وداعًا ترب السيدة نفيسة.. دهسها البلدوزر الحكومي
تتواصل عمليات هدم جبانات القاهرة، الأمر الذي يهدد بزوالها قريبًا بعد انتهاك نسيجها العمراني والتاريخي الفريد وتمزيقه كل ممزق، ولا أدل على هذا المصير الأسود الذي ينتظر الجبانات التاريخية للعاصمة المصرية، مما يحدث حاليًا من أعمال هدم واسعة لترب السيدة نفيسة التي تعود بتاريخها لنحو 1200 عام تقريبًا، والتي تشهد عمليات إزالة واسعة تجعل مصير هذا الجزء الشمالي من القرافة الصغرى قاب قوسين أو أدنى من الإبادة والدخول في دنيا الفناء مع الإبقاء على بعض المعالم الأثرية التي تقف شاهدة في وحدتها على الهدم الذي دمر ما حولها من تاريخ وتراث.
عند التجول في ترب السيدة نفيسة نجد أن الخط الموازي لطريق صلاح سالم قد تم إزالته بعمق عدة أمتار، كما أن الشارع الذي يقف على رأسه حوش كريمات حسين باشا شاهين، والذي يضم ضريح أمير الشعراء أحمد شوقي، أصبح كله في ذمة الله. أما المبنى ذاته الذي يضم ضريح شوقي فيقف وحيدًا في الطلل، ينتظر أن يضربه بلدوزر ضربة قاضية تمحي أثره، لتفقد المنطقة التاريخية والتراثية أحد معالمها الكبيرة، بينما تم تدمير منطقة شاسعة من المقابر بين صلاح سالم وجامع السيدة نفيسة، فضلا عن إزالة العديد من المقابر خلف الجامع، والتي تقع بجوارها العديد من المقابر الأثرية والتاريخية.
***
موثقو جبانات القاهرة نشروا الكثير من الصور في الفترة الأخيرة، توثق كارثة إزالة مقابر السيدة نفيسة، والتي تأتي في إطار خطط حكومية معلنة لإزالة مساحات شاسعة من جبانات القاهرة بهدف إقامة شبكة من المحاور المرورية ومجموعة من المطاعم والكافيهات والمنتجعات السياحية. وركزت حملة الإزالات على جبانة القاهرة الشرقية المعروفة باسم القرافة الصغرى، والتي تضم ترب الإمام الشافعي وترب السيدة نفيسة، بغض النظر على ما تحتويه من تاريخ وتراث لا يمكن تعويضه إذا فقد.
من جهته، قال إبراهيم طايع، أحد أشهر موثقي جبانات القاهرة، إن أعمال الهدم الجارية كانت قاسية لكل مهتم بجبانات القاهرة، لأنها أدت إلى إزالة شبه كاملة ومحت معالم المكان بعدما نسفت النسيج العمراني لترب السيدة نفيسة.
وتابع: “الأوضاع مأساوية فنحو ثلثي مقابر السيدة نفيسة تعرضت للإزالة، ويشمل ذلك العديد من المقابر ذات المعمار المميز، فضلا عن مقابر شخصيات مهمة مثل: شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وشيخ الأزهر حسن مأمون، والشيخ عبد الله دراز، ودرية شفيق، وسبق الجميع إزالة قبر يحيى حقي، وبغض النظر عن الشخصيات التاريخية المهمة المدفونة في ترب السيدة نفيسة والتي أطاح بها البلدوزر، فإن مدافن تلك المنطقة كانت مميزة جدًا من حيث الطراز المعماري المعروف باسم المملوكي الحديث، كما أن قبر سمير الإسكندراني مهدد بالإزالة أيضًا”.
***
المكان يضم تشكيلة من الآثار التي تنتمي لفترات تاريخية مختلفة، بما يعكس الأهمية الاستثنائية لمنطقة ترب السيدة نفيسة، ويأتي في مقدمتها قبة الخلفاء العباسيين ورباط أم العادل وقبة السيدة (الست) جوهرة، وباب الصحراء الملاصق لها، وغيرها من الآثار التي لا نعلم عنها شيئا، لأنها تحتاج إلى حفائر وتوافر إمكانات للكشف عن ما تحتويه هذه المنطقة من شواهد أثرية ستكون خير معين لأي باحث عن تاريخ هذه المنطقة، التي تشكل مساحة مهمة في تاريخ مدينة القاهرة. الأمر الذي يعني بذل الجهود لا لتدمير هذه المساحة كما هو حاصل، بل العمل للحفاظ عليها وتنميتها والاستثمار فيها بالإبقاء على هذا التراث العظيم، والذي تكون عبر مئات السنين ولا يمكن تعويضه.
تعود ترب السيدة نفيسة بتاريخها إلى بداية القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي تقريبًا، عندما دفنت السيدة نفيسة في قبرها بمنزلها بخط درب السباع ودرب يزرب، بعد وفاتها العام 208هـ/ 824م، وتحول القبر على الفور إلى نقطة جذب روحية هائلة للمصريين، إذ شاع عن قبرها الذي قيل إنها أعدته بنفسها، أنه “أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر”، بحسب ما ذكر المقريزي في (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار).
لذا بدأ على الفور دفن عدد من آل البيت بجوار قبرها في الشارع المعروف حاليا باسم شارع الأشرف، كما أن الأهالي من أبناء العاصمة المصرية رغبوا في دفن موتاهم بجوار قبر السيدة نفيسة، ومنذ تلك اللحظة ظهرت ترب السيدة نفيسة التي تشكل الامتداد الشمالي للقرافة بالأساس.
***
وبنيت مقبرة السيدة نفيسة على يد والي مصر عبيد الله بن السري بن الحكم، لكن العناية الفائقة بالقبر جاءت على يد خلفاء الفاطميين بداية من الوزير الأجل أمير الجيوش بدر الجمالي؛ الوزير القوي للخليفة المستنصر بالله، الذي على ما يبدو أعاد بناء الضريح وزوده بباب كان مصفحًا بالحديد، وألصق بجواره لوحًا من الرخام كتب عليه تاريخ الإنشاء في عام 482هـ/ 1098م.
كما أجرى الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله عملية تجديد شاملة للضريح شملت تجديد القبة وتبليط المحراب بالرخام العام 532هـ/ 1138م.وأمر السلطان المملوكي الناصر محمد ببناء جامع بجوار المشهد النفيسي، العام 714هـ/ 1314م، ثم جدد الجامع والمشهد نهاية القرن التاسع عشر، ثم قرب نهاية القرن العشرين.
***
وجود نقطة الجذب الروحانية ممثلة في مشهد السيدة نفيسة ولد حركة دفن نشطة حول الأخير، الأمر الذي جعل هذه المنطقة تنمو كجبانة جديدة للعاصمة المصرية منذ أن كانت تعرف باسم الفسطاط وما لحقها من تمدد تحت مسمى العسكر والقطائع، ورأينا اهتمام النخبة السياسية والثقافية للدفن بالقرب من مشهد السيدة نفيسة مثلما هو الحال مع السلطانة الأيوبية شجر الدر التي بنت قبتها الضريحية بالقرب من مشهد السيدة نفيسة.
وكذلك قبة السلطان المملوكي الأشرف خليل وتربة خوند خاتون، ومقبرة الخلفاء العباسيين نزلاء القاهرة، فضلا عن مقبرة موفي الدين التي تعود للعصر الفاطمي، والتي استمر الدفن فيها بعد ذلك، وهو ما يوضح أن عملية الدفن متواصلة في هذه الترب منذ القرن التاسع الميلادي حتى العصر الحديث أي على مدار أكثر من ألف سنة.
لكن هذا التاريخ الطويل لترب السيدة نفيسة التي تشكل الجزء الشمالي من القرافة الصغرى، لم يشفع أمام بلدوزر الهدم الذي مزق النسيج الحضاري والعمراني للمنطقة مرة واحدة وللأبد، فما جرى من هدم وصل إلى حد استباحة المنطقة وإزالة مئات المقابر في المنطقة الواقعة بين طريق صلاح سالم ومشهد السيدة نفيسة دون أي اعتبار لحجم التاريخ والتراث المهدر.
***
وإذا طبعنا مع حالة الاستباحة والهدم الموسع لمقابر السيدة نفيسة، فإن العقل لا يتقبل أن تتم عمليات الهدم ويتم البدء في عمليات بناء شبكة الطرق وربما مطاعم وكافيهات جديدة دون إجراء حفائر للكشف عن ما في بطون هذه المساحة التي تضم طبقات تاريخية، فكان من الصواب أن تتم الحفائر وتأخذ وقتها الكافي لكي تستخرج ما في بطون الأرض من كنوز تاريخية لا شك في وجودها بسبب استمرار عمليات الدفن التي اعتمدت في جزء منها على إعادة استخدام نفس المواد المستخدمة في حقب أقدم، كما تم الردم على طبقات تاريخية قديمة كما هو متبع في مختلف جبانات القاهرة الأمر الذي ضيع على مصر أكثر من فرصة ذهبية.
أول تلك الفرص تتمثل في الإبقاء على هذا النسيج الحضاري والعمراني الذي يشكل هوية تاريخية وتراثية فريدة لمدينة القاهرة، والاستثمار فيه وتنميتها لتحقيق عوائد سياحية فريدة لا ينافسنا فيها أحد، أما وقد فرطنا في هذه الفرصة بكل حماقة، فلدينا فرصة ثانية تتمثل في إجراء حفائر بشكل عاجل في المنطقة التي تمت إزالة مقابرها من عند صلاح سالم صوب مشهد السيدة نفيسة، وفي المنطقة الواقعة خلف المشهد قرب مشهد الست جوهرة،خادمة السيدة نفيسة، والتي كانت ستكشف عن كنوز أثرية مدفونة في الأرض تعبر عن تطور تاريخي على مدار أكثر من 1200 عام، لكن كل هذه الفرص ضاعت بجرة قلم على ورقة تحمل حكم الإعدام لتراث وتاريخ يتعدى الآلف عام فقدانه للأبد.
اقرأ أيضا:
المتحف الكبير.. لمن نقدم آثارنا؟









