د. هبة عبدالجواد: «الكوميكس» يعيد للمصريين حقهم في سرد التاريخ بالمتاحف الغربية

مصريات في الظل وقطع أثرية بلا صوت!

على مدار ستة أعوام، عملت الباحثة المصرية د. هبة عبدالجواد على إعادة الاعتبار للأصوات المصرية داخل المتاحف البريطانية من خلال مبادرة «آثارنا المتغربة»، مستخدمة فن الكوميكس كأداة مبتكرة نجحت في تثبيتها ضمن عروض دائمة في متحفي مانشستر وهورنيمان.

وفي حوار خاص مع «باب مصر»، تتحدث عبدالجواد، مؤسسة المبادرة والمشرف الأول على قسم الأنثروبولوجيا بمتحف وحدائق هورنيمان في لندن، عن جهودها في تفكيك السرديات الغربية حول الآثار المصرية، وتسليط الضوء على قضايا الانتماء، وتمثيل النساء في التاريخ، والمومياوات، وهي جهود أسفرت عن تحرك برلماني بريطاني لمناقشة إعادة هذه البقايا إلى موطنها الأصلي.

أداة سرد مُعاصرة

نجحت المبادرة في إدراج عرض كوميكس دائم في متحفين ببريطانيا ضمن المشروع، وأوضحت د. عبدالجواد أن التجربة الأولى كانت في متحف مانشستر عام 2023. إذ طُلب من فريق المبادرة إعداد كوميكس جديد خصيصًا للمتحف، بوصفه شريكًا دائمًا للمشروع منذ انطلاقه. تناول الكوميكس فكرة “الانتماء”. وتم عرضه في صالة عرض لا تختص بالآثار المصرية القديمة، بل تركز على مفهوم الانتماء بشكل عام. وتُعد هذه الخطوة الأولى من نوعها التي يتم فيها تناول موضوعات تتعلق بالآثار والتراث المصري في صالة عرض عامة. وليست داخل قاعات مخصصة للآثار المصرية كما جرت العادة.

قالت د. هبة لـ«باب مصر»: “عادة ما يتم تناول التراث المصري في المتاحف من خلال قاعات مخصصة لآثار مصر القديمة فقط، دون دمجه في سياق حضاري أوسع، وهو ما سعت مبادرة “آثارنا المتغربة” إلى تغييره”. وتابعت: “الكوميكس الذي أعددناه بالتعاون مع الفنان ناصر تم تقديمه ضمن المعرض كعرض دائم، وهو تطور مهم مقارنةً بالمشاركات السابقة التي كانت مؤقتة. وعادة ما تستمر العروض الدائمة في المتاحف من خمس إلى عشر سنوات”. ويجسد المشروع فاعلية استخدام فن الكوميكس كأداة سرد مُعاصرة، خاصة في ظل انتشاره الواسع في الغرب، وبدء الاهتمام به في مصر والشرق الأوسط.

الآثار المصرية بعيون إنسانية

تهدف مبادرة “آثارنا المتغربة” إلى تقديم سردية إنسانية بديلة للآثار المصرية المعروضة في المتاحف الغربية، من خلال فن الكوميكس كأداة مؤثرة ومبتكرة. وأضافت عبدالجواد: “استطاع المشروع توظيف الكوميكس بأسلوب مصري يحكي قصة قطعة أثرية، من خلال تخيل مشاعرها بالعزلة في المتحف، وكأنها اقتُلعت من جذورها، وتشعر بعدم الانتماء”. ويعرض الكوميكس القطعة الأثرية وهي تمر بأزمة نفسية، وتلجأ إلى معالج نفسي يشخّص حالتها بأنها تعاني من الوحدة وفقدان الانتماء، ويقترح علاجا يتمثل في تفاعلها مع مصريين معاصرين.

وأوضحت أن هذه القصة الرمزية تهدف إلى تسليط الضوء على فجوة حقيقية، وهي غياب التفاعل بين المتاحف البريطانية، مثل متحف مانشستر، والجاليات المصرية المنتشرة في تلك المدن، نتيجة فكرة راسخة في العقلية الغربية تنكر على المصريين المعاصرين حقهم في تراثهم، أو انتماءهم للحضارة المصرية القديمة بصفتهم “أحفادها الشرعيين”.

في السياق نفسه، أشارت إلى عرض الكوميكس بشكل دائم بمتحف هورنيمان البريطاني، الذي يُعد شريكًا دائمًا للمشروع منذ عام 2019، ومثّل نموذجًا مثمرًا لاستخدام الكوميكس الخاص بالمبادرة أسبوعيا ضمن ورش العمل التعليمية المخصصة لأطفال المدارس.

مبادرة آثارنا المتغربة بالمتاحف البريطانية
مبادرة آثارنا المتغربة بالمتاحف البريطانية
عرض الأجساد البشرية

تناولت المبادرة أيضا جانبا مهما من المشروع يتعلق بـ”بقايا الأجساد البشرية”، مثل المومياوات المصرية، ولفتت عبدالجواد إلى أن تلك البقايا ليست مجرد “قطع أثرية”، بل هي أجساد بشرية تمثل أجداد المصريين المعاصرين.

وقالت: “يجب أن تُعامل هذه البقايا بكرامة واحترام، ومعاملتها بحق أحفادهم المعاصرين في المطالبة بها. وتغيير الأسلوب غير الإنساني الذي تتعامل به بعض المتاحف مع هذه المومياوات. وإعادة الاعتبار للأبعاد الأخلاقية والإنسانية في عرض التراث المصري بالخارج”.

وقد فتح مشروع “آثارنا المتغربة” المجال أمام المتاحف البريطانية لإعادة النظر في طريقة عرض التراث المصري، وتغيير السردية السائدة. وأوضحت أن المشروع أتاح لمتحف هورنيمان تقديم صورة أكثر صدقا عن مصر. من خلال كوميكس يتناول موضوع البقايا البشرية، والطرق غير القانونية والمهينة التي خرجت بها تلك الأجساد من مصر.

وبعض هذه البقايا، كما أشارت، كانت تستخدم في الماضي لصناعة الأدوية أو كأصباغ للرسم، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا لكرامة الإنسان. وتناول الكوميكس هذه الحقائق بصراحة غير معتادة في الخطاب المتحفي التقليدي.

الحق في الرواية التاريخية

لم يقتصر المشروع على الكوميكس، بل أصدر في عام 2002 لعبة “كوتشينة آثارنا المتغربة”، وهي مستوحاة من قطع أثرية مصرية معروضة في المتاحف الشريكة، من بينها متحف هورنيمان. وقد استُخدم أربعة من هذه البطاقات – المستلهمة من مقتنيات المتحف – ضمن المعرض الحالي، ما أتاح للفريق المصري إعادة صياغة السرد المتحفي من وجهة نظر المصريين، لأول مرة في بريطانيا.

وأوضحت الباحثة: “النصوص المعروضة هي الإنجاز الحقيقي، وتمت كتابتها بالكامل من قبل الفريق المصري. الكوميكس كان مصدر إلهام لهذا التحول في العرض، ما يمنح المشروع بعدًا ثقافيًا وسياسيًا مهمًا في إعادة ملكية السرد إلى المصريين”. ورحبت إدارة متحف هورنيمان بالتعاون مع المشروع منذ عام 2019، رغم كونه غير تقليدي.

وهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها فن الكوميكس المعاصر بشكل دائم إلى جانب المعرض الدائم، بعد أن كان استخدامه مقتصرا على المعارض المؤقتة، خاصة تلك التي تتناول العلاقة بين الفن والتراث.

أحقية استرداد الآثار

أكدت الدكتورة هبة عبد الجواد، أن الكوميكس الذي تقدمه مبادرة “آثارنا المتغربة” لا يعد مجرد أداة فنية أو رمزية. بل يمثل “مداخلة ثقافية” داخل معارض المتاحف، تمكن المصريين من التعبير عن وجودهم وصوتهم. وتؤكد أحقيتهم في استرداد آثارهم وتحديد كيفية عرضها، خاصة في المتاحف الأجنبية.

وتتيح هذه الأعمال رواية التاريخ المصري القديم من منظور معاصريه وأبنائه. بدلاً من الاقتصار على السرديات الغربية التي طالما انفردت بتفسير هذا التراث وعرضه. وتابعت: “يتم حالياً التحضير لتعاونين جديدين مع متحفَين في اسكتلندا، من خلال إنتاج كوميكس جديدة خصيصًا لهذين المتحفين، لتُعرض ضمن معروضاتهما الدائمة”.

كل العيون عليها!

كان دور المرأة المصرية من أبرز محاور اهتمام المشروع، ليس فقط الملكات أو الشخصيات النسائية المشهورة في التاريخ المصر، بل أيضا النساء اللاتي يغيرن المجتمع بكفاح يومي مستمر.

سلط المشروع الضوء على دور النساء المصريات من خلال معرض «كل العيون عليها». وهو معرض دائم انطلق في عام 2021 في إطار مبادرة «آثارنا المتغربة». استلهمت فكرته من مجموعة من القطع التراثية المصرية التي اقتناها متحف هورنيمان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وتضم ملابس نسائية ومجوهرات تعود لتلك الحقبة.

تقول عبدالجواد: “يمثل التركيز على هذه العناصر محاولة لإبراز صوت النساء المصريات. خاصة في ظل التهميش التاريخي لدور المرأة في السرديات المتحفية السائدة”. وأوضحت أن المشروع يهدف إلى تغيير هذا التمثيل النمطي. ليس فقط من خلال التركيز على أدوار النساء وقت الثورات أو الأحداث السياسية الكبرى فقط. بل عبر إبراز كفاحهن اليومي المستمر، والذي يعد شكلا من أشكال المقاومة والصمود.

من معرض كل العيون عليها ببريطانيا ضمن مبادرة آثارنا المتغربة
من معرض كل العيون عليها ببريطانيا ضمن مبادرة آثارنا المتغربة
كفاح المرأة المصرية 

يتناول المعرض ثلاثة محاور رئيسية: المقاومة، والثورة، واستعادة التراث، مؤكدة أن الرسالة الأساسية للمعرض تقوم على إبراز الكفاح اليومي للمرأة، لا مجرد لحظات التمرد أو التصادم السياسي.

وأشارت عبدالجواد إلى أن المقاومة لا تقتصر على المناسبات الاستثنائية. بل تتمثل في ممارسات يومية تقودها النساء لفرض وجودهن وتوسيع حضورهن في المجال العام. ومن هذا المنطلق، تناول المعرض منصات ومبادرات معاصرة مثل “سبيك أب”، التي بدأت كمساحة على وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن حقوق النساء. خصوصًا في قضايا التحرش، وتشجيعهن على التحدث علنًا ومقاضاة المعتدين.

كما سلط الضوء على ظواهر مقاومة غير تقليدية، مثل الفتيات اللواتي يمارسن التزلج (الباتيناج) في شوارع وسط القاهرة. باعتبارها تعبيرًا جسديًا حرًا عن امتلاك الفضاء العام. إضافة إلى مبادرات “احكي” وغيرها، وهي حركات تقودها نساء يمارسن المقاومة اليومية دون تظاهر أو احتجاج. لكن من خلال نشاط مستمر ومؤثر.

تحديات اجتماعية

تضمن المعرض أيضًا إشارات إلى أعمال فنية عكست كفاح النساء. مثل فيلم “عاش يا كابتن”، الذي تناول التحديات الاجتماعية التي تواجهها الفتيات في رياضة رفع الأثقال، المُصنفة عادة “رياضة رجالية”. خصوصًا في ظل الضغوط الاقتصادية. كذلك استعرض المعرض إسهامات الكاتبة والفنانة دينا محمد من خلال ثلاثية الكوميكس “شبيك لبيك”، وترجمتها الإنجليزية. بوصفها نموذجًا إبداعيًا معاصرًا لرواية واقع المرأة المصرية.

وأشارت عبدالجواد إلى أن المعرض لم يغفل دور المرأة المصرية في العصور القديمة. وسلط الضوء على مكانتها المتقدمة مقارنة بنساء حضارات أخرى، بفضل نضالها المستمر سواء داخل المنزل أو خارجه. وقالت: “قدّم المعرض نماذج أثرية لنساء مصريات لم يكنّ ملكات أو شخصيات مشهورة. لكنهن لعبن أدوارًا فعّالة في المجتمع وأسهمن في تشكيل الحضارة المصرية. ولهذا، يستحق كفاح المرأة المصريّة -القديم والمعاصر- أن يحتفى به يوميًا، لا في مناسبات عابرة”.

من معرض كل العيون عليها ببريطانيا ضمن مبادرة آثارنا المتغربة
من معرض كل العيون عليها ببريطانيا ضمن مبادرة آثارنا المتغربة
سلطة التوثيق

بحسب الباحثة المصرية، لم يتوقف كفاح النساء المصريات عبر العصور، لكنه اختلف من زمن لآخر حسب الظروف وإمكانيات التوثيق. إذ حكت أن النساء في الماضي واجهن صعوبة في تسجيل حضورهن التاريخي بسبب احتكار الرجال لوسائل التوثيق والكتابة، التي كانت مقتصرة على فئة ضيقة لا تتجاوز 10% من المجتمع، معظمهم من الذكور. وكان الأقوى، غالبا، هو من يحدد ما يكتب وما يمحى.

لكن اليوم، على حد قولها، تمتلك النساء أدوات جديدة تتيح لهن التعبير عن أنفسهن وتوثيق نضالاتهن بأنفسهن. دون الاعتماد على “سلطة التوثيق” التقليدية. وأضافت: “تعدد الوسائط الرقمية والمعرفية في العصر الحالي مكّن النساء من تقديم روايات أعمق، وربما أكثر صدقًا، عن تجاربهن اليومية والنضالية”.

وتابعت: “خلال السنوات الثلاث الماضية، ركزنا جهودنا على مشروع “كل العيون عليها”، وسعينا لتجاوز نشر الكوميكس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونقلها إلى فضاءات العرض المتحفي الدائم”.

توسيع الحضور المصري في المتاحف الغربية

ترى عبدالجواد أن هذا ليس مجرد توسّع في وسيلة العرض، بل تأكيد على حضور الأصوات المصرية داخل المتاحف الغربية. وتذكير دائم بأن لهذه الآثار أصحابا. وأن ثمة من لا يزال يطالب بحقه في السرد وفي التاريخ.

وكشفت عن تعاونين جديدين في هذا السياق، حيث يتم حاليًا إنتاج كوميكس لمتحف بيسلي في اسكتلندا، والمتحف القومي في إدنبرة، ليكونا جزءًا من العروض الدائمة فيهما. يسعى المشروع أيضًا إلى توسيع أدواته من خلال تقديم وسائط فنية متعددة. مثل ورش العمل مع فنانين معاصرين، ومبادرات تهتم بالتاريخ الشفهي، والأرشيف المجتمعي، وعلوم الإنسان.

واختتمت حديثها بقولها: “تسعى هذه الجهود إلى تمصير طريقة السرد عن مصر. بما يتيح للمصريين الحديث عن أنفسهم وتاريخهم بأنفسهم، لا من خلال التصورات التي يفرضها الخطاب الغربي. كما يطمح المشروع إلى تنويع مصادر تمويله وتوسيع شراكاته مع المدارس الحكومية لتطوير أدوات تعليمية مبسطة تُستخدم في تدريس التاريخ للأطفال. لا تقتصر فقط على مصر القديمة، بل تشمل التاريخ المصري بأبعاده المختلفة”.

اقرأ أيضا:

آثار «توت عنخ آمون» تغادر مصر مؤقتًا: معرض ضخم للآثار المصرية في الصين| خاص

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.