عمال وفنانون وقتلة في «سوق الساعة» بكرموز

في «سوق الساعة» بكرموز في الأسكندرية يتجاور الموت بالحياة، ومحلات لعب الأطفال تجاور محلات بيع الأكفان.  تذهب النساء لزيارة المقابر أو لتوديع قريب، ويعدن محملات بالملابس والأقشة، بعد مفضالات وجدالات مع البائعين الذين افترشوا المكان. يبعد السوق أربع خطوات من سور المقابر الذي أصبح فاترينة كبري لعرض كل شىء. «باب مصر» يتجول في السوق الكبير مستعرضا تاريخه.

سوق الساعة

يتكون سوق الساعة بكرموز – الموازي للمقابر حتى أخر شارع باب سدرة- من عدة محال تجارية مؤجرة من أصحاب البيوت التي تطل على الترب العمود أو العمود نفسه. وأيضا باعة جائلين يفترشون الأرض على أقفاص هشة من السلال، أو نصبه خشبية متآكلة في وسطها شمسية يعلق عليها بمسامير الملابس والأقمشة.

ويخدم سوق الساعة بشكل أساسي احتياجات سكان جبل ناعسة، وراغب، وكرموز، وغيط العنب، وباب عمر باشا، والباب الجديد، وغربال، وكوم الشقافة، ومساكن المفروزة، وطابية صالح، من ملابس وأقمشة ومستلزمات التنجيد.

هذه المناطق تعتبر ذات كثافة سكانية تقف على خط الفقر بتوازن هش. من الطبيعي ألا يفكر أي من هؤلاء السكان سوى في شراء الأساسيات. لكن سوق الساعة غير هذا المفهوم بسبب أسعاره الرخيصة مقارنة بجميع الأسواق الشعبية في مدينة الإسكندرية، مثل سوق ليبيا في منطقة المنشية التي تبعد حوالي أربعون دقيقة سيرا على الأقدام من كرموز. أيضا إمكانية التقسيط وشراء الأقمشة بالكيلو بدلا من المتر.

تاريخ السوق

يعتقد معظم البائعين في سوق الساعة بكرموز أن السوق موجود منذ الأزل. وأن خروج النساء لشراء القماش والملابس بعد حضور جنازة أو زيارة المتوفون، أيضا يحدث منذ الأزل. بينما يؤكد أهالي المنطقة أن السوق كانت بدايته مؤقتة في منتصف السبعينات في أيام الخميس، مثل خميس رجب، وخميس شعبان، وأيام الأعياد لبيع الملابس المستعملة مع بعض البضائع. مثل لعب الأطفال من طبل وعصى وصاجات. واستمر بهذا الشكل حتى أوائل الثمانينات بدخول فكرة البضائع المقلدة لتتطور التجارة وتصبح يومية. وأضافوا المفروشات ولوازم التنجيد بعد شراء أو تأجير المحلات عبر أجيال من تجار ينتمون لحي كرموز أو خارجه من البيوت المطلة على المقابر. ويعتقد الأهالي كما الباعة أن السبب الرئيسي في تكوين هذا السوق هو تواجد النساء بصفة يومية لزيارة المقابر.

أسواق ومقابر

بالبحث عن أسواق شعبية نشأت بجانب المقابر في مدينة الإسكندرية مشابهة لسوق الساعة مثل مقابر المنارة ومقابر برج العرب ومقابر أبيس ومقابر الشاطبي. حيث تتواجد النساء بصفة يومية أيضا. بجانب أن عدد من هذه المقابر تتقارب المساحة المحيطة بها مع المساحة التي يحتلها سوق الساعة. والسكان الذين يعيشون بالقرب من المقابر مستواهم الاقتصادي مقارب للذين يعيشون بالقرب من مقابر العمود. لكننا لن نجد على مر تاريخ هذه المقابر سوى بيوت وباعة فاكهة وخضراوات وأكشاك أو محل بقالة لبيع العصائر والحلويات والسجائر، تحوم حولها.

حكايات الرحالة والمؤرخين والصور بدورها تخبرنا بأشياء أخرى عن تاريخ هذا السوق وسبب تواجده بالقرب من المقابر.

فجر باب سدرة:

بعد الفتح العربي الثاني لمدينة الإسكندرية كان أجزاء من سور الإسكندرية من جهته الشرقية والجنوبية قد هدمت. عندما أعيد بناء السور تقريبا في سنة 9 هجرية في عصر أحمد بن طولون. روعي في هذه المرة أن يضم المناطق الآهلة بالسكان لأنها أكثر المناطق حاجة للدفاع عنها، ومنها كانت المباني والبيوت التي يشرف عليها عمود السواري، التي كانت تسمى في العصر الروماني بالحي المصري.

عند إعادة بناء السور نعرف من الرحالة الذين زاروا الإسكندرية في هذا العصر، الذي ذكرهم جمال الدين الشيال في كتابه “الإسكندرية في العصر الإسلامي” أنه قد بنيت أبواب تقابل أبواب السور القديمة. ومنها كان باب سدرة نسبة لشجرة عاتية من أشجار السدر كانت بجانبه.

يطل شارع باب سدرة على عمود السواري وأحد أهم الأذرع الممتدة لسوق الساعة. في العصر الأيوبي والمملوكي سمي بباب البهار. فقد كان بهار الهند والشرق الواصل إلى القاهرة عبر البحر الأحمر يحمل منها إلى السفن، لتسير في النيل ثم إلى خليج الإسكندرية. حيث تفرغ خارج الإسكندرية عند هذا الباب. وفي الأوقات التي تتعطل فيها الملاحة كان يحمل البهار عبر قوافل من الجمال تأتي من الطريق البري وتدخلها من باب البهار.

ازدهار تجاري

استمر الحال بهذا الشكل من ازدهار تجاري حول باب سدرة ومنه إلى المدينة كلها حتى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح. ثم انهيار الدولة المملوكية. ثم الفتح العثماني لمصر. بدأت الإسكندرية في الاضمحلال والتأخر لأنها فقدت أهميتها التجارية.

يخبرنا ألير رافينو ديليل في كتابه (Description de l’Égypte) عن الفراغ الذي حدث في المناطق التي حول السور بعد اضمحلال المدينة. فيقول: “قد خلا من المساكن فيسير الإنسان فيه عدة ساعات دون أن يرى من معالم العمران سوى الأطلال الدارسة..”.

حتى هذه النقطة لم يذكر أحدا من الرحالة والمؤرخين في هذا العصر وجود سوق يخدم سكان هذه المنطقة، من حيث احتياجه للقماش موجود على هامش المقابر أو بالقرب من باب سدرة. إنما تم ذكر دار الطرز والوكالات من العصر العثماني في منطقة المنشية، كأحد أهم الأسواق الشعبية لشراء واستيراد القماش للعامة وتصنيع الملابس للأثرياء.

عمال وفنانون وقتلة

عادت الحياة مرة أخرى لهذه الرقعة بعد فتح الترعة التي أمر بشقها محمد علي بالإسكندرية، وسميت بترعة ومدينة المحمودية في عام 1820م. بعد هذا التاريخ حدثت حركة هجرة ضخمة من الأرياف إلى الإسكندرية، بحثا عن حياة أفضل خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى. حيث جاء عدد كبير من سكان محافظات الصعيد إلى مدينة الإسكندرية، واستوطنوا بوفرة في كرموز وغيط العنب وشارع باب سدرة وكوم الشقافة.

اشتغل معظم رجال هذه الجالية كعربجية وشيالين في الميناء الشرقية أو في مينا البصل المطلة على شاطئ ترعة المحمودية، التي كانت مركز تجارة الجملة في المحاصيل المصرية، كالعسل والسكر والحبوب والقطن. سكنهم بجانب هذه المنطقة المطلة على ترعة المحمودية، وفر لهم عمل إضافي. الاستيراد والتصدير على الطريقة الصعيدية التي كانت شائعة حتى أواخر الستينات، ينتقلون من الإسكندرية عبر ترعة المحمودية محملين ببعض البضائع الأجنبية المتوفرة في الأسواق الإسكندرية لقراهم في الصعيد. ثم شراء صفائح السمن والعسل الأسود والفسيخ والعودة إلى الإسكندرية لبيعها فيها.

ريا وسكينة

في عام 1912م سكن محمد عبدالعال القادم من قرية موشا بأسيوط في كوخ بناه له أخوه بجانب بيته في غيط العنب. وعندما تعرف عبدالعال على سكينة وتردد على بيتها في كوم الشقافة أكثر من مرة وتعرض لمضايقات من حسب الله ومن الجيران، رغب عبدالعال أن يسكن مع سكينة في بيت يخصهم، لذلك انتقلوا إلى شارع باب سدرة حوالي سنة 1917م.

بقراءة التحقيقات الخاصة بريا وسكينة كما نقلها صلاح عيسى في كتابه “رجال ريا وسكينة”، نعرف أن في هذا الوقت كان السوق الشعبي الأهم في منطقة المنشية. تتناوب عليه النساء لشراء وبيع ما يريدون، سواء من الحلي أو لشراء القماش. على الرغم من أن ريا وسكينة سكنوا في 5 شارع ماكوريس بحي كرموز، لكننا لا نجد أي سيرة لترددهم على سوق في منطقة كرموز.

في صورة قديمة لشارع باب سدرة تعود لعام 1920م. نجد عدد من المقاهي والمحلات الصغيرة على جانبي الشارع حولها أشجار السدر. بينما يظهر عمود السواري كاملا حتى قاعدته.

عمود السواري

الآن نستطيع أن نرى بالكاد عمود السواري من شارع باب سدرة، بسبب السور والملابس المعلقة في الشارع. لكننا سنجد ثلاثة مقاهي في نفس المكان، لكن بنشاط مختلف. مقهى “الكسفريتي” ومقهى “الحاج عبدالرحيم” ومقهى “الددة للفنانين”.

بدأ نشاط هذه المقاهي في منتصف الأربعينات. نعرف من رواد مقهى الددة للفنانين أنها كانت مقر لمتعهدي الأفراح والحفلات. وأيضا الراقصات والموسيقيون والمطربون بكل درجاتهم، بعد انتهاء نمرهم في الأفراح كاستراحة بين فرح والآخر. حتى قضى هدم المسارح التي كانت في كرموز وغيط العنب بكثرة واستبدلت بموضة القاعات والدي جي على أهمية المقهى وعلى مسيرتهم الفنية.

يتجمع الفنانون القدامى كل يوم على المقهى لسرد أمجاد الماضي. يجزم بعض الرواد أن عبدالعال تاجر الأخشاب ومتعهد الحفلات جلس مع عبدالحليم حافظ سنة 52 على هذه المقهى. قبل أن يغني في المسرح القومي للإسكندرية “صافيني مرة” ليقذفه الجمهور بالطماطم والبيض.

رغم هذه الحركة والنشاط الفني، لن نجد أي صور في منتصف القرن الماضي لشارع باب سدرة تدل على وجود سوق شعبي فيه.

نساء غيرن الخريطة

يعتقد أهالي كرموز وجود سوق الساعة بسبب تردد النساء بشكل يومي على المقابر. وهذا الاعتقاد يأخذنا إلى واحد من تقاليد أهالي محافظات الصعيد. حيث في صباح أول يوم العيد تذهب النساء مع أولادهن إلى زيارة المقابر بعد أن تملأ قفة كبيرة بالقرص والبسكويت والفاكهة وجريد النخل وفروع الشجر.

دائما ما يوجد بجانب المقابر في جنوب مصر أيام المناسبات مراجيح وباعة جائلين يفترشون الأرض. يبيعون الفاكهة ولعب للأطفال مثل الطبل والعصا والربابة والصاجات وحلوى السكر على شكل حصان للأولاد وعروسة للبنات. تترك الأم عيالها ليلعبوا بعد أن ترسم لهم خط سير ترفيهي حتى يسهل عليها إيجادهم بعدما تنتهي من توزيع الطعام وقراءة القرآن ووضع فروع الأشجار وجريد النخل فوق القبور بتركيز.

يمكننا أن نفترض أن هذه العادة انتقلت بعد الهجر من الأرياف، الذي شهدته مدينة الإسكندرية في بدايات الماضي. لكن لماذا تأخر نشأة سوق الساعة حتى الثمانينات؟

نساء الصعيد

تخبرنا عبير إبراهيم قمرة في كتابها “المرأة والمدينة الكوزموبوليتانية”، أنه في سنة 1927 كان عدد النساء المهاجرات من الصعيد أقل بكثير من عدد النساء المهاجرات من الريف للإسكندرية، بنسبة بين 45.3% و40% من أعلى مناطق الدلتا. ويقابلها 20.5% إلى 32.7% بالنسبة للمهاجرات من الصعيد.

وتوضح قمرة أن هذا التفاوت في النسبة يرجع إلى عدم رغبة الرجال في وجود نسائهم في الإسكندرية. وتطلعنا على وثيقة قانونية يظهر فيها قضية شهدتها محكمة الإسكندرية الشرعية تعود لمارس 1899م. حيث “طالب محمد حربي البربري، المزارع من جزيرة أبي الريس تبع مركز أسوان، والمقيم لدى أحمد يعقوب البربري في حي العطارين. أن تحكم المحكمة على زوجته رية بنت مصطفى أن ترجع معه إلى موطنهم بأسوان. لأنهم كانوا في زيارة لأبيها في منطقة كفر عشري. وأنها امتنعت من العودة معه وطالب المحكمة أن تجبرها على طاعته والتوجه معه محل توطنهم..”

هذه الحكاية تؤكد أن وضع المرأة الصعيدية في الإسكندرية لم يكن سهلا. وأنه أخذ وقتا، ربما أجيالا حتى تتجذر عادتهم في المدينة. ربما حتى الثمانينات كما حكا أهالي كرموز. ليكون للصعيديات أقارب مدفونون في ترب العمود يترددون عليهم بشكل يومي. ليصبح من المطلوب والمقبول في هذا المكان أن ينشأ سوق شعبي، مثل سوق الساعة ليتسنى للنساء ممارسة الحياة بجانب من فقدوهم عن طريق التسوق بعد قراءة القرآن وتوزيع القرص والمال بأريحية.

مراجع:

تاريخ مدينة الإسكندرية في العصر الإسلامي: دكتور جمال الدين الشيال.

Description de l’Égypte: Alire Raffeneau Delile

الإلمام بالإعلام بما جرت به الأحكام المقضية في وقعة الإسكندرية في سنة سبعة وستين وسبعمائة: محمد بن القاسم النويري السكندري.

رجال ريا وسكينة، سيرة اجتماعية وسياسية: صلاح عيسى.

المرأة و المدينة الكوزموبوليتانية، تاريخ الجندرية في المجتمع السكندري: عبير إبراهيم قمرة‎.

الثقافة السكندرية: عزة هيكل ت: عصام عبد ربه.

اقرأ أيضا

سألنا عن قواعد الإطلاع: زيارة أخرى لمكتبة محمد حسنين هيكل

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر