وقائع معركة غير أدبية بين يوسف إدريس وأصحاب البنطلونات القصيرة

في عام 1980 وسط أجواء سياسية مضطربة وتزامنا مع صدور قانون العيب، تحدث يوسف إدريس في الإذاعة المصرية ضمن برنامج «مشوار حياتي».. قال إنه عندما بدأ حياته الفنية لم يجد من يكتب القصة القصيرة لكي يتعلم منه، فقرر أن يخلق هذه القصة من العدم وأنه أول من كتبها في المنطقة العربية، مضيفا أن القصة ماتت من بعده لأن أجيال الشباب لم تستطع أن تقدم أية إضافة جديدة.

وأضاف: أن عدد رسائل الدكتوراه التي قدمت عنه في كل أنحاء العالم تبلغ 86 رسالة، كما أنه العربي الوحيد الذي اختارته لجنة جائزة جامعة “آيوا” الأدبية في أمريكا كعضو في لجنة التحكيم وهو الذي يرشح أدباء من كل أنحاء العالم للفوز بهذه الجائزة، وقد رشح عن العام الماضي نجيب محفوظ للفوز ولكن خطاب الترشيح ضاع في الطريق ولم يصل أمريكا رغم كافة الطرق والمسالك التي توصل بين مصر وأمريكا هذه الأيام.

رسالة الحكيم

عقب إذاعة البرنامج، نشرت الصفحة الأدبية بجريدة الأخبار رسالة من توفيق الحكيم بصفته رئيسا لاتحاد الكتاب موجهة إلى ثروت أباظة بصفته نائبا للرئيس يطلب الحكيم في الرسالة اتخاذ إجراء ما ضد أحد أعضاء الاتحاد بتهمة تعظيم نفسه في أحد الأحاديث وسلب الآخرين بعض ما قدموه للحياة الأدبية، حيث إن هذا السلوك يتنافى مع حياتنا الأدبية الجديدة ولابد من محاسبة هذا العضو..(دون الإشارة إلى اسمه) مع أن جميع من في الوسط الثقافي يدرك أن العضو المقصود بالرسالة هو يوسف إدريس، بعد أيام من النشر قام توفيق الحكيم بنشر رسالة أخرى في صحيفة الأخبار يقول فيها إنه لم يقصد نشر الرسالة الموجهة منه إلى ثروت أباظة أبدا وأن هذه الرسالة هى مما يتداوله الأعضاء داخليا في أي نقابة مهنية وليست للنشر.

بعد هذه الأحداث خرج إبراهيم الورداني في جريدة الجمهورية وفي عموده اليومي “صواريخ” بكلمة عن الطاووس المختال يوسف إدريس وأنهى المقال مطالبا توفيق الحكيم بأن يأخذ زمام المبادرة ويزيح ستار الافتتاح عن قانون العيب ليصبح اتحاد الكتاب أول جهة تنفذ هذا القانون في مصر. كشف الورداني في كشف الستار عن اللعبة التي كانت تعد، فلم يكن الأمر مجرد محاولة وقفيوسف إدريس عن تمجيد نفسه بقدر ما كان بهدف تقديمه لمحكمة حماية القيم من العيب. لم تنته القصة إلى هذا الحد، إذ سافر يوسف إدريس إلى باريس بدعوة من اليونسكو لحضور ندوة عن التعليم وقال إن الدعوة موجهة إليه بصفته الشخصية، وأنه الكاتب العربي الوحيد الذي وجهت له الدعوة، ولكن بعد عودته أعلن أن سبب هجوم الحكيم عليه يرجع إلى رغبته في السفر إلى باريس بدلا منه، كما أن ثروت أباظة يستخدم الحكيم ضده. بعدها تردد أن إدريس سيرفع دعوى قضائية ضد الحكيم وأباظة والورداني لتشهيرهم به.

نص حوار جريدة القبس الكويتية مع يوسف إدريس
نص حوار جريدة القبس الكويتية مع يوسف إدريس
يوسف إدريس يتحدث

وفي ديسمبر 1980 أجرت صحيفة “القبس الكويتية” حوارا مع إدريس حول الأزمة فقال بالنص: “أن العاجز وحده هو الذي يلجأ للقضاء ليشكو الصراصير، أما أنا فلست عاجزا وسأتصدى بنفسي كرجل لهؤلاء الصبية الصغار أصحاب البنطلونات القصيرة.. أولئك الذين تنازلوا عن شرف الكلمة وأصبحوا لا يملكون غير أساليب المداهنة ومغازلة السلطة حتى بلا ثمن ويريدون بعد هذا كله أن يغتالوني وكأني الضمير الحي الذي يريدون التخلص منه”. ثم بدأ يحكي في حواره عن سبب الأزمة: “بدأت القصة بالمؤتمر الذي عقده اليونسكو حول مستقبل التعليم خلال العشرين سنة المقبلة أي حتى نهاية القرن العشرين وأرسلت لي هيئة اليونسكو دعوة لحضور هذا المؤتمر وسافرت إلى باريس وكنت أتصور أنني مدعو كمراقب لأني لست من رجال التعليم، ولكن فوجئت هناك بأني عضو أصلي في المؤتمر مع عشرين شخصية من مختلف أنحاء العالم منهم علماء من بريطانيا وأمريكا وروسيا وأوروبا الغربية، ووزيرة الثقافة في البرازيل ونائب وزير الثقافة الصيني ووزير التعليم في الإمارات، واكتشفت أنني الكاتب الوحيد من العالم المدعو، وحين أبديت دهشتي لسكرتير المؤتمر قال لي لقد أردنا أن نشرك كاتبا ليعطينا تخيله عن طريقة التعليم خلال الأعوام العشرين المقبلة ولأن الكتّاب أحيانا يملكون رؤية مختلفة ومفيدة جدا لأولئك المنغمسين في مشكلة التعليم”. وبعد أن تحدث عن كيفية استقبال كلمته  في المؤتمر بحفاوة بالغة، بدأ في سرد تداعيات مشاركته.. قائلا: “عدت إلى القاهرة متوقعا التكريم ولكني فوجئت بمؤامرة غريبة نسجت خيوطها أثناء غيابي. فالأستاذ توفيق الحكيم أشاع أنه هو الذي كان مدعوا إلى المؤتمر وحين اعتذر دعوني أنا وهذا غير صحيح بالمرة. ولم يكتف الأستاذ الحكيم بنشر هذه الإشاعة عن طريق بعض صغار الكتاب وإن كانوا كبارا في السن، بل أرسل خطابا زعم أنه “سري للغاية” من رئيس اتحاد الكتاب إلى نائب رئيس الاتحاد ونشر الخطاب السري للغاية بشكل بارز في جريدة الأخبار ويطالب الحكيم في خطابه بمحاكمتي تأديبيا على أساس أنني أقوم بعمل دعاية لنفسي وحجته في ذلك الخبر الذي نشرته جريدة الأهرام من دعوة اليونسكو لي لحضور المؤتمر. وهو أمر يستوجب عقابي عند الأستاذ الحكيم عن طريق اتحاد الكتاب! والخطاب السري للغاية والذي يستطيع الأستاذ الحكيم تسليمه باليد لجاره في الأهرام ثروت أباظة وصل لجريدة الأخبار.. كيف؟، وعندما لاموا الحكيم على هذا التصرف أرسل خطابا عاجلا آخر نشر أيضا الأخبار في اليوم التالي يعلن فيه أنه لم يذكر اسم الكاتب المطلوب محاكمته وكأن كاتبا غيري هو الذي دعى وسافر وتكلم في مؤتمر باريس! وعلى الرغم من عدم اهتمامي في البداية بهذا العبث إلا أنني وجدت أن ما حدث كان مقدمة لحملة ضارية تحاول أن تصورني بمظهر الكذاب المدعي وكان لابد أن أقف منهم موقف الرجل من الصبية الصغار فكتبت إلى الرأي العام في مجلة “صباح الخير” اكشف هذا العبث وأوضح أن كل ما يشغل ثروت أباظة وشلته في اتحاد الكتاب ثلاثة أشياء: ضرب أي تفكير علمي، منع ظهور أي موهبة جديدة بل وقتلها، خنق المدرسة الأدبية التي أمثلها لدرجة الموت.. وهم لا يستطيعون ذلك بالطرق الأدبية لأنهم لا يملكون القدرة على الخلق فلجأوا إلى النفاق حتى يستميلوا المسؤولين وهكذا انفصل اتحاد الكتاب تماما عن الحركة الأدبية وتحول إلى قلاع حكومية”.

وأضاف إدريس: “وانتهزت فرصة استضافتي في إذاعة الشرق الأوسط لأعلن على الرأي العام انسحابي من اتحاد الكتاب وسحب ثقتي منه بعد أن أصبح عمله التشهير بالكتاب وليس حمايتهم”. ثم ذهب إدريس للحديث عن موقف توفيق الحكيم منه فقال: “دأبت دائما على معاملة الحكيم معاملة الأستاذ والشيخ الجليل وعندما وضع يده في أيدي أصحاب البنطلونات القصيرة اضطررت إلى معاملته بنفس معاملتهم. فأنا لا كبير عندي إلا الأدب. وبعد كل ما حدث التقيت بالأستاذ الحكيم وحاول أن يبرر لي موقفه على أساس أنه لم يذكر اسمي وكأن هذه منّة منه ومنحة فنظرت إليه وتذكرت عودة الروح التي قرأتها وأنا صبي وضربت كفا بكف وبطريقتنا المصرية الخجولة أمام كبار السن قلت: فليسامحك الله أيها الشيخ فلم أكن أتصور  أن الفنان يظل طفلا إلى الأبد”.

كاتب قصة فقط

لم يتوقف هجوم يوسف إدريس على الحكيم في هذا الحوار، بل امتد إلى نجيب محفوظ حيث قال: “للأسف انضم نجيب محفوظ لهذه الشلة. أما تفسيري لذلك فهو أن الأستاذ نجيب إنسان غريب لقد كنت أراجع كتاباتي في الأيام الأخيرة فوجدت أنني قد كتبت عن نجيب أكثر من ستين مرة واكتشفت أيضا أن المرة الوحيدة التي ذكر فيها نجيب اسمي كانت في ندوة بالإسكندرية مع الحكيم وثروت أباظة ومجموعة من هواة الأدب وكان وقتها يقول رأيه في الطريقة التي يجب أن تتبع لمساءلتي عن الدعاية لنفسي. إن نجيب محفوظ إنسان في غاية الرقة والأدب ولكنه يعيش لنجيب محفوظ فقط. إنه يدعي دائما أنه نصير الكتاب الشبان في حين أنه لم يساهم بكلمة واحدة في حق كاتب جديد، بينما ساهمت أنا شخصيا في ظهور 16 كاتب قصة قصيرة ورواية منذ الخمسينيات وحتى الآن كتبت عنهم وكتبت مقدمات لأعمالهم وكتبت عن أعمالهم حين ظهورها، شيئ آخر قد يفسر موقف محفوظ مني لقد ذكر في حديث له –أثار دهشتي- أنني مهما كتبت روايات فسوف أظل كاتب قصة قصيرة فقط!! وهذه للعلم المرة الأولى التي يدلي فيها نجيب محفوظ برأي في حق كاتب آخر.. حسنا يا أستاذ نجيب وشكرا”!

اقرأ أيضا

ملف| يوسف إدريس: المعارك الكبيرة.. والمعارك الصغيرة

مصري مجهول يهاجم إدريس وهيكل.. والشرقاوي يطالبهما بالصمت

خالد عبدالناصر: لهذا لم أسامح يوسف إدريس

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر