من الأدب الفرعوني| «ولا تقولن كذبًا فأنت الميزان».. تعرف على شكاوى الفلاح الفصيح التسع

تعود قصة “الفلاح الفصيح” إلى العصر الأهناسي “الإقطاعي” لعام 2000 ق.م، والتي تعود ترجمتها الأصلية للنص الهيروغليفي إلى “ساكن الحقل”، ولكن اصطلح الآثاريون ودارسو التاريخ القديم على تسميتها بـ”الفلاح الفصيح”.

يسرد الدكتور سليم حسن، في كتابه الأدب المصري القديم، أن قصة الفلاح الفصيح تقع في ثلاثة أجزاء، الأول هو سرد لحكاية الفلاح وصراعه مع الموظف الفاسد الذي اغتصب ممتلكاته، ليضطر الفلاح إلى رفع 9 شكاوى إلى المدير الكبير، الذي يرفعها بدوره إلى الملك “نبكاو رع”، والذي أعجب بالأسلوب الأدبي الراقي لتلك الشكاوى، فأمر منذ أن تليت عليه الشكوى الأولى، ألا يجاب الفلاح إلى مطالبه حتى يستمر في صياغة الشكاوى البليغة مكتوبة حتى يدخل السرور إلى قلب الفرعون، أما الجزء الثاني فهو سرد للشكاوى التي عرضها الفلاح، والتي اعتمد فيها الفلاح أسلوب التورية والاستعارة المكنية في مخاطبة المسؤول الكبير، فمرة يصفه بالميزان ومرة بالفيضان ومرة بحارس العدالة، وفي كل مرة يطالبه بإقامة العدل والانتصاف من الظالم لصالح المظلوم، وفي الجزء الأخير من القصة، ردت للفلاح بضائعه المسلوبة وعوض أيضا من مال الموظف الفاسد.

قصة الفلاح الفصيح

حسب الترجمة التي أوردها، محمد أبو رحمة، في كتابه “حواديت فرعونية”، نورد تفاصيل القصة والشكاوى التسع التي حررها الفلاح، تقول الحكاية: قرر “خنوم حتب” وهو فلاح من حقل الملح “وادي النطرون” السفر إلى مصر لبيع بعض المنتجات المحلية ليشتري بثمنها طعاما لأطفاله، فيقول لزوجته “ماري”: “انظري، إني ذاهب إلى مصر لإحضار طعام لأطفالي، فكيلي لي 6 مكاييل من القمح لتصنعي لي الخبز والجعة، وسيتبقى لك ولأطفالك 20 مكيالًا من القمح”.

مكيدة

حمل الفلاح حماره القوي بأجولة من البضائع المتنوعة مما ينتج وادي النطرون من ملح وثمار وغلال، استغرقت رحلته أياما، متزودا فيها بالخبز وشراب الجعة، ددخل مصر في الصباح، فرآه “تحوت نخت” والذي كان يعمل تحت أمرة المدير الكبير “رنزي”، أعجب تحوت نخت بالحمار وما عليه من أحمال، ودبر مكيدة للحصول على الحمار والحمولة، ولما كان بيت “الموظف الفاسد” يقع بالقرب من النهر ويقع أمامه ممر ضيق لا يتسع إلا بعرض ثوب من الكتان يغطي جسد رجل بالغ، وفي الناحية الأخرى حقول القمح خاصته، فقام تحوت بفرد خيط كتان من ثوبه بعرض الممر.

وما أن هم الفلاح بالمرور، حتى صاح منبها: “انتبه، اتريد أن تدوس على ثوبي؟”، فاستجاب الفلاح وحول وجهته إلى الناحية الأخرى، فصاح الموظف: أتريد أن تدوس على قمحي؟، وبينما الفلاح يبدي اعتراضه على تحذيرات الموظف السمجة والتي تظهر سوء نيته، قضم حمار الفلاح بعضا من عيدان القمح، فما كان من الموظف إلا أن قبض على الحمار بحمولته وأوسع الفلاح ضربا ويقول له “هذا عقاب أن حمارك أكل من قمحي وسآخذ الحمولة والحمار عوضا عنه”، وحسب القصة ظل الفلاح لعشرة أيام يتضرع للموظف دون جدوى، فبدأ الفلاح في رفع 9 شكاوى إلى المدير الكبير “رنزي” مطالبا بتحقيق العدل ورفع الظلم عنه.

الشكوى الأولى “أقم العدل”

استهل الفلاح الشكوى الأولى بديباجة عرض الموضوع، معددا القاب وصفات المدير الكبير “رنزي”، وذكره أنه منوط به إقامة العدل، فبقول دعني أجعل اسمك في الأرض مع كل قانون عدل هل لك أن تسمع؟، أقم العدل”.

الشكوى الثانية “من يكبح الباطل؟”

وفي هذه الشكوى، وجه الفلاح اللوم للمدير الكبير، معبرا عنه  بميزان العدل، فناشده قائلا: “يا خيط الميزان الذي حمل الثقل، يا مثقال الميزان، لا تمل”، ثم قال محذرا: “إن العدل يفلت من تحتك”، ثم يورد أسباب ذلك بقوله: “إن كيال أكوام الغلال يعمل لمصلحته، وذلك الذي يجب أن يحكم بمقتضى القانون، يأمر بالسرقة، فمن الذي يكبح الباطل؟”.

الشكوى الثالثة “لا تكونن ضد الشاكي”

خاطب الفلاح المدير “رنزي” قائلًا: “وأنت حابي إله النيل، الذي يجعل الأراضي حقولا، اكبح جماح السارق، ودافع عن الفقير، ولا تكونن فيضانا ضد الشاكي، أن أصدق طريق للبلاد، هو إقامة العدل، ولا تقولن كذبا، فأنت الميزان”.

الشكوى الرابعة “كن صبورا”

وفي هذه الشكوى يخفف الفلاح من حدته، فيوجه نصائح للمدير تساعده في إقامة العدل، فيقول: “كن صبورا، حتى تتمكن من الوصول إلى العدل، واكبح جماح اختيارك، تغاض عن خطأ سيتضاعف، لا تجعلن قاربك ترتطم”.

الشكوى الخامسة “أنك تعاضد اللصوص”

قال الفلاح في بداية الشكوى الخامسة: إن متاع الرجل الفقير يوازي حياته فيقول: “إن أملاك الرجل الفقير بمقام النَفَس له”، ثم يذكره بمهامه قائلا: “ولقد نصبت لتسمع الشكاوى، وتفصل بين المتخاصمين وتكبح جماح اللص”، ثم يستدرك الفلاح قائلا: “لكن تأمل، أن ما تفعله هو أنك تعاضد اللصوص”.

الشكوى السادسة “أن المحكم متلاف”

وتظهر الشكوى السادسة، نفاذ صبر الفلاح من خمول وبطئ المدير في إقرار العدالة فيعبر عن ذلك بقوله: “أن المحكّم متلاف، والمصلح موجد للحزن”، ثم يصف حالته إزاء عدم نجدته في  محنته وإمكانية أن يحوله الظلم إلى شخص غير سوي، فيورد: “أن حزني يفضي إلى النزاع، واتهامي يؤدي إلى تحول”.

الشكوى السابعة “إن جوفي لملآن”

في الشكوى السابعة يقارن الفلاح بين الموظف الكبير “رنزي” وإله الحكمة تحوت. فيقول له: “يا سيدي إنك معادل لتحوت، تقضي دون أن تنحاز إلى جانب”، ثم يعود ليؤكد أن رجلا فقيرا وضعيفا مثله لن يستطيع مواجهة رجل فاسد إلا إذا وقفت العدالة في صفه، فيورد قائلا: إن “منتهك حرمة القانون، وخارق المتبع من الأمور، لن يستطيع رجل فقير أن يواجه نهبه، ما لم تواجهه العدالة”، ثم  يشير الفلاح إلى أن شدة الظلم هي التي دفعته إلى الكلام فيعبر قائلا: “حقا إن جوفي لملآن، وإن قلبي مفعم وقد طفح من جوفي تقرير عن تلك الحالة، لقد كان صدع في السد، فتدفق منه الماء، وقد انفتح فمي للكلام”.

الشكوى الثامنة “اكتب يا قلم”

يلوذ الفلاح في هذه الشكوى بالسماء مخاطبا الآلهة ومطالبا أقلامها أن تكتب العدل وتحيد عن الظلم.. فيقول: “أقم العدل  لرب العدل، والذي عدل عدالته موجودة.. وأنت أيها القلم وأنت أيتها البردية وأنت أيتها الدواة.. ويا تحوت “إله الحكمة والكتابة”، ابتعدوا عن عمل السوء.

الشكوى التاسعة “سأشكوك إلى أنوبيس”

وفي آخر شكوى يتحدث الفلاح بلغة الاستعطاف للحاكم، والذي لم يستجب لثماني شكاوى سابقة.. مذكرا إياه بأنه ميزان العدالة ولا يجوز في حقه الميل ناحية الظالم. فيقول: “إن لسان الناس ليس إلا لسان  ميزانهم. وهو الميزان الذي يبحث عن نقائضهم، وقع العقاب على من يستحق العقاب.. غير أنه لا شيء يماثل استقامتك، أن الصدق هو ثروة”.

كما يسترسل الفلاح في  رجاءه للمدير بأن ينظر في قضيته ويحكم فيها.. قائلا: “لا تتوانين، يا من لا تسرع، ولا تكونن متحزبا ولا تصغين لقلبك.. ولا تسترن وجهك من إنسان تعرفه، ولا تتعامين عن إنسان قد رأيته.. ولا تردن إنسانا يشكو إليك، اترك هذا الخمول”.
في نهاية الشكوى، قال الفلاح للمدير صراحة إنه لا يسمع شكواه ويهدد بأن يشكوه هو نفسه للإله أنوبيس.. فيقول: “تأمل، إني أشكو إليك وأنت لا تسمع شكواي، فسأذهب وأشكو منك إلى أنوبيس”.

انتصار المظلوم

حسب ما أورد محمد أبو رحمة في خاتمة القصة، فقد أعجب الفرعون بفصاحة الفلاح، وأمر رنزي، المدير الكبير.. بأن يحكم في قضيته، فاستدعاه  كما استدعى “تحوت نخت” الموظف المعتدي.. وتتلى شكاوى الفلاح على مسامعهما.. وأمر “رنزي” موظفه بإعادة ما سلبه من الفلاح.. كما صادر منزله وأعطاه للفلاح كعقاب للموظف الفاسد على  ما ألحقه من أضرار للفلاح الفقير.

شخصيات القصة “حسب ترتيب ورودها في القصة”:

– خنوم حتب “ساكن حقل الملح” والمسمى اصطلاحا “الفلاح الفصيح”
– ماري: زوجة الفلاح
– تحوت نخت: الموظف الفاسد الذي اغتصب متاع الفلاح.
– رنزي: المدير الكبير للبيت ورئيس الموظف الفاسد.
– الفرعون “نبكاو رع”
هوامش
1- الأدب المصري القديم – د.سليم حسن – مهرجان القراءة للجميع 2000 – ص 54 إلى 57.
2- حواديت فرعونية – محمد أبو رحمة – حابي للنشر والتوزيع 2005 – من ص 202 إلى 224.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر