أيديولوجية أكتوبر البصرية: مقاتلون ونجوم في المقدمة وصور منسية

تتلخص حرب أكتوبر عند البعض في عبور القناة وفي عبور الكوبري المؤقت أو الكباري المؤقتة التي تحركت فوقها الدبابات المصرية عابرة القناة. ثم تشاء المصادفة أن يُطلَقَ اسم “أكتوبر” على أهم كوبري في العاصمة المصرية، تخليداً للنصر. اليوم يبدو وكأن أجيالاً كاملة من المصريين -ومعظمهم قد وُلِدَ بعد انتهاء حرب 6 أكتوبر 1973- لا يذكرون من أكتوبر إلا أفلام حرب أكتوبر وبعض المنشآت التي تحمل اسم أكتوبر، مثل مدينة السادس من أكتوبر وكوبري أكتوبر. وليست هذه مجرد طرفة، بل هي تذكرة بأن التاريخ هو مجال تلمس ما هو غير موجود عياناً، لأنه ماض وانقضى، بالاستعانة بما هو موجود، مثل الوثائق أو الأفلام أو المنشآت.

الصور التي بقيت لنا

بعد مرور خمسين عاماً على نصر أكتوبر، وبالنظر إلى أن أكثر من خمسين بالمائة من المصريين قد ولدوا بعد انتهاء الحرب، أود أن أتأمل بعضاً مما بقي لنا من تمثلات أو ذكريات بصرية عن حرب أكتوبر من زاوية التاريخ الثقافي. حرب أكتوبر ليست فقط علامة فارقة ونصراً حاسماً في تاريخنا الحديث، بل هي كانت منذ اندلاعهاً ركناً من أركان خطابات الدولة عن نفسها. حرب أكتوبر حدث فائق وفارق استمر لحوالي أربعة عقود فاعلاً كحجة أساسية وحجر أساسٍ في بناء خطاب الشرعية الحاكمة. وارتباط أكتوبر بخطاب يرسخ شرعية السلطة ويدعم ممارسة الدولة لها هو المقصود ببساطة بعبارة: “أيديولوجية أكتوبر”. والفكر الذي يحكم خطاب السلطة متجسداً في منتجات ثقافية هو ما أعنيه بالأيديولوجية.

فيما يلي، أتتبع الأيديولوجية من خلال تجلياتها في السينما والصور الفوتوغرافية وبيانات الإذاعة والتلفزيون. لأن معظم المصريين لم يشهدوا الحرب لأنهم لم يكونوا مجندين وقتها، أو لم يكونوا قد ولدوا بعد، فسبيلهم إلى “تذكر” الحرب هو ما بأيدينا من آثار تدل على الحرب وتشير إليها وتعيد إنتاج صور لها. لذلك أقترح تأمل بعض تصورات الناس عن حرب أكتوبر في عالم المنتجات البصرية، لأن هذه المنتجات -مثل الأفلام والصور الفوتوغرافية- هي الأثر المادي المرئي الوحيد المتاح لاستعادة الحرب بعد انقضائها.

***

خلاصة فكرتي هو أن تصور حرب أكتوبر بصرياً -لا سيما في السينما- ارتكز على عملية معقدة تسلط الضوء على وجه القائد، أو “وجه” العلم” بوصفهما رمزين للبلاد، وتخفي، أو تهمش وجه المقاتل البسيط الذي أمسك السلاح بيده وحارب على الأرض، اللهم إلا في حالة السينما الروائية التي تسلط الضوء على وجه الممثل الذي يلعب دور المقاتل، وفي مقابل السينما الوثائقية التي لا تصور وجه المقاتل من قريب، بل تصوره ككائن جماعي تلتقط صورته من بعيد، باستثناء بعض الأفلام المميزة التي أبرزت وجوه الناس المحاربة. وتأثير هذه العملية هو إعلاء شأن فكرة الوطن المجرد المتمثلة في العلم، وتعظيم رمزية القائد السياسي أو العسكري بحيث يصبح سلوكه هو الموضوع الأساسي للتاريخ، وجسده هو تجلٍ لفكرة المجد الوطني.

ارتبطت هذه العملية بعملية أخرى، ربطت نصر أكتوبر بتراث المسلمين الأوائل وقدمت حرب أكتوبر وكأنها غزوة بدر الجديدة مقارنة ببدر القديمة (أو بدر الكبرى). هذه العملية البلاغية – التي أدت إلى ازدواج تسمية الحرب: بين السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان- قد قامت بتسليط الضوء على المقاتل المسلم، في مقابل تهميش دور المقاتلين المسيحيين على الشاشة، فلا نكاد نرى شخصية مقاتل مسيحي في أفلام حرب أكتوبر بين عام 1974، سنة عرض “الرصاصة لا تزال في جيبي” من إخراج حسام الدين مصطفى وعام 1991، حين ظهرت شخصية المقاتل المسيحي التي أداها بيير سيوفي في “المواطن مصري” من إخراج صلاح أبو سيف.

أكتوبر في الإذاعة

إن المتتبع لبيانات القوات المسلحة التي أعلنت بداية الحرب والمتاحة على منصة يوتوب، لابد أن يلاحظ أنها كانت تشير إلى الأحداث بلغة محايدة واحترافية عسكرياً وإعلامياً. ثم تغيرت روح الصياغة لتفسح مساحة عاطفية ولتستخدم إحالات دينية عند البيان التاسع. أذيع البيان حوالي منتصف الليل بين 6 و 7 أكتوبر، ووورد في نصه للمرة الأولى في بيانات أكتوبر العسكرية عبارة “العاشر من رمضان”. قدم البيان تلخيصاً لأحداث اليوم ومثل هيكل الرواية المصرية الرسمية التي استمرت إلى اليوم حول الحرب. يحدد البيان في بدايته لحظة بدء الحرب في عبارة “حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم العاشر من رمضان 1393 الموافق 6 أكتوبر 1973”. أي أن لحظة ميلاد الرواية المتكاملة في هيكلها الرسمي قد دمغت بالتاريخ الهجري.

حمل الخطاب الإعلامي عن الحرب إشارة ضمنية إلى التوازي بين تاريخ نشأة دولة الإسلام وتاريخ ميلاد النظام الذي صاغه الرئيس السادات بعد أكتوبر. فالاسم الذي يشتهر بوصفه اسم خطة الهجوم التي طبقتها القوات المسلحة في 6 أكتوبر 1973 هو “الخطة بدر”، وفي عدة حوارات وأفلام وثائقية صرح بعض الضباط المشاركين في الحرب أن كلمة السر التي تعلن بدء العمليات العسكرية كانت “بدر”. بدر وأكتوبر حربان في الصحراء، في شرق البحر الأحمر، في بادية الحجاز وامتدادها في بادية سيناء، وكلتاهما حرب أسست لترسيخ دولة جديدة، وكلتاهما انتصرت فيهما فئة صغيرة على فئة كبيرة بإذن الله.

لا تبدو هناك مشكلة في إضفاء تلك الصبغة الإسلامية على الحرب، لكنها تبدو اليوم جزءًا من خطاب صار يقدم الهوية الدينية للمصريين على الهوية الوطنية بين 1973 و2011. حتى إن الإعلام لم يسلط الضوء على مساهمة المقاتلين والضباط المسيحيين في المعارك إلا بعد عقود من وقوع الحرب. على سبيل المثال، لم يفسح الإعلام مساحة لسماع شهادة اللواء باقي زكي وتسليط الضوء على دوره في تصميم خطة إزالة الساتر الترابي الإسرائيلي أثناء الحرب، إلا بعد انتعاش الخطاب الوطني بعد مرحلة 2011 – 2013.

تصور أكتوبر (التصوير)

لا نعرف كثيراً وجوه من رفعوا العلم أو قاموا بالعبور عام 1973 لندرة الصور التي وثقت اللحظة. وبصفة عامة هناك ندرة في بورتريهات المقاتلين المشاركين في الحرب، باستثناء بعض البورتريهات الشهيرة، مثل الصورة التي التقطها المصور الحربي شوقي مصطفى لمقاتل يفتح ذراعيه جذلاً وتظهر القناة والجسور المؤقتة في خلفيتها والتي اشتهرت باسم “فرحة مصر”، وكانت أصلاً لطابع أصدرته هيئة البريد لتخليد ذكرى حرب أكتوبر. (الشكر للأستاذة رغد صفوت والدكتور أكمل صفوت اللذين لفتا نظري لأن تلك الصورة الشهيرة بعدسة الفنان شوقي مصطفى).

هناك صورة أخرى شهيرة تصور بضعة جنود يمسكون بالساري والعلم يخفق على الضفة الشرقية للقناة، بعد ساعات قليلة من العبور. تلك صورة محملة بالدلالات لأن المشاهد يرى أجساد الجنود وزيهم العسكري المميز، لكن لا يتبين ملامحهم. كأنها صورة للعلم أكثر منها لجنود بفرجيتهم وذاتيهم، وكأنهم تعبير عن فكرة الجندي كجسد جماعي أو كفكرة رمزية. بصفة عامة، أشهر صور حرب أكتوبر هي صور للعلم أكثر منها صور للجنود، وهذا قدر الآلاف ممن شاركوا في المعركة.

ثم إن تلك الصورة الشهيرة تقتبس صورة أكثر شهرة على مستوى العالم، التقطها المصور الحربي روزنتال من وكالة الأسوشيتد برس للقوات الأمريكية لحظة انتصارها في معركة أيوجيما ضد القوات اليابانية في الشهور الأخيرة من الحرب العالمية الثانية عام 1945. فالتشابه بين الصورة المصرية والصورة الأمريكية من حيث التكوين ومركزية العلم وموقع الكاميرا لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة. كأن لحظة فارقة في توثيق وتسمية حرب 1973 بصرياً لابد أن تمر عبر آلية التحديث الكبرى في العالم العربي: الترجمة والاقتباس. اقتبس المصور النصر الأمريكي على اليابان ليصوغ بصريا انتصار المصريين على الإسرائيليين. المفارقة هي أن الأمريكان في 1945 كانوا محتلين لجزيرة يابانية، بينما كان المصريون في 1973 محررين لأراضيهم.

***

في التراث السمعي البصري ل 1973، نرى بورتريهات القادة السياسيين والعسكريين من أبطال أكتوبر، مثل السادات وإسماعيل والشاذلي والجمسي، لكن تندر بورتريهات المقاتلين باستثناء صور عبد العاطي صائد الدبابات التي ظهرت في صحف الفترة، واللقطات المقربة للجنود الذين سجل معهم شادي عبد السلام فيلمه الوثائقي البديع “جيوش الشمس”، والذي كان غريباً في عصره لاعتماده على اللقطات شديدة القرب من وجوه المقاتلين البسطاء وأصواتهم وحكيهم، دون تعليق مذيع ذي صوت عميق من خارج الكادر، وهو نمط التعليق السائد في الأفلام الوثائقية حتى وقتها. لكن حتى شادي عبد السلام يسلب المقاتلين شيئاً من فرديتهم، لأن عنوان فيلمه يحيلهم إلى الاسم الذي كان يطلق في مصر القديمة على جيش فرعون، فتصير هويتهم مرتبطة بكونهم في خدمة فرعون، لا بذاتهم المستقلة، فرداً فرداً.

أيديولوجية سينما أكتوبر

أفلام أكتوبر تحمل خطابا ربما لخصه عنوان مسرحية جيرودو الشهيرة: “حرب طروادة لن تقوم”. استعان المنظر جان بودريار في النسخة/المسخة بالعنوان نفسه في دراسته المعنونة: “حرب الخليج لن تقوم” وأوضح أن إخفاء فظائع هجوم أمريكا على العراق قد صاحبه إخفاء لآثار تلك الحرب البصرية، حتى تحولت لنقاط مضيئة وللوحات اسكتشية. في الحالة المصرية، نعرف أن حرب أكتوبر مثل حرب طروادة قد قامت. ونرى صورا بعضها توثيقي للحرب على الشاشة، ومع ذلك فهي لن تقوم في السينما. المقصود أن الحرب غالباً ما تكون مجرد ظرف درامي لا مركزاً للأحداث، إلا في بعض الاستثناءات، مثلما في “الرصاصة لا تزال في جيبي” الذي يظل في رأيي تحفة سينمائية بديعة وواحداً من أفضل الأفلام التي صورت الحرب في تاريخ السينما المصرية.

لكن بصفة عامة، لا تصور السينما المصرية الحروب بشكل واضح ومفصل، حتى قبل 1973، اللهم إلا في بعض الاستثناءات مثل “بورسعيد”. الحرب دائما مجرد سبب ليفارق الحبيب حبيبته في الأفلام المصرية سواء كانت حرب 1948 أو 1956 ولا نكاد نرى تصويراً لحرب 1967 إلا بعد نصر أكتوبر 1973 بسنين طويلة. ويستمر الحال في تصوير حرب 1973، فهي السبب الذي يجعل محمود ياسين يبذر بذرته في بطن نجلاء فتحي، قبل أن يرحل بعيداً عنها في فيلم “بدور”، وهي السبب الذي يحدث جفوة بين الزوجين محمود عبد العزيز ونجوى إبراهيم في فيلم “حتى آخر العمر”.

***

لعلها مصادفة، لكن وجه محمود ياسين بالأبيض والأسود كان وجه واحد ممن ساروا في الجنازة/المظاهرة ضد طاغية القرية في “شيء من الخوف”، ثم وجه واحد ممن استبسلوا في الدفاع عن الممر في “أغنية على الممر”. وعندما تحول وجه محمود ياسين إلى الألوان، صار الوجه الأساس للمقاتل كجندي وكضابط ينتصر في أكتوبر. شاء قدر السوق السينمائي أن يكون وجه محمود ياسين هو وجه المقاتل في أكتوبر بعد أن كان وجها من وجوه المقاتل في 1967 في “أغنية على الممر” من إخراج على عبد الخالق، عام 1972.

***

قام محمود ياسين بدور البطولة في أفلام: “الرصاصة لا تزال في جيبي”، إخراج حسام الدين مصطفى؛ و”بدور”، من إخراج نادر جلال؛ و “الوفاء العظيم ” إخراج حلمي رفلة، وكلها ظهرت عام 1974. وكذلك كان محمود ياسين من أبطال فيلم غالب شعث الذي ظهرت فيه بعض مشاهد للحرب: “الظلال على الجانب الآخر”، وقد عرض أيضاً عام 1974. إذاً لا أبالغ إن قلت إن وجه محمود ياسين على الشاشة هو المعادل المتخيل لوجه المقاتل المصري في 1973.

يبدأ فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” بمحمود ياسين ينزل من مركب ويسير على الساحل وبعد حوالي ثلاث دقائق يصل إلى مقر القيادة العسكرية. تقترب الكاميرا بحركة زوم من وجه محمود ياسين وهو يتطلع بشوق، ثم نرى لقطة جامعة للعلم المصري مرفرفاً في حركة زوم أيضاً، وكأننا في نفس موقع محمود ياسين متطلعا للعلم ومستئنساً به. يبدو “الرصاصة لا تزال في جيبي” فيلماً عن التساوق والتوازي والتبادل بين وجه الجندي ووجه العلم. وفي الثواني الأولى من بداية الفيلم، في لقطة مقربة، يخرج محمود ياسين من جيب سترته رصاصة. آليات تصوير العناصر الهامة بلقطات مقربة تربط في ذهن المشاهد بين وجه المقاتل ووجه العلم ووجه الرصاصة. كأن هوية شخصية محمد التي يلعبها محمود ياسين مدموغة بكونه مقاتلاً، وعلامته الرصاصة، وبكونه في خدمة الوطن، وعلامته العلم.

في مقابل التركيز على وجه ياسين بلقطات قريبة، في حوالي الدقيقة السادسة يخفي ياسين وجهه حين تنتابه نوبة بسبب سماعه صوت طائرة مروحية في الجو. نشط صوت الطائرة ذكريات صدمته حين تعرضت كتيبته لقصف من طائرات مروحية إسرائيلية. في حالة القرب الشديد من الوجه وفي حالة إخفائه، تخلق الكاميرا حالة عاطفية شديدة من الألم الذي يضفي بعداً إنسانياً على شخصية المقاتل. فهو ليس مجرد بطل يحرر الأرض، لكنه بشر يتألم ويفرح، ينكسر وينتصب.

***

بشكل عام، عبر تاريخ السينما المصرية، تلخصت آلية تصوير حرب أكتوبر على الشاشة في الإشارة للحرب دون التعمق في تصويرها، باستثناء بعض الأفلام التي تمعنت في تقديم الحرب، مثل “العمر لحظة” و”الرصاصة لا تزال في جيبي”. واعتمدت التركيز على لقطات لا تقدم فردية المقاتل وإنما فكرة العلم وفكرة المقاتل الجماعي، باستثناء بعض الأفلام الروائية التي كانت تبرز تفرد المقاتل -وغالبا ما كان محمود ياسين- عن طريق تكثيف اللقطات المقربة لوجهه، مثل “الرصاصة لا تزال في جيبي”.

اقرا أيضا:

«أبطال من مصر» لأحمد راشد: كيف تصنع فيلما عن نصر أكتوبر؟

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر