسع. المقابر هي مدينة للأحياء قبل أن تكون للأموات، والتربية والسكان مغلوبون على أمرهم. لم يكن بأيديهم فعل أي شيء للوقوف ضد معاول الهدم، وعلى الجانب الآخر، لم توفر لهم الحكومة بديلًا، وقطعت عيشهم، لأن التُربية كانوا يتعايشون من الاعتناء بالمقابر، لذلك كان من الظلم ترحيلهم بهذه الطريقة».

مشهد لن ينسى

يعتبر إبراهيم طايع أن أسوأ يوم مرَّ عليه في حياته هو اليوم الذي هدمت فيه قبة الأمير إبراهيم حليم. يتذكر الواقعة ويقول: «أثناء مروري بالمنطقة، وجدت مجموعة من المهندسين يقومون بأعمال حفر معتادة داخل منطقة المقابر، لكن فجأة بدت الأرض وكأنها تنفجر كبئر مياه. في حقيقة، الأمر لم ينتج عن الحفر مياه، بل وجدنا عشرات ومئات العظام المتطايرة، التي تعود لإحدى المقابر التي تم هدمها في المنطقة. وعلى ما يبدو، أن بلدوزر الهدم حفر داخل إحدى «العظامات». كان مشهدًا لا يمكن أبدًا وصفه. بدأنا نلملم ما تبقى من عظام، في محاولة منا لحفظ كرامة هؤلاء الموتى. هذا المشهد سيظل عالقًا في ذاكرتي ما حييت».

اقرأ أيضا:

تجاهلوا الخطابات الرسمية وعطلوا اللجان| بالمستندات.. الآثار ترفض تسجيل مقابر «باب النصر»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.