هيكل في رحلة البحث عن قاتل أمين عثمان

«بدت لي القصة كما لو كانت فصلا من رواية مثيرة عن الجاسوسية».. هكذا تحدث محمد حسنين هيكل عن رحلة بحثه عام 1950 في دمشق عن حسين توفيق المتهم الأول في قضية اغتيال أمين عثمان. الذي اغتيل في يناير 1946 وصدر قرار الاتهام بأسماء 26 متهما أولهم هو حسين توفيق، الذي استطاع الهرب في 9 يونيو 1948، ووقتها كانت أخبار اليوم تولي اهتماما بالغا بهذه القضية. وكان هيكل بطبيعة الحال أحد أفراد كتيبة أخبار اليوم.

استطاعت أخبار اليوم أن تصل لحسين توفيق بعد هروبه عن طريق سعد كامل الذي استكتب حسين توفيق مذكرات هروبه لتنشر في الجريدة ويحقق انفرادا لأخبار اليوم. وبالفعل استطاع سعد كامل إقناع حسين توفيق بكتابة المذكرات التي شملت تفاصيل خطوات الهرب دون ذكر أسماء من شاركوا في إنجاح خطة الهرب.

مذكرات حسين توفيق

ونشرت المذكرات في أخبار اليوم في عدد 11 أغسطس 1948 بمانشيت عريض “مذكرات حسين توفيق بخط يده… نصر صحفي عالمي.. أغرب قصة هروب في تاريخ مصر”. وأرفق مع المذكرات صورا حصرية لحسين توفيق.

قبل ذلك كانت آخر ساعة هي أول من نشرة صور لحسين توفيق وأنور السادات وباقي المتهمين من داخل السجن. وكانت عملية تسريب كاميرا تصوير إلى السجن مغامرة من المغامرات الصحفية الكبرى لآخر ساعة وقتها. بعد ذلك استطاع حسين توفيق الهرب خارج مصر إلى سوريا وأصبح حديث الناس. وفي أواخر عام 1949، قيل إنه قد قبض عليه في دمشق وتضاربت الأقاويل واحدة تقول إنه في سجن المزة وأخرى تقول إنه في سجن القلعة وثالثة تقول إنه حر طليق وأخيرا ظهر أن من ألقى القبض عليه هو شبيه حسين توفيق.

في دمشق

وفي يناير 1950 سافر محمد حسنين هيكل إلى دمشق والتقى حسين توفيق بعد مغامرة صحفية مثيرة وصفها بأنها فصل من رواية مثيرة عن الجاسوسية. بدأت القصة عندما كان هيكل في دار الأركان السورية، وإذ برجل غامض يقول له: علمت أنك تبحث عنه! فقال له هيكل: مَن هو؟ وأجاب الرجل مبتسما في خبث: حسين توفيق.

ثم يتابع هيكل تفاصيل هذه المغامرة المثيرة بالتفصيل في مقال نادر بعنوان “قابلت حسين توفيق في دمشق منذ يومين” نشره في يناير 1950 بمجلة آخر ساعة.

يقول هيكل: “منذ فترة قليلة كان حسين توفيق حديث كل الناس. وجاء يوم منذ شهرين استطاع حسين توفيق أن يشغل فيه كل وكالات الأنباء. فقد قيل فجأة إنه ألقى القبض عليه في دمشق وتأرجحت البرقيات وتضاربت. واحدة تقول إن النبأ صحيح وأن حسين توفيق في سجن المزة، والثانية تقول بل إنه في سجن القلعة، وثالثة تنفي أن حسين توفيق قبض عليه أساس، ورابعة تقول أنه ألقى القبض على شبيه له. ثم سيل أخر من البرقيات يتحدث عن تسليمه أو عدم تسليمه وأخيرا.. فجأة استقرت البرقيات واستراحت وأعلن أن الذي قبض عليه ليس هو حسين توفيق بل هو شبيه له أطلق سراحه على الفور”.

مقال نادر لهيكل في مجلة آخر ساعة
مقال نادر لهيكل في مجلة آخر ساعة
مقابلة في دمشق

في يناير 1950 كان هيكل في مهمة صحفية في سوريا. وكان شديد الوثوق من أن حسين توفيق ما زال مختفيا في مكان ما بسوريا ينتظر حتى تهدأ العاصفة. ثم ساقت الظروف والمصادفة رجلا من ذلك النوع الغامض الذي تقف أمام تصرفاته حائرا، التقى هيكل هذا الرجل الغامض أثناء مغادرته دار الأركان السورية. واقترب منه الرجل الغامض وقال:

– علمت أنك تبحث عنه!

فأجاب هيكل في براءة الملائكة:

– مَن هو؟

قال الرجل وهو يبتسم في خبث:

– أنت تعرف…. ثم استطرد وهو يغمز بعينه: حسين توفيق

ولم يترك الرجل الغامض لهيكل فرصة الرد وقال:

إني أعرف أين هو. وإذا انتظرتني في “الأوريان بالاس” في الساعة الحادية عشرة من صباح غد فسوف تتلقى مني رسالة. وأدار الرجل ظهره ومضى.

الرجل الغامض

يقول هيكل: “ساورني الشك في ذلك الرجل الغامض ثم قلت:

– وماذا أخسر إذا أطعته على أي حال

وفي الساعة الحادية العاشرة صباحا كنت في الصالة الكبرى بفندق “الأوريان بالاس”. وكنت جالسا أتحدث مع شلة من السياسيين السوريين، بينهم الأستاذ كبارة بك وزير العدل. ونظرت في ساعتي خلال الحديث وكان قد مضى نصف ساعة على الحادية عشرة وفي نفس اللحظة تقريبا اقترب مني إحدى خدم الفندق وهمس في أذني:

– إن ذلك السيد يسأل عنك

وكان السائل شخصا آخر غير رجل الأمس الغامض ونهضت ألاقيه واسأله ماذا يريد مني؟

ولم يقل الرجل شيئا بل مد يده بورقة صغيرة تناولتها منه وتركني ومضى دون أن يقول شيئا إلا كلمة تحية عابرة وفتحت الورقة ولم يكن فيها غير خمس كلمات:

“اطلبني في تليفون رقم…. بعد نصف ساعة”

وفي الساعة الثانية عشرة جرّب هيكل أن يطلب ذلك الرقم ورد عليه صوت أدركه لأول وهلة.. إنه صوت رجل الأمس الغامض وقال الرجل على الفور لهيكل:

– سوف تجده الآن في محل (….) الحلاق في شارع… واعتبر الرجل المحادثة انتهت ووضع سماعته وانتهى الأمر!

عند الحلاق

غادر هيكل الأوريان بالاس مسرعا إلى عنوان ذلك الحلاق وأخيرا دفع باب المحل ودخل. كان هناك ثلاثة رجال على المقاعد غطى الصابون وجوههم وحملق هيكل فيهم جميعا ولم يكن حسين توفيق بينهم. وعندئذ أقبل صاحب المحل يسأله: ماذا يريد؟

وقبل أن يجيب هيكل فتح باب المحل ودخل شابان وكانا حسين توفيق وعبدالقادر عامر، المتهم الفار من سجن الحضرة في الإسكندرية.

قال هيكل لصاحب المحل: لا أريد شيئا.. واتجه مسرعا إلى حسين توفيق فابتسم له حسين توفيق وقال:

– لقد علمت بوجودك من يومين أنك في دمشق ولكني لم أتصور أننا سنلتقي، فأجابه هيكل: لقد كنت في انتظارك هنا.

وقال حسين بدهشة: في انتظاري؟؟ ومن أين عرفت أني سأجيء هنا؟

ويستمر هيكل في وصف هذه المغامرة قائلا: “قلت لحسين توفيق عرفت من أصدقائك ووصفت له ذلك الرجل الغامض الذي رتب كل شيء ولم يستطع حسين توفيق أن يتعرف عليه! ثم جلسنا في سيارتي وحسين مازال يفكر في من هو ذلك الرجل الغامض، وكيف استطاع أن يتعقب أثره! وقلت لحسين توفيق:

– قل للسائق إلى أين نذهب، وضحك حسين وقال:

– كنت أريد أن أدعوك إلى بيتي ولكني من سوء الحظ أعتقد أن هناك من يراقبني الآن، ولست أريد أن يعرفوا عنواني ولقد اضطررت في الشهر الماضي إلى أن أغير مسكني ثلاث مرات.

وقلت لحسين توفيق: إذن تجيء معي إلى غرفتي في الفندق!

أعيش في قلق

وقال لي حسين توفيق: إنه يعيش في قلق، وضحك وهو يقول ماذا أعمل في كل يوم انقلاب جديد ووراء كل انقلاب جديد حركة مطاردة عنيفة لي. والمصيبة أن الصور التي نشرتها لي الصحف المصرية طبعت ملامح وجهي في أذهان كثيرة وسهلت مهمة الذين يطاردونني ومنذ فترة ذهبت أستأجر بيتا ونظرا صاحب البيت في وجهي وقال: إن وجهك ليس غريبا عني ولقد رأيتك من قبل دون شك.

وقهقه حسين توفيق وقال: وطبعا لست في حاجة إلى أن أقول لك إني لم أستأجر بيت ذلك الرجل الذي يعتقد أنه رآني من قبل، وكثيرا ما فوجئت وأنا سائر في أحد شوارع دمشق بشاب يقترب مني ويقول: ألست حسين توفيق؟

ويستمر حسين توفيق في حواره مع محمد حسنين هيكل قائلا:

– ولقد نشرت عني الصحف في بعض الأحيان أنباء تزيد من حدة المطاردة ورائي، إحداها مثلا قالت أخيرا إنني كنت مشتركا في حادث الاعتداء على الكولونيل ستيرلنج مراسل التيمس في دمشق وسمعت بذلك قبل أن تصل الصحيفة إلى دمشق، فسارعت إلى المتعهد واشتريت منه كل الأعداد خوفا من أن يقع أحدها في يد بعضهم فتشتد حدة المطاردة من جديد.

ويتدخل عبدالقادر عامر في الحوار قائلا:

– بل لقد حدث وأنا سائر في الطريق أن التقيت بشاب يمسك في يده بنسخة من هذه الصحيفة واتجهت إليه مسرعا اسأله: من أين أتيت بهذه النسخة؟ ودهش الشاب ولكنه قال: لقد أتيت بها معي من مصر اليوم واستأذنت الشاب واشتريت منه النسخة.

متاعبي في دمشق

وقال حسين توفيق:

– إن متاعبي في دمشق ترجع إلى عاملين

العامل الأول: الغلاء الفاحش وخصوصا في إيجارات المساكن وأنا كثيرا ما اضطر- كما قلت لك- إلى تغيير مسكني وتصور أنني دفعت مرة خمسة عشر جنيها في الشهر إيجارا لغرفة صغيرة فوق سطح منزل نصف متهدم!

أما العامل الثاني: فهو أنني أبحث عن عمل، لقد كنت وفقت في العثور على عمل وأقبلت عليه بحماسة ونشاط، ثم فجأة أحسست بحلقة المطاردة تضيق حولي.. وتركت العمل آسفا واختفيت ولكن البطالة تضايقني فما لبثت أن خرجت بحثا عن عمل جديد.

وماذا عن مصر

وسكت حسين توفيق لحظة ثم قال:

– أنت تريد أن تضحك عليّ؟ أني أريد أن اسألك أنا عن أخبار مصر

قال له هيكل: ما الذي تريد أن تعرفه من أخبار مصر؟

وشرد حسين توفيق ببصره من النافذة ومرت دقيقة صمت ثم تنهد وقال وصوته يختلج:

– الحقيقة أن مصر كلها أوحشتني..

البحث عن الرجل

إلى هنا انتهى الحوار الدائر بين هيكل وحسين توفيق في رحلة البحث عن الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لسنوات طويلة، ولم تنته علاقة هيكل الصحفية بحسين توفيق عند هذا الحد.

فبعد هذا اللقاء الذي توجته مغامرة وصفها هيكل بفصل من رواية مثيرة عاد هيكل مرة أخرى ونشر حلقات جديدة من مذكرات حسين توفيق وذلك بعد هذا اللقاء بسبع سنوات وتحديدا عام 1957 عندما كان يترأس هيكل تحرير مجلة آخر ساعة.

فخرجت المجلة بعناوين عريضة تقول: “آخر ساعة تحصل على صفحة من مذكرات حسين توفيق” وعناوين جانبية تقول: “حسين توفيق يروي لآخر ساعة بعض الحقائق الخفية التي ربطها عامل الزمن وعامل المغامرة وعامل التجربة.. إن الشاب الذي قتل أمين عثمان وعاش مغامرة الاغتيال السياسي يتكلم بصراحة ويروي الحقيقة بكل ما فيها من أبيض وأسود”.

اقرأ أيضا

ملف| في ذكراه: قصة أول حوار سياسي أجراه محمد حسنين هيكل

الهجوم على هيكل: زوبعة في فنجان صغير للقهوة العربية المُرة

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر