«أرشيف بيكيا»: «أرفعُ هذا التقرير» من ثروت عكاشة إلى جمال عبدالناصر

في أول يونيو عام 1960، رفع ثروت عكاشة تقريرا عما تم تنفيذه من برنامج التعاون المشترك بين وزارتي الثقافة والإرشاد القومي المصرية والسورية إلى الرئيس جمال عبدالناصر. يحتوي التقرير على ست صفحات تنقسم إلى عشرة نقاط رئيسية عن النشاط الثقافي بين الوزارتين، وهم باختصار:

  • إقامة معرض للفن التشكيلي السوري في مصر.
  • تبادل المحاضرين السوريين والمصريين في ندوات ثقافية تُعقد في عواصم ومحافظات الإقليمين.
  • مشاركة مصر في معرض دمشق الدولي.
  • إرسال فرق مسرحية مصرية ليستعرضوا فنهم في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية.
  • استقبال فرق المسرح السوري في القاهرة والمحافظات المصرية.
  • تمثيل الإقليم السوري في المعارض الكبرى والمهرجانات السينمائية التي تشارك فيها الجمهورية العربية المتحدة.
  • فتح باب التقديم في معاهد الفن العليا بمصر للطلاب السوريين.
  • تبادل القطع الأثرية بين متاحف مصر وسوريا.
  • توزيع مطبوعات وزارة الثقافة والإرشاد القومي المصرية في سوريا.
  • نشر تراث الموسيقى المصري والسوري بشكل مشترك.

يقول ثروت عكاشة في خطابه إلى الرئيس إن توجيهات سيادته عن أهمية الوحدة تحتم على وزارة الثقافة والإرشاد القومي المصرية وضع التعاون المؤسسي بين مصر وسوريا أساسا ضروريا لأعمال الوزارة في عام 1959 و1960. ويتضح في التقرير أن المجهودات التي بذلتها الوزارة في غضون هذا العام تتصل اتصالا وطيدا باختلاق وحدة مؤسسية بين الإقليمين. عبر شتى مجالات الإنتاج الثقافي من معارض وندوات وعروض مسرحية ومهرجانات وعروض آثار ومطبوعات وموسيقى وتعليم فني.

ويتضح أيضا أن الخطة التي وضعها ثروت عكاشة منهجا للعمل الثقافي المؤسسي في مصر كانت تسير نحو التطبيق المتطابق في سوريا، دون النظر إلى تاريخ سوريا الخاص. بمعنى آخر، أقحم الوزير المصري تقسيمات إدارية مصرية على الإدارات السورية الفعلية. وقدم للرئيس في تقريره موجز نشاطه الثري الجاري دون إعادة النظر في جدواه خارج حدود الإقليم الجنوبي.

ثروت كاشة مع عبدالناصر أثناء أداء اليمين بعد اختياره وزيرا للثقافة
ثروت كاشة مع عبدالناصر أثناء أداء اليمين بعد اختياره وزيرا للثقافة
***

يستوقفني في هذه الوثيقة التعبير الإداري الروتيني الذي يستخدمه ثروت عكاشة للحديث عن آلية التواصل مع الرئيس جمال عبدالناصر. أنه “يرفع إليه تقريرا”، وهو أمر طبيعي في نطاق البيروقراطية المصرية. إلا وأنه يستوقفني لسببين، أولهما أنه يعبر عن الخيال التراتبي في الدولة المصرية الحديثة. فالتقرير مرفوع كالفاعل واسم “كان” في الإعراب، ودائما ما تنتهي رحلاته الإدارية إلى الأعلى. إذا لم يتم رفعه، يموت التقرير في الأدراج المغلقة، ولا يعتبر تقريرا من أساسه إلا إذا رفِع. انظروا إلى كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” لطه حسين مثلا، الذي تفادى مصير التقرير وأصبح كتابا عاما عندما أوقفه العميد عن الصعود إلى مستويات أسمى ووزّعه بين جماهير المثقفين. عندما يرفع ثروت عكاشة تقريرا إلى جمال عبدالناصر، لا يكتفي بإرسال كتابا إداريا عاديا، بل يؤكد على علاقة تراتبية أساسها خضوع كاتب التقرير إلى قارئه.

يستوقفني التعبير أيضا من حيث التماثل الملحوظ بين رفع التقارير ونزول الأوامر. ففي الخيال البيروقراطي الهرمي، تصعد جميع التقارير إلى أعلى السلطات حتى تتفقدها وتدرسها وتحللها. وتصدر بناءً عليها تعليمات أو توجيهات قد تصبح قيد التنفيذ حين يضعها الرئيس موضع الكتابة. سواءً كان رئيس الدولة في حالة السياسات الكبرى التي تتحدث عنها وثيقة اليوم، أو رئيس الإدارة في حالة السياسات المؤسسية الصغرى. أو حتى رئيس فريق العمل على نطاقات أصغر وأصغر. في كل هذه الأحوال، يعبّر الرفع والنزول عن علاقات تراتبية تتجلى في أنواع مختلفة من الورق الإداري، فالرئيس لا ينتج التقرير بل يقرأه، والوزير لا يصدر الأمر بل ينفذه (وهكذا بين الوزير والموظفين في حال اعتبار الوزير رئيسا داخل إدارته).

***

في نطاق المكاتبات الرسمية، يتميز التقرير بطول الشرح والاستفاضة في تفاصيل العمل الإداري الماضي، في سبيل تحسين أو تغيير العمل الإداري المستقبلي، مما يجعل التقرير مختلفا عن المراسلات والمأموريات والمذكرات والمكاتبات الأخرى من حيث علاقته بالزمن الإداري. يقر التقرير عن كل شيء مضى ويتخيل كل شيء قادم، على عكس المأموريات الفورية والمراسلات قصيرة الأمد. لذلك فتقدم التقارير الرسمية فرصة ذهبية للمؤرخين المعاصرين لكي يتعرفوا على تفاصيل إدارة دولة يوليو، ويثير التقرير الذي رفعه ثروت عكاشة إلى جمال عبدالناصر عدة تساؤلات حول العمل الثقافي اليومي أثناء الوحدة مع سوريا. فمثلاً، ما هي التوجيهات التي أصدرها جمال عبدالناصر بعد قراءة تقرير عكاشة؟ وكيف استمر التعاون الثقافي بين الإقليمين خلال سنة 1960 و1961؟ وماذا تبقى من أثر هذا التعاون في أذهان الجماهير العريضة بعد انتهاء الوحدة عام 1961؟

وختاما، إليكم وثيقة العدد القادم!

الوثيقة القادمة
الوثيقة القادمة
اقرا أيضا:

«أرشيف بيكيا»: «سيادتكم» من ثروت عكاشة إلى المشير عامر

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر