«أندرو سايمون»: المصريون صنعوا ثقافاتهم الشعبية بالكاسيت.. وهجوم المهرجانات بدأ مع عدوية

حين تتحدث الشرائط، يصمت التاريخ الرسمي، من هذه الفكرة، فتح أندرو سايمون بوابة مختلفة لفهم الثقافة الشعبية في مصر. ليست كل القصص تُروى في الكتب الرسمية، ولا كل الأصوات تُلتقطها الميكروفونات. في إعلام الجماهير، أنصت سايمون لهمسات شرائط الكاسيت، لما خبأته الحواري والأسواق والأصوات المنبعثة من السيارات، ولتاريخٍ صعد من القاع، متمردًا على التصنيفات. هذا ليس مجرد كتاب عن وسيلة تسجيل، بل عن لحظة مفصلية تغيرت فيها اللغة والذوق والسلطة. في هذا الحوار، نلتقي المؤلف الذي رأى في “الصوت الشعبي” مفتاحًا لفهم مصر بأعين جديدة.
-
لماذا اخترت ظاهرة الكاسيت تحديدًا لتكون مدخلك لفهم تحولات المجتمع المصري؟
لم أنوٍ يومًا أن أكتب عن تاريخ الكاسيت في مصر، جاءت الفكرة صدفة. تعود بدايتها إلى ثورة يناير 2011. كنت أدرس العربية في الجامعة الأمريكية بوسط القاهرة. وهناك، في تلك الأيام التي سبقت سقوط مبارك، بدأت أفهم لأول مرة قوة الصوت. وأثر الإعلام، والسياسة الخفية التي تسكن الثقافة الشعبية.
وبعد أن أنهيت منحة دراسية مع مركز (CASA)، عدت إلى أمريكا والتحقت ببرنامج دكتوراه في جامعة كورنيل. كنت متحمسًا لاكتشاف التاريخ الثقافي لمصر. فبدأت أتعمق في أنواع معينة من الموسيقى، وفي سير بعض الفنانين، والتيارات الدينية التي شكلت الوعي الجمعي. وكلما غصت أكثر، وجدت الكاسيت حاضرًا في قلب المشهد.
***
ومن هنا بدأت رحلتي في كتابة تاريخ هذا الشريط الصغير. لكن الطريق لم تكن كما توقعت. أثناء قراءتي لأعداد قديمة من مجلتي روزاليوسف وآخر ساعة، لفت نظري كيف أن الكاسيت كان يظهر في أماكن غير متوقعة: في إعلانات البيوت الحديثة، الكاريكاتيرات، تقارير صحفية عن التهريب، وحتى في حكايات يومية عن نجوم كرة القدم.
هذه الاكتشافات غيّرت وجهة الكتاب. لم أعد أكتب عن جهاز صوت فقط، بل عن مصر نفسها، في زمن كانت تتغير فيه ملامحها بسرعة. ومن هذه الرحلة خرج كتابي: “إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر”.
-
بدر الرفاعي من الأسماء المهمة جدًا في الترجمة بمصر والوطن العربي. كيف كانت تجربتك معه؟ وهل حافظ على روح النص الأصلي؟
سعدت كثيرًا بالعمل مع بدر الرفاعي، وهو الآن صديق مقرب. من البداية، شعرت بالامتنان لاهتمامه بالقصة، ومع مرور الوقت أعجبت بإخلاصه في نقل روح الكتاب، وليس فقط ترجمته بالكلمات.
منذ ما يزيد على عشر سنوات، كنت أحلم بأن يترجم إلى العربية. تمنيت أن تصل هذه القصة إلى القراء في مصر أولًا، ثم إلى كل من يقرأ بالعربية في أي مكان. كنت حريصًا أن يكون الكتاب بسيطًا وممتعًا، يقرأه من يحب الموسيقى، أو من عاش زمن الكاسيت، أو من يريد أن يرى جانبًا مختلفًا من تاريخ مصر.
وقد عاش بدر تجربة الكاسيت، وكان قريبًا من العالم الذي يتحدث عنه الكتاب، ولهذا كان التعاون معه مهمًا ومميزًا بالنسبة لي. فالعمل مع شخص عاش التجربة التي تكتب عنها يعطي للكتاب طابعًا مختلفًا.
وأحب أن أضيف أن بدر، إلى جانب ترجمته لكتاب “إعلام الجماهير”، نشر هذا العام سيرته الذاتية بعنوان “حنين إلى الدائرة المغلقة”. لم أتمكن بعد من قراءة الكتاب، لكنني متحمس لاقتنائه عندما أزور القاهرة هذا الصيف. أود أن أتعرف أكثر على قصته هو، بعد أن تعرّف هو على جزء من قصتي من خلال ترجمته لهذا الكتاب.
-
ما أول أغنية سمعتها في مصر؟ وهل لديك تجربة خاصة مع شريط كاسيت؟
كانت زيارتي الأولى لمصر في صيف 2007، وكانت بداية سلسلة من الرحلات التي غيّرت حياتي. لا أتذكر تحديدًا أول أغنية سمعتها عند وصولي، لكن من المرجح جدًا أن تكون لعمرو دياب، فقد كان صوته حاضرًا في كل زاوية، ووجهه يملأ لافتات الإعلانات، وأغانيه تنبعث من السيارات والمحلات وحتى سيارات الأجرة، إلى جانب الأغاني الشعبية والخطب الدينية.
وإن كنت لا أستطيع تذكر أول أغنية بوضوح، إلا أنني أذكر جيدًا أول حفل موسيقي حضرته في القاهرة خلال زيارة لاحقة. رأيت فرقة “وسط البلد” تعزف على المسرح -مرتين في نفس الشهر- وكانت تجربة لا تُنسى.
***
أما عن شرائط الكاسيت، فهناك لحظة واحدة علقت في ذهني. في صيف 2015، كنت أعيش في المعادي، وكان هناك كشك صغير أمام شقتي اسمه “فرغلي”. في أحد الأيام، دخلت لأشتري مشروب، ولاحظت خزانة زجاجية تمتلئ بشرائط كاسيت مغطاة بالغبار. سألت صاحب الكشك، ناصر، الذي أصبح صديقي لاحقًا، عن تلك الأشرطة. نظر إليّ بدهشة وقال: “عصر الكاسيت خلص!”- وكأنه لا يفهم لماذا قد يهتم أحد بها الآن.
لكن بالنسبة لي، كانت تلك الأشرطة حكاية لم تُروَ بعد. وعندما عدت لنفس الكشك في صيف 2019، فوجئت بأن الأشرطة اختفت تمامًا. لن أقول هنا ما الذي حدث لها، لكن قصة هذا الكشك وشرائطه تظهر في بداية كتاب إعلام الجماهير ونهايته. فمن خلاله، أدعو القارئ أن ينظر بعين جديدة إلى الأشياء العادية التي تحيط بنا – فهي، رغم بساطتها، قد تحمل أسرارًا وذكريات وتفاصيل نادرة تستحق أن تُكتشف.
-
كيف استطعت فهم وتحليل ثقافة لم تعشها بنفسك؟ وكيف ترى دور الباحث الأجنبي في دراسة ثقافة ليست من بيئته؟
أجمل ما قيل لي عن كتاب إعلام الجماهير جاء من قرّاء مصريين قالوا إنهم وجدوا أنفسهم في هذا العمل. وبالنسبة لي، كشخص لم يعش في السبعينيات ولم يختبر ذروة ثقافة الكاسيت في مصر عن قرب، فإن هذه الكلمات تمثل أعظم تقدير يمكن أن أناله.
قبل الفكرة، أمضيت سنوات في دراسة اللغة العربية. بدأت هذه الدراسة في المرحلة الثانوية بالولايات المتحدة، بعد سنوات قليلة من أحداث 11 سبتمبر، في وقت كانت فيه منطقة الشرق الأوسط حاضرة في كل نشرات الأخبار، وغائبة تمامًا عن الفهم الحقيقي.
كان الحديث عنها يدور فقط في سياق الإرهاب والهجمات، دون أي إشارة إلى تاريخها أو ثقافتها. هذا التناول المُختزل دفعني إلى الرغبة في التعرّف أكثر على الشرق الأوسط، فاخترت تعلّم اللغة العربية، واستكملت دراستها في الجامعة، حيث أُتيحت لي الفرصة للسفر والدراسة في اليمن ومصر.
وبعد دراسة اللغة في القاهرة، انتقلتُ للعيش فيها بعد التخرج، وهناك أتيحت لي فرصة ثمينة: التفاعل مع المصريين من مختلف الطبقات والخلفيات، ممن فتحوا لي أبواب بيوتهم وقلوبهم، وجعلوا من مصر وطنًا ثانيًا لي.
***
لم تكن تلك اللقاءات مجرد تجارب لطيفة، بل كانت تعليمية بامتياز. تعلمت من المصريين كيف تُعاش الحياة اليومية، ما الأفلام التي تستحق المشاهدة، ما الكتب التي تستحق القراءة، وما الأغاني التي ينبغي سماعها. تلك اللحظات، البسيطة والعميقة في آن، عرّفتني بثقافة غنية ونابضة، وجدتُ نفسي أغوص في تاريخها لاحقًا خلال دراساتي العليا.
وخلال تحضيري للكتاب، لم أعتمد فقط على الأحاديث واللقاءات، بل انكببت على قراءة أعداد ضخمة من المجلات المصرية التي صدرت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، مثل روزاليوسف وآخر ساعة. هذه المجلات، التي تنوعت موضوعاتها بين السياسة والثقافة والاقتصاد والمجتمع، منحتني نافذة فريدة على تفاصيل الحياة المصرية كما كانت تُعاش وتُكتب أسبوعًا بعد أسبوع. قراءتي لعشرات السنين من هذه المجلات، عددًا بعد عدد، عمّقت فهمي لتاريخ مصر القريب، وجعلت ما كان في البداية ثقافة أجنبية يتحول تدريجيًا إلى شيء مألوف.
***
لهؤلاء الذين جلسوا معي لشرب الشاي، وتبادلوا الحديث، وشاركوني قصصهم، أقول: شكرًا لكم. لولاكم، ما كان لهذا الكتاب أن يرى النور. وآمل حقًا أن تجدوا أنفسكم في صفحاته، كما وجدتها أنا في شوارعكم وكلماتكم وأغانيكم.
أما للباحثين الأجانب الراغبين في دراسة ثقافة لا ينتمون إليها، فإنني أقول: تعلّموا أولًا من أهلها، واندفعوا إلى أعماق مجتمعاتها لا من خلال المسافة، بل من خلال القرب والمعايشة. لا يمكن استعجال هذا المسار. فتعلم لغة جديدة يتطلّب وقتًا، ولا يمكن فهم مجتمع بعمق دون العيش فيه لزمن كافٍ. والأهم من كل شيء: تحدثوا إلى الناس. تواصلوا. تفاعلوا. فهذه التبادلات لن تنتج فقط مشروعًا بحثيًا أفضل، بل عالمًا أكثر تعاطفًا وإنسانية.
-
تحدثت عن “أرشيف الظل” كمصدر أساسي للبحث… ما الذي جذبك لهذا الأرشيف؟
وُلدت فكرة “أرشيف الظل” في مصر من التقاء الضرورة بالخيال. فمن ناحية الضرورة، يكمن أحد أسباب كثرة الكتب التي تتناول مصر في النصف الأول من القرن العشرين وقلّتها عن تاريخها القريب، في طبيعة الأرشيف القومي المصري، حيث تظل السجلات التي توثّق ما بعد سقوط الملكية غير متاحة أمام الباحثين. وفي مواجهة هذا التحدي، كان أحد الأسئلة التي طرحتها في كتاب إعلام الجماهير هو: كيف يمكن كتابة تاريخ أمة دون أرشيفها الوطني؟
وبروح السعي إلى تجاوز هذا الغياب، لجأتُ إلى ما أسميه “أرشيف الظل” في مصر – ذلك النسيج المتناثر من الأماكن الرسمية وغير الرسمية، من سوق الورق في سور الأزبكية، إلى مكتبة الأوبرا، إلى محال شرائط الكاسيت، وغيرها من الفضاءات التي تنشط في ظل الأرشيف القومي المحجوب.
***
لكن “أرشيف الظل” لم يولد فقط من الضرورة. بل هو أيضًا مساحة خصبة تتيح سرد حكايات جديدة عن الماضي لم يكن لها أن ترى النور في الأطر الرسمية. فحتى لو كانت سجلات الدولة متاحة لتوثيق الماضي القريب، فغالبًا لن نعثر فيها على القصص التي أنقلها في إعلام الجماهير – أحاديث عن التلوث الضوضائي، و”موت الذوق العام”، وصورة “البيت الحديث”، تفاصيل يوم في حياة رياضي، نقاشات حول حقوق النشر وأوقات الفراغ – وهي مواضيع لم تكن لتُعتبر جديرة بالحفظ أو التوثيق الرسمي.
لذلك، فإن “أرشيف الظل” لا يمثل فقط حلاً عمليًا لسد فجوة في السرد التاريخي، بل أيضًا دعوة لتخيّل الماضي من جديد في ضوء الحاضر. وأنا متحمس بشدة لأرى القصص الجديدة التي سيحملها لنا هذا الأرشيف، ومن سيكون أولئك الذين سيكتبونها.
-
كيف أثرت تجربة “تجار الشنطة” على انتشار أجهزة الكاسيت والثقافة المرتبطة بها؟
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، شهدت مصر حركة تنقّل غير مسبوقة، إذ سافر عدد من المصريين إلى الخارج أكثر من أي وقت مضى. وفي ظل الطفرة النفطية، تحوّلت الهجرة المؤقتة إلى ممارسة شائعة، وازدهرت حركة الطيران في الشرق الأوسط لتصبح الأسرع نموًا في العالم. وبمجرد وصولهم إلى الخارج، لم يكتفِ المصريون بتحويل الأموال إلى الوطن، بل اشتروا أيضًا سلعًا استهلاكية متنوعة، عادت معهم إلى المدن والقرى في أنحاء مصر.
وكان من بين أكثر هذه السلع شيوعًا أجهزة الكاسيت، التي سرعان ما أصبحت من ملامح “البيت العصري” في مصر – بيت لم تعد حداثته تُقاس بتعليم ساكنيه، بل بما يملكونه من أجهزة وأدوات. ومن بين من اقتنوا أجهزة الكاسيت وجابوا بها الحدود الوطنية كانوا ما يُعرف بـ”تجار الشنطة”، الذين استغلوا مرونة سياسات الاستيراد في عهد الانفتاح لجلب كميات ضخمة من السلع الاستهلاكية من الخارج وبيعها داخل مصر.
***
وانضم إليهم ما يُعرف بحمالة الشنط، وهم رجال ونساء عملوا تحت إشراف تجار الشنطة، كانت مهمتهم نقل صناديق وحقائب ممتلئة بالبضائع من أرصفة الموانئ الدولية، وتسليمها إلى وسطاء داخل مصر لبيعها وتحقيق الربح.
بهذا الشكل، أسهم تجار الشنطة وحمّالة الشنط معًا في انتشار ثقافة الكاسيت في مصر، وهي ثقافة تعود جذورها، جزئيًا، إلى حركة عابرة للحدود، شارك فيها الأفراد والتقنيات، وتحركت فيها الأصوات والسلع كما تحركت الأحلام.
-
خلال بحثك حول الكاسيت.. هل تغيرت رؤيتك للموسيقى؟
خلال رحلتي في البحث، وصلت إلى إدراك مهم، وهو أن الموسيقى تحتل مركزًا أساسيًا في فهم التاريخ والماضي. بالرغم من المكانة الكبيرة التي تحظى بها الموسيقى في حياتنا اليومية—سواء من خلال الأغاني التي نرددها، أو نتذكرها، أو نستمتع بها، أو حتى ننتقدها—إلا أنها غالبًا ما تظل هامشية في الكثير من الكتابات التاريخية. وعندما تبرز الموسيقى في هذه السرديات، فهي في الغالب تكمل ما نعرفه بالفعل عن الماضي. على سبيل المثال، قد يستشهد الباحثون بأغنية لعبد الحليم حافظ لتأكيد التأثير الكبير الذي كان لجمال عبد الناصر.
لكن تجربتي في دراسة ثقافة الكاسيت في مصر علمتني أن الموسيقى ومن يؤدونها لديهم قدرة حقيقية على إعادة تشكيل فهمنا للماضي بطرق عميقة. فالنظرة النقدية لأعمال أحمد عدوية، مثلًا، تكشف لنا عن جوانب من السياسة الثقافية خلال فترة الانفتاح، بينما الغوص في تجربة الشيخ إمام تطرح تساؤلات حول الروايات الرسمية التي تروّجها الدولة. في كلتا الحالتين، وغيرها كثير، تصبح الموسيقى أكثر من مجرد عنصر سردي بسيط، بل هي مفتاح لفهم الماضي، وتوسيع مداركنا تجاه عوالم الناس الحسية والثقافية، سواء في مصر أو في أماكن أخرى من العالم.
-
في الكتاب ركزت على العلاقة بين الكاسيت وتغير الثقافة الشعبية.. هل ترى أن هذا التغير نابع من التكنولوجيا أم من الطبقات الاجتماعية التي استحوذت عليها؟
سواء تعلق الأمر بالسيارات أو الإنترنت، تبقى التكنولوجيا مجرد أدوات يُمكن استخدامها بطرق مختلفة حسب من يمتلكها وغاياتهم المتنوعة. وبالمثل، لم تكن شرائط الكاسيت هي التي غيّرت الثقافة المصرية من تلقاء نفسها، بل كان المصريون من شتى الطبقات الذين قاموا بتسجيلها ونسخها وتداولها هم من أعادوا تشكيل الثقافة الشعبية من خلالها.
كانت شرائط الكاسيت، بفضل سهولة حملها وتكلفتها المنخفضة وبساطة استخدامها، سلعة مطلوبة بشدة خلال فترة ازدهار النفط والانفتاح الاقتصادي. في تلك الحقبة المتسارعة من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، اشترى كثير من المصريين أجهزة الكاسيت من بلدان مثل ليبيا والعراق ودول الخليج، بينما سهلت الشركات العالمية عبر وكلائها المحليين توفرها في الأسواق المصرية. ومع انتشار ثقافة الاستهلاك الجماهيري، توسعت أيضًا ثقافة الكاسيت في مصر.
***
تحولت شرائط الكاسيت إلى رمز من رموز «البيت الحديث»، ومنحت الكثيرين فرصة تسجيل أصواتهم ومشاركتها مع الآخرين. لم تعد الثقافة الشعبية حكراً على المبادرات الرسمية مثل «الثقافة الجماهيرية»، أو على وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة كالإذاعة المصرية، بل أصبحت مجالًا مفتوحًا يتيح لأي فرد أن يكون منتجًا ومشاركًا نشطًا، بفضل هذه الشرائط التي حملت في آنٍ واحد أصوات نجوم الدولة المعتمدة مثل أم كلثوم، والمطربين الذين تحدوا السلطة مثل الشيخ إمام.
وبذلك، لم يكن تأثير شرائط الكاسيت في مصر مجرد نتيجة للتكنولوجيا نفسها، بل كان ثمرة قوة الناس الذين استعملوها، حيث تحوّل المستهلكون الثقافيون إلى منتجين وموزعين، وصنعوا من الثقافة شيئًا حيويًا ومتجددًا.

-
إعلام الجماهير أظهر كيف أصبحت الثقافة تُنتج من أسفل لأعلى.. هل ترى أن الإنترنت اليوم أدى الدور نفسه؟
من بين الأفكار التي حرصت على إبرازها في إعلام الجماهير، كيف كانت شرائط الكاسيت هي الإنترنت قبل ظهور الإنترنت نفسه. قبل أن تغزو منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وتيك توك حياتنا، كانت شرائط الكاسيت وأجهزة تشغيلها تمكّن أعدادًا كبيرة من الناس من صناعة الثقافة، ونقل المعلومات، ومواجهة الأنظمة الحاكمة. ومن خلال هذه الخلفية التاريخية، صرت أرى الإنترنت كامتداد طبيعي للكاسيت، فصل جديد في قصة طويلة سعيت في الكتاب إلى كشف أصولها.
اليوم، لم يعد الإنترنت محدودًا مثل الكاسيت، إذ يمكن لفيديو ينشر في مصر أن ينتشر بسرعة هائلة ليصل إلى جمهور عالمي خلال دقائق. لكن، كما عانت شرائط الكاسيت من الرقابة، لم يسلم الإنترنت أيضًا من ممارسات الحجب وحذف المحتوى، حيث تحذف مواد رقمية، ويُحجب وصول المستخدمين إلى مواقع بعينها. وبالتالي، تستمر المعركة حول من يمتلك حق صناعة الثقافة: هل هو المستهلك فقط، أم المنتج الذي يبدع ويصنع؟
***
ومع ذلك، فإن هناك علاقة مدهشة تجمع بين الإنترنت والكاسيت اليوم. ففي الوقت الذي تتلاشى فيه آثار ثقافات الكاسيت في شتى أنحاء العالم، يقوم البعض بمحاولات جادة لحفظ هذه التسجيلات عبر أرشيفات رقمية متخصصة. فمثلاً، يعمل أرشيف شرائط الكاسيت السوري على توثيق الإنتاجات الثقافية، وفي الوقت نفسه يواجه الصور النمطية المبتذلة عن الشرق الأوسط.
إن التقنيات لا تعيش منعزلة عن بعضها البعض، ولا تحل إحداها كليًا محل سابقتها، بل تتداخل وتتقاطع بطرق عديدة. ومن خلال دراسة هذه الروابط، نتعلم أكثر ونتحدى فكرة “الجدة” التي تُحاط بها الوسائط الجديدة مثل الإنترنت.
-
“جماهير السبعينات انتزعت المبادرة من حراس الثقافة”.. هل ترى أن ما حدث كان ثورة ثقافية؟
عندما يفكر الناس في شرائط الكاسيت والشرق الأوسط، يتجه فكرهم مباشرة إلى الثورة الإيرانية عام 1979، حيث وصل صوت الخميني إلى جمهور واسع عبر هذه الشرائط الصوتية. ومع ذلك، كان للكاسيت وأجهزة تشغيله ومستخدميه المتنوعين دورٌ مهم في إحداث ثورة ثانية في مصر، ثورة ثقافية حقيقية.
في كتابي إعلام الجماهير، أتابع كيف أن هذه التقنية العادية ومستخدميها أحدثوا تأثيرًا استثنائيًا، غيروا به طرق صناعة الثقافة وتداولها. في وقت كان فيه الحراس المحليون يحاولون التحكم في شكل الثقافة المصرية ومن يحق له إنتاجها.
-
هل ترى أن هناك أغنية معينة يمكن أن تمثل جوهر ثقافة الكاسيت في مصر؟
من الصعب اختيار أغنية واحدة. لكن ما يخطر في ذهني هو التسجيل الذي أتناوله عن كثب في الكتاب: أغنية “نيكسون بابا”. هذه الأغنية، التي كتبها أحمد فؤاد نجم وغنّاها الشيخ إمام، جاءت ردًّا ساخرًا على زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى مصر في صيف 1974. حين استقبله الرئيس السادات بحفاوة بالغة، وقدّمه للإعلام بوصفه زائرًا تاريخيًا في لحظة من اللحظات “العظيمة” للدولة المصرية.
لكن “نيكسون بابا” لم تنسج على هذا المنوال الرسمي، بل سعت إلى تقويض الرواية الاحتفالية التي روّجتها الدولة. لم تكن الزيارة، في الأغنية، مناسبة للاحتفاء، بل موضوعًا للسخرية. في لحظة لافتة، يشبّه الشيخ إمام الاستقبال الحافل وكأنه زفاف، يكون فيه نيكسون عريسًا قُبِل به كخيار أخير بعد انعدام البدائل. ويرفض إمام الترحيب به لا بدافع الجهل بل لوعيه التام بتاريخه السياسي المُلطّخ. مشيرًا إلى فضيحة ووترغيت التي كانت تهزّ واشنطن وقتها.
***
وكما هو متوقع، لم تُذَع هذه الأغنية عبر الإذاعة المصرية الخاضعة لرقابة الدولة. بل شقّت طريقها إلى الجمهور من خلال شرائط كاسيت غير تجارية، سجّلها ونسخها ووزّعها أفراد عاديون. بعيدًا عن استوديوهات التسجيل المُحكمة العزل. ورغم مرور الزمن، واستقالة نيكسون. ورغبة السادات في طيّ صفحة ذلك الحدث، بقيت “نيكسون بابا” حاضرة، تؤثر في الذاكرة الشعبية وتشكّل سردًا مضادًا لتلك اللحظة.
لقد تحوّلت الأغنية، التي كانت في يوم ما جزءًا من أرشيف مضاد محصور في شرائط الكاسيت، إلى مادة متداولة اليوم عبر الإنترنت. وهي بهذا تبرز قوة الكاسيت كوسيط ثقافي له القدرة على إنتاج السرديات وتوسيع نطاق تداولها. كما تظهر كيف يمكن لشريط بسيط أن يكون نافذة جديدة على الماضي، يدعونا من خلالها إلى إعادة تخيّل ما كنّا نظنه معلومًا ومفروغًا منه. في هذا السياق، تجسّد “نيكسون بابا” جوهر ثقافة الكاسيت في مصر، وما يمكن أن تقدمه لنا من رؤى بديلة ومعانٍ جديدة للتاريخ.
-
ذكرت أن محرم فؤاد طالب بتشكيل غرفة لصناعة الكاسيت يمثل فيها فنان كبير كمستشار، للتضييق على ما اعتبره الابتذال الفني.. هل ترى موقفه يعكس صراعا بين جيلين أم تعبيرا عن قلق مشروع من تدهور الذوق العام؟ وهل يمكن مقارنة موقفه بالموقف الحالي من نجوم المهرجانات؟
أحد الأمور التي حاولت إبرازها في الكتاب هو أن الهجوم على نجوم المهرجانات في مصر ليس أمرًا جديدًا. فالنقاشات حول ما يسمى بموت الذوق العام مستمرة منذ عقود، ويمكن تتبّع جذورها على الأقل إلى أيام أحمد عدوية ونجوم الأغنية الشعبية في السبعينيات، حين أتاحت شرائط الكاسيت لأي شخص أن يكون منتجًا للثقافة، وارتفعت آنذاك أصوات تنتقد ما وصفوه بتلويث الذوق وانحدار الموسيقى.
لكن ما أؤكد عليه هو أن هذه النقاشات لا تتعلق فقط بالجوانب الجمالية أو الفنية، بل تكشف عن صراع أعمق: من يملك الحق في تشكيل الثقافة المصرية؟ وما الشكل الذي يجب أن تتخذه في أزمنة التغيير السريع؟ سواء في حالة محرم فؤاد أو هاني شاكر، تكررت محاولات السيطرة على ملامح الثقافة، لكنها في الغالب لم تحقق النجاح. فالثقافة، في نهاية الأمر، ليست ملكًا لفرد أو طبقة أو فئة بعينها، بل ملك للجميع.
-
الكتاب أحدث ضجة في مصر منذ ترجمته بالعربية.. كيف ترى ردود الفعل؟ وهل شعرت بأن القراء المصريين قدموا للكتاب زوايا جديدة؟
بعد أكثر من عقد من العمل على كتاب إعلام الجماهير، لا أزال أجد الأمر أشبه بالحلم أن أراه أخيرًا يصدر باللغة العربية. وما يسعدني أكثر هو ردود فعل القرّاء المصريين تجاهه. المراجعات التي تلقيتها، والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. والصور التي أرسلها لي أشخاص يحملون الكتاب بين أيديهم،.كل ذلك يعني لي أكثر مما تستطيع الكلمات التعبير عنه.
سواء رأيت الكتاب يظهر في حلقة من برنامج الضاحك عن أحمد عدوية، الفنان الذي تعمّقت في تأثيره خلال بحثي، أو في صفحات مجلة آخر ساعة التي كنت أتابعها عن كثب أثناء عملي. فإن سعادتي لا توصف لأن هذه القصة تصل إلى قرّاء من مختلف الخلفيات والأجيال.
المثير للفخر أكثر هو أن أسمع من أشخاص عاشوا حقبة ثقافة الكاسيت في مصر بأن الكتاب قد نجح في التقاط روح العصر – وهو زمن لم أعايشه شخصيًا، فأن يُشاد بي من قِبل من عاشوا تلك الفترة هو أعلى درجات التكريم التي يمكن أن أحظى بها.
***
قبل عامين، أتيحت لي الفرصة لمشاركة بعض القصص من إعلام الجماهير مع جمهور محلي في مصر. ما زلت أذكر تلك اللقاءات حتى اليوم، ليس لما قلته فيها، بل للقصص الرائعة التي شاركها الحضور عن معنى شرائط الكاسيت في حياتهم. وفي أغسطس المقبل، سأعود إلى مصر لأواصل أبحاثي، وأعيد التواصل مع أصدقائي القدامى، وأناقش الترجمة العربية للكتاب. متشوق جدًا لأن أستمر في التعلم من المصريين، الذين جعلوا مصر بيتي الثاني، وكانوا دومًا كرماء بوقتهم وثقافتهم.
واليوم، أشعر أكثر من أي وقت مضى بحافز أكبر لاستكشاف فصول جديدة من تاريخ مصر، والكتابة عنها بطريقة تجذب القارئ المصري وتلامس روحه.
-
بعد نجاح الكتاب، هل لديك خطط مستقبلية لتناول شخصيات أو ظواهر مصرية في كتب لاحقة؟
نعم، أعمل حاليًا على عدد من المشاريع المتنوعة. في مقدّمتها، أكتب سيرة ذاتية عن الشيخ إمام، أستعرض من خلالها حياته وإرثه الفني. هذا المشروع لا يهدف فقط إلى إعادة النظر في ماضي الشرق الأوسط الحديث. بل يسعى أيضًا إلى التأمل في كيفية كتابة التاريخ. والمساهمة في نقاشات أوسع حول الموسيقى والمعلومات المضلّلة والسياسة الكامنة في الثقافة الشعبية.
يعتمد هذا الكتاب بشكل كبير على التاريخ الشفهي، ولذلك، إن كان لدى أي من القراء حكايات أو ذكريات عن الشيخ إمام، فأرجو ألا يتردد في التواصل معي عبر موقعي: andrewgsimon.com. سيكون من دواعي سروري أن أسمع منكم.
كذلك، استكمالًا لكتاب إعلام الجماهير، أعمل على تحرير كتاب جماعي يتناول دور الإعلام في تاريخ الشرق الأوسط. منذ العهد العثماني وحتى يومنا هذا. يضم العمل دراسات عن الثقافة المطبوعة والسمعية والبصرية والرقمية. ويتناول تقنيات متنوعة، من التلغراف إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليكشف عن الثراء الثقافي الذي ميّز هذه المنطقة عبر العصور.
***
وكما تمنيت أن يتاح كتابي الأول باللغة العربية، آمل أن تصدر هذه الأعمال الجديدة -السيرة والكتاب الجماعي- مترجمة إلى العربية لتصل إلى جمهور أوسع.
أخيرًا، أعمل على إتاحة أرشيفي الخاص من تسجيلات الكاسيت عبر منصّة رقمية مفتوحة. ليتمكن أي شخص من الوصول والاستماع إليها والتفاعل معها. يهدف هذا المشروع إلى توثيق الثقافة المصرية ونشرها عالميًا بطريقة تحفظها وتعيد إحيائها.
لمن يرغب في متابعة هذه المشاريع أو معرفة المزيد، يمكنه العثور عليّ عبر تويتر أو بلوسكاي (@simongandrew). حيث أشارك بانتظام مقتطفات من أبحاثي، وتجربتي في التدريس، ورحلاتي.
اقرأ أيضا:
«ملاذ الشعوب».. هل أثر اللجوء في تشكيل الحضارة المصرية القديمة؟