قصيدة| أبا عن جد.. ليدا منصور

سمك، سمك

أكلتي المفضلة

إقلي السمك يا رفيقة الدرب

إني عائد بعد قليل…

تجوَّل وجال باله

أخذ التاكسي قبل الظهر

يا ليته لم يفعل!

لم حددتم الساعة الواحدة موعداً للغداء؟

ألا تغيرون عاداتكم!

إلتهموا السمك في الصباح واستريحوا لتهضموه

أمّا الجدّ لا يردعه رادع التجديد والموضة

ذهب فرحاً إلى المدينة

التي كانت حزينة

ترّاسات القناصين كمناشير الأعداء

تسقط من السماء وتصعد من الأرض

قدم القنَّاص ثابتة على أرض الجسر العتيق

كالنخلة الصلبة

يصبر يصبر ولو جفت المياه

هذا يزيد عطشه

فتزداد نكهة الوليمة

***

داخل السيارة شابان جميلان والجدّ

«انزلوا جميعا دون اعتراض»

يا لسخافة التعليمات، فمن يعترض على الحرب تحت الحرب؟

ما زال الجدّ فرحان يتأنس للسمك المقلي

يترقبه على أحّر من الجمر

«ويحُك ! من أين تأتي؟»

نعم، هكذا يتكلم القناصون

لغة المسلسلات المدبلجة

يا إله الأوطان والحدود المفتوحة

جاوِبهم وجَنِّبني الكلام

«من أين أنت يا رجل؟»

صحيح أن الجدّ رجل

أتى من بعيد

ترحّل ولجأ

نصب خيمة ثم حجر ليستقر

الجدّ لا يحب الترحال

بل السمك المقلي مع كأس عرق وطني مُعتق صُنع في جبال لبنان

الجدّ لا يأتي فهو هنا

يبيت ويصحى كالجميع

يعمل ويأكل

بل يدفع فاتورة الكهرباء

شيء نادر هذه الأيام

تحت الحروب، لا أحد يدفع الفواتير

بل يدفعون الثمن غالي

دفع الجدّ سعر أصله

يسمونها «الجنسية»

ما أغرب الكلمات

ما أصعب أن تشتق مفردات مناقضة لنفسها من جذرٍ وحيد

حتى اللغة قنّاصة لا ترحم

تدعونا للنزول من التاكسي المحترم

تسألنا من نكون

ونحن نجيب

كلمة واحدة تكفي

****

لمَ لمْ يكذب الجدّ ليخترع جنسية أخرى؟

لم قال الحقيقة؟ فالقانون لا يحمي الأغبياء

ألم يدرك أن الكذبة أيضا بيضاء

ألا يُقلِّد لهجة البلاد!

ألا يحتال!

فَقَدَ القناص السيطرة عندما ظنَّ أنه مسيطر على الوضع

فتح النار…

فجأة اعتذر القناص

«عفوا، لم أكن أقصد»

يا لخيالي الواسع الوسيع

منذ متى يعتذر القنّاصة؟

هذه هي نعمة الكتابة والأدب

نكتب ما لا نُصدِّق

نكتب المستحيل

علّه يصير

ومن قال أن اللغة ساحرة تُحول الفقير إلى أمير

والجد الفلسطيني إلى لبناني، مصري، كويتي، أي شيء

فقط للنفاذ بجلده!

الجدُّ يحب السينما المصرية،

لمَ لمْ يتكلم كالممثلين؟

رشدي أباظة، أحمد رمزي، سعاد وجه القمر!

حتى صباح الشامية حفظت المصري عن ظهر قلبها؟

الحرب تُعلمنا إدخال اللهجات في مناهجنا

كي لا نموت

****

عندما تصطاد الأسماك

تطبخها، تقليها ثم تفقد شهيتك

تُضيِّع فرصة أكل وجبتك المفضلة

هذا قاموس الحرب

لم يعد الجدّ الى الدار

ورفيقة الدرب ما زالت تنتظر

أمّا السمك بَرَدَ

هل تذكرون أشعب المحتال الكاذب في نوادر أدب العرب؟

كَذَبَ أشعب كي يأكل

بعد الحروب، أفضل الدروس للصغار

«اكذبْ لتعيش»

كان يا ما كان، ذاك الجدّ عاشق السمك

هكذا روت الجدّة الرواية

على أسماع الحفيد

الطفل فخورٌ بجدِّه

لكنه لم يمنع نفسه من السؤال:

«يا جدتي، أَقُتِلَ جدي لأنه يحب السمك؟»

****

من منكم يُسعِفها، يخترع إجابة؟

فترجمة روايات الكبار شاقة على الأطفال

الجدّ قُتل بسبب هويته

(بسبب!… هكذا يتكلم الكبار)

أما نسخة الطفولة:

«حُبُ السمك يؤدي الى الموت رميا على الجسر»

لماذا يجمع الأطفال بين السمك والموت ؟

الطفل لا يُترجِم

الطفل ساحر حنون لا يريد أن يسمع كلام الأجداد

السحر والجمال كالحرب والقنّاص، نرثه أباً عن جدّ

 

د. ليدا منصور، باحثة وكاتبة من فرنسا

ledamansour@hotmail.com

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر