تصفح أكبر دليل للفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

أندريه تاركوفسكي .. المخرج المتمرد الباحث عن الروح

هذا كتاب جديد صدر منذ شهرين لمحمود الغيطاني عن دار نشر “بوميلحا” التي أسسها مؤخرا الروائي الإماراتي عبيد بو ملحة. الكتاب عنوانه” أندريه تاركوفسكي رسول السينما” وعنوان فرعي هو” سينما الأحلام والرؤى”. ليس جديدا أن أشير إلى الجهد العظيم الفائق لمحمود الغيطاني في كتبه عن السينما، ومنها “سينما الطريق – نماذج من السينما العربية” و”السينما النظيفة” و”صناعة الصخب” و”سينما المشاعر المنتهية الصلاحية – وونج كار واي” وفلسفة السينما- بيلا تار”. وغيرها. لقد كتبت عن كثير منها. أضف إلى ذلك دراساته الأدبية ومجموعاته القصصية والرواية.

يأتي الكتاب في نفس الرحلة التي يبذل فيها المؤلف جهدا فائقا في بحثه الاجتماعي أو السينمائي. الكتاب في خمسة أبواب أكبرها هو الباب الأول “مرآة النبوءة المتشظية” عن رحلة تاركوفسكي من السينما منذ كان طالبا في معهد عموم روسيا للتصوير السينمائي. كانت نشأته في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي كان يشار إليها باسم ذوبان خروشوف، التي صار فيها المجتمع الروسي أكثر انفتاحا للأفلام والآداب والموسيقى الأجنبية. من هنا كانت نشأته بين أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، والموجة الفرنسية الجديدة، ومخرجين مثل كوروساوا الياباني ولويس بونويل الإسباني وانجمار بيرجمان السويدي وغيرهم. إلا إنه رغم ذلك، لم تكن الرحلة سهلة.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
** **

كان الاتحاد السوفييتي لا يزال به رقابة تمنع أيْ إشارة معاكسة، للتراث الفكري المادي للشيوعية. كان هو على غير ما يتوقع أحد يبحث عن الروح وتجلياتها في السينما، بعيدا عن أيْ دعاية للدولة أو حزبها او جيشها. كان مهموما بالإنسان ووجوده في هذا العالم، وتجليات روحه من خلال الذاكرة والفن. كان مغرما باكتشاف أسلوبية جديد بعيدا عن الأساليب التقليدية في صناعة السينما. ظهر ذلك في فيلمه الأول وهو طالب الذي عنوانه ” القاتل” والذي أخرجه مع زميلته المخرجة اليونانية ماريكا بيكو والمخرج الروسي الكساندر جوردون. كان فيلما في تسعة عشر دقيقة عن قصة لهيمنجواي بنفس العنوان، وكانت هذه أول مرة يتم انتاج فيلم عن أصل غير روسي أو سوفييتي.

ظهرت في الفيلم مشاهد سلبية ولولا  ذوبان خروشوف لم يكن أمامه إلا التوقف أو الرحيل عن البلاد. حدث الرحيل فيما بعد حين ضيقت عليه الرقابة ما يقدمه، فكانت تطلب الحذف أو تؤخر صدور الفيلم لسنوات. حديث عن دراسات لم يكملها في اللغة العربية واهتمامه أكثر ببعثة بحثية للعمل كمنقبا جيولوجيا لمدة عام في مقاطعة كراسنويارسك للبحث عن المعادن وخاصة الألماس. كان ذلك أحد أسباب ميله إلى السينما لتجسيدها، فكتب السيناريو ثم عمل بالإخراج السينمائي. كان صاحب رؤية ذاتية تجعله ينتقد أفلام الخيال العلمي. يقول عنه نعوم كليمان مدير متحف الدولة للسينما في موسكو إنه، تاركوفسكي، وصل في الوقت المناسب بعد أن وصلنا عام 1962 إلى طريق مسدود رغم ذوبان الجليد الذي أحدثه خروشوف.

** **

نمشي بين أرائه في السينما ومفرداتها مثل الموسيقى التصويرية أو المونتاج، وخلافه مع طريقة إيزنشتاين فيه، ومعني الرسالة فهي ليست أراء مباشرة لتمجيد السلطات، لكنها تجليات للروح. كانت الرسالة فيما بعد في أفلامه هي القضايا الأخلاقية التي يثيرها، فهو ينجذب إلى الإنسان الذي يرغب في خدمة قضية أسمي، وغير القادر على المشاركة في الاعتقادات السائدة. الإنسان المؤمن بالصراع مع الشر الكامن في نفوسنا.

كان يعد نفسه من الأنبياء الذين عليهم أداء رسالتهم تجاه البشر، وقيل إنه كان مؤمن بالأرواح حتى إنه شارك في جلسات لتحضيرها. من هنا كان عداء الرقابة السوفيتية له فهو متناقض مع فلسفتها المادية. هكذا كانت أزمته مع السلطة السوفييتية ليست سياسية بل أيديولوجية أعمق، ومن هنا ظهرت الانشغالات الميتافيزيقية في أفلام مثل “أندريه روبليف” و”المرآة” و”المطارد” فعادته السلطات السوفييتية. رحلة مع تجليات هذا العداء كما قلت في الحذف من أفلامه أو تأخير صدورها، أو عرضها في دور عرض هامشية.

** **

فيلمه الروائي الأول “طفولة إيفان” الصادر عام 1962 اكسبه شهرة دولية، فلقد حصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، وأصبح رمزا لحرية التعبير في روسيا. لم يتمكنوا من منعه لكنهم جعلوا الحياة صعبة عليه ليغادر البلاد. كان دائما بلا عمل أو يتقاضى أجرا هزيلا. لم يكن بخروجه متحديا للسلطة بقدر ما كان يبحث عن خصوصيته. فيلم طفولة إيفان لم يحقق هجوم السلطات السوفيتية فقط، لكن أيضا هجوم الشيوعيين الإيطاليين متهمين إياه بتعزيز الفردية الغربية، وهو ما يتعارض مع القيم الشيوعية. اشتعلت بذلك صحيفة ليونيتا الإيطالية، لكن حدث أن جان بول سارتر دخل المعركة مدافعا عن الفيلم. تفاصيل تلك المعارك وكيف كان للفيلم أثره على مخرجين من العالم وعلى تاركوفسكي نفسه. طبعا لم يشمله وحده التنكيل والتعطيل الرسمي، لكن شمل غيره من المخرجين.

تاركوفسكي
تاركوفسكي

كان الحصول على الموافقة على الفيلم من الرقابة عمل شاق. لم تستطع رغم ذلك السلطات السوفيتية منع تاركوفسكى من صناعة المزيد من الأفلام بعد فيلمه الأول ” طفولة إيفان” نظرا لمكانته التي اكتسبها بهذا الفيلم، لكن كما قلنا حولت حياته إلى جحيم. يناقش محمود الغيطاني ذلك كله وبينه النزعة الروحية التي تلبست تاركوفسكي، وما رآه البعض فيها من غطرسة لأنه لا يتواءم مع السائد الرسمي، وبين ذلك قضايا الأساليب السينمائية واختلافه فيها، واستخدامه للوحات الفنية داخل الكادر السينمائي، ليستخرج منها معاني جديدة لم تحملها، وكذلك الكاميرا ودورها باعتبارها كائن حي قادر على تأمل التفاصيل وإحالتها إلى كثير من المعاني. رأيه في الألوان داخل الفيلم، وكيف أن الفيلم الملون ليس أكثر من وسيلة للتحايل التجاري، ففي الأبيض والأسود يفرض اللون نفسه عليك وليس كما في الحياة، وهكذا فلابد أن يلعب المخرج بالألوان واستخدامها بشكل مختلف.

** **

طبعا مقارنات بينه في ذلك وغيره من المخرجين مثل بيلا تار أو إنجمار برجمان وغيرهما، وكيف أن الصورة عنده تنبثق من الحاح شعري له فلسفته العميقة. وفي كل ذلك يبحث عن الكمال الفني المطلق بمفهومه الفلسفي ويقول” الطموح إلى المطلق هو القوة المحركة للجنس البشري، والواقعية في الفن تأتي حين يجاهد الفنان ليعبر عن المثال الأخلاقي، فالواقعية تناضل من أجل الحقيقة، والحقيقة جميلة دائما. الجمالي يتزامن مع الأخلاقي”.

هناك أفلام لم تعارضها السلطات مثل فيلم “سولاريس” الذي أخرجه عام 1972 إذ رأوه شكلا من اشكال السيادة للسينما السوفيتية في مقابل السينما الغربية، فهو الشكل الإنساني المقابل لفيلم ” أوديسا الفضاء” لستانلي كوبريك. تأتي مسألة الفيلم والرواية وكيف وقع الخلاف بينه وبين الكاتب البولندي ستانيسلاف ليم مؤلف رواية “سولاريس” فهو يري للمخرج حرية الرؤية للرواية سينمائيا فهو رب العمل الأوحد. كيف كانت المعركة حامية بينهما تلاسنا فيها كثيرا.

السينما ليست ترفيها لكنها بالتجربة الشعورية التي ينقلها الفيلم للمشاهد ترشده إلى معنى وجوده على ظهر هذا الكوكب. أيْ العودة به إلى انسانيته والاستمتاع بالروحانية. كذلك يناقش مفهوم الزمن عنده والمشهدية التي يبدو ارتباكها لاعتمادها على الذكريات. كيف كان هذا أيضا سببا في زيادة الرقابة على الأفلام فالأمر يتوالى في سيريالية رأوها غير مفهومة. رغم هجرته من الاتحاد السوفييتي الذي لم يصنع داخله غير خمسة أفلام فقط خلال سبعة عشر عاما ما بين 1962-1979 صنع ثلاثة أفلام فقط خارج الاتحاد السوفييتي منها فيلمه الوثائقي الوحيد “رحلة في الزمن” كيف كان التحدي منه للسلطات سببا في أن أفلامه داخل الاتحاد السوفييتي كانت أجمل منها خارجه على غير ما يتوقع أحد.

** **

تأتي الرحلة مع أفلامه في الفصول التالية. يبدأ بفيلم “طفولة إيفان” ويلخصه بمقولة الجحيم النازي بعيون طفل. كان أول أفلامه الروائية الطويلة كما أوضحنا، وكان هو المخرج وكاتب السيناريو، يعتمد فيه على أسلوبيته السينمائية القائمة على الرؤى والأحلام، محطما الشكل الكلاسيكي للسينما السوفييتية. جاء الفيلم عن رواية قصيرة للروائي الروسي فلاديمير بوجمولوف.  سبق في الكتاب الحديث عن الهجوم الماركسي على الفيلم في روسيا أو إيطاليا، فالفيلم ليس مع الحروب ولا يروج لها رغم إنه عن الحرب.

** **

يناقش الغيطاني تكوين الفيلم من بدايته حين يظهر الطفل إيفان يطارد الفراشات وطائر الوقواق ويمرح مع أمه، وهو حلم حرص المخرج على تصويره بإضاءة مشرقة ساطعة. ثم ينقطع فجأة على الواقع الكابوسي الحالي، فنرى إيفان يفيق في مبنى لإحدى طواحين الهواء التي كان مختبئا فيها، وحين يهبط منها نراه يسير بين العديد من الجثث. هو الطفل المكلوم الذي فقد أمه وشقيقته وأباه اثناء الحرب السوفيتية النازية. رغم أن الفيلم عن الحرب إلا أن الحرب كانت على الهامش فلا نرى أحدثا لها، والفيلم يكاد لا يتحرك إلى الأمام بقدر ما يتوقف أمام الأثر الكابوسي لها على الآخرين. كان تاركوفسكي وقتها على وشك بلوغ الثلاثين من العمر تخرج لتوه من معهد جراسيموف الحكومي للتصوير السينمائي، وأكد بالفيلم أهميته كمخرج قادر علي ابتكار اسلوبية جديدة. يأتي فيلم “أندريه روبليف” الذي يسميه الملحمة الروسية.

طبعا لن أقف عند تفاصيل كل فيلم كما فعل الغيطاني وأترك ذلك لكم. يأتي هذا الفيلم الملحمي بين أفلام ملحمية كثيرة في العالم، مثل أفلام “رماد الوقت” للمخرج وونج كار واي من هونج كونج، أو فيلم “شبق” للمخرج الدانماركي لارس فون ترايير أو “تانجو الشيطان” للمجري بيلا تار أو “نهاية العالم الآن” للأميركي فرانسيس فورد كوبولا وغيرها. لكنا هنا مع رحلة إيمانية روحية وجودية ولسنا مع حروب. رحلة لاكتشاف الذات أو تأمل الفقر والبؤس الذي يحيط بالعالم، من خلال رحلة حياة الفنان التشكيلي الروسي أندريه روبليف الذي كان من أبرز فناني عصر النهضة في القرون الوسطى، وأكثرهم موهبة في رسم الأيقونات على جدران الكنائس والكاتدرائيات المسيحية.

** **

وجد تاركوفسكي نفسه أمام تاريخ مجهول للفنان روبليف فراح يتخيل حياته، وما يمكن أن يكون فيها من محن انضجته في النهاية. بالطبع جاء غضب السلطة السوفيتية على الفيلم ورحلته الإيمانية، مما جعل ليونيد بريجنيف الأمين العام للحزب الشيوعي ورئيس للدولة يطلب عرضا خاصا للفيلم ليراه. لكنه خرج من منتصف الفيلم فصار الفيلم ممنوعا من العرض لفترة طويلة، ولم يتم عرضه إلا بعد حذف عشرين دقيقة منه. طبعا لم يتحمل بريجينيف أن يقدم الفيلم شيئا من تاريخ روسيا الوحشي الزاخر بالقتل والمؤامرات على الحكم، والهزيمة أمام التتار زمن أحداث الفيلم وحياة روبليف. لقد تعودوا على تمجيد المواطن الروسي والتغني بالوطنية الروسية.

** **

نأتي إلى الفيلم الثالث ” سولاريس” حول مفهوم الحب والرومانسة. هو رغم ذلك فيلم خيال علمي وهو الفيلم الروائي الطويل الثالث له فيه طلت نزعته الروحية. الخيال العمي هنا شكل من الخارج فقط، بينما الموضوع لا يبتعد عن التأمل العميق في النفس البشرية. هو فيلم عن رواية الكاتب البولندي ستانسيلاف ليم أعاد صياغتها كما يريد هو وكان ذلك كما سبق أن أوضحنا سببا في الخلاف بينهما.

في الفيلم كوكب سولاريس هو كوكب مجهول مُغطى سطحه بالكامل بالماء، وهو عبارة عن نظام دماغي ضخم قادر علي التفكير. بل والنفاذ إلى أذهان العلماء المقيمين على ظهر المحطة الفضائية المتابعة له، ومن ثم تجسيد ما يدور في أذهانهم أمامهم. كوكب سولاريس هو ذكاء متقدم وقادر على قراءة عقول كل من هم في المحطة الفضائية، فيعيد تجسيدهم مرة أخري. إن ملاحظة تاركوفسكي للثورة العلمية حوله في العالم جعلته يذكرنا بالروحانية والتأمل والتواصل الإنساني الذي لا ينفي المشاعر، فالإنسان في حاجة لأخيه وهذا هو المفهوم العميق للحب.

تاركوفسكي
تاركوفسكي

أما فيلم “المرآة”، فتذكرك  أسلوبيته بأسلوبية المخرج الأمريكي كريستوفر نولان وإن اختلفا في المفاهيم أو شكلها الجمالي. فقط ينثال الزمن في الفيلم دون قوام يمكن لنا الإمساك به، بل تتداخل الأزمنة مثل تيار اللاشعور. الفيلم من أكثر الأفلام التصاقا بذاته، فهو ينقل لنا فيه كثيرا من الذكريات. فيلم قائم على التداعي الحر مما قد يربك المشاهد في البداية. إنه يقدم ذاته إلى درجة إننا نسمع صوت أبيه الشاعر أرسيني تاركوفسكي ملقيا لمقاطع شعرية من أشعاره، في مشاهد كثيرة متناسبة مع المشهد الذي أماما، كما استعان بأمه ماريا فيشنياكوفا في الفيلم للتعبير عن الأم “ماشا” حين تقدم بها العمر. أي أنه يريد أن يؤكد على المُشاهد أن الفيلم وأحداثه ملتصقان به التصاقا وثيقا.

** **

نأتي إلى فيلم “المُطارِد” الذي فيه يعبر عن المأزق الوجودي للإيمان كما يراه. كيف يتأمل نفسه قبل تأمله للعالم معبرا عن عذابه في البحث عن يقين إيماني. الشعور بافتقاد الإيمان يؤدي إلى انقسام ذاتي وعذاب نفسي كأنه يتقلب على الجمر. هو في حالة صراع نفسي لا ينتهي مع المادي مقابل المعنوي يطارد إيمانه بإعادة تمثيل العالم سينمائيا. المُشاهد الذي يدخل عالم تاركوفسكي يكون كمن دخل آلة الزمن انتقل بها إلى عالم مغاير لا علاقة له بالعالم حوله. فيلم المُطارِد يعتمد على رواية بعنوان “نزهة على جانب الطريق” للأخوين أركادي وبوريس ستروجاتسكي الصادرة عام 1972.

بالطبع لم يلتزم بها كاملا. عنوان الفيلم يعبر عن رغبته في توصيل المعنى إلينا من إنه يطارِد إيمانه أو يقينه. يفتتح الفيلم بمشهد على بار باللونين الحياديين الأبيض والأسود، في إيحاء منه بالبؤس النفسي ومعاناة شخصيات فيلمه. ونري البروفيسور يدخل البار الفارغ تماما إلا منه ويجلس متناولا قهوته. سرعان ما تقرأ مع تترات الفيلم عبارات مثل” ماذا كان ذلك. نيزكا؟ زيارة مواطنين من الهاوية الكونية؟ وغيرها، يهيئ بها المشاهد للدخول إلى عالمه الفيلمي. إنه من أكثر أفلامه ازدحاما بالأسئلة الفلسفية، لكن يمثل المرحلة الأنضج في التأمل داخل ذاته.

** **

أما فيلم “الحنين” أو نوستالجيا. مات تاركوفسكي بسرطان الرئة في باريس عام 1986. في منفاه الاختياري كان يعيش في سجن ذكرياته لعالمه الروسي. في هذا الفيلم يظهر ذلك جليا، فالرؤي والأحلام كأسلوبية بدأ بها فيلمه “طفولة إيفان” تستحوذ على الفيلم بالكامل. هو يبث من خلال أفلامه شيئا من سيرته الذاتية وحياته ومعاناته، لكن هنا يكاد يقدم ذاته بشكل كامل. هنا يتابع رحلة الكاتب الروسي أندريه جورتشاكوف الذي ترك روسيا الي إيطاليا للبحث عن الملحن الروسي بافل سوفنوفسكي الذي كان يعيش في القرن الثامن عشر في إيطاليا، والذي انتحر عند عودته الي روسيا. إن جورتشاكوف هو معادل لتاركوفسكي نفسه، بل أسقط تاركوفسكي حالة الانقسام التي يعانيها عليه وعلى شخصيات الفيلم مثل سوفنوفسكي الذي انتحر، والذي يذكرك بقول تاركوفسكي عام 1984 بانه لن يعود الي روسيا أبدا.

** **

ثم يأتي فيلم “القربان” كرسالة نبي إلى السماء. كان هذا فيلمه الروائي الطويل الأخير. لمعاناته من سرطان الرئة لم يشاهد العرض الأول للفيلم في مهرجان كان إذ كان نزيلا بالمستشفى. كان هناك إحساس بأنه سيفارق العالم جعل الفيلم مزدحما برموزه ورؤاه وأحلامه السيريالية الرمزية الدينية، راغبا في تحذير العالم من الهوية المادية التي ستؤدي به إلى الدمار الكامل. عنوان الفيلم يتناسب مع المفهوم الإيماني المسيحي. يمكن ترجمة عنوان الفيلم: The Sacrifice بالتضحية، لكن القربان أقرب لمفهوم الفيلم.

نلاحظ في تترات الفيلم أن خلفها لوحة تشكيلية هي سجود الملوك الثلاثة أو عبادة المجوس لليوناردو دافنشي، حيث أحد الملوك في وضعية الركوع أمام العذراء التي تحمل ابنها المسيح، متوسلا إليها طالبا الرحمة. وهي اللوحة التي تفسر مفهوم الفيلم بشكل أعمق. الفيلم مزدحم بكثير من الرموز الدينية وهو بمثابة رسالة تاركوفسكي الأخيرة إلى العالم الغارق في ماديته وشروره. فيلم عابر للزمن رغم أن صدوره كان عام 1986. ينتهي الباب الثاني عن أفلامه الروائية، ويأتي الباب الثالث عن أفلامه الروائية القصيرة التي أخرجها للتليفزيون السوفييتي مثل ” لا إجازة اليوم” ثم يأتي الباب الرابع عن أفلامه التسجيلية مثل “رحلة في الزمن” ثم الباب الخامس والأخير عن افلام روائية قصيرة. ينتهي الكتاب بعد رحلة رائعة مع مخرج غائب عنا في العالم العربي بذل فيها محمود الغيطاني كعادته جهدا بحثيا رائعا يستحق كل تقدير.

اقرا أيضا:

المدينة بين الواقع والسينما

«الأصولية» وما حدث في العمران

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.