فصل من رواية| الوصفة الفرنساوية للفوز بماما

بحثَ لنا الدكتور في هذا البار المتنكِّر على شكلِ بيتٍ عن غرفةٍ هادئة بعيدة عن صداع السَّمَّاعة التي يرقص عليها المعازيم في الصالون، حتى وجدنا أوضة في عمق الشقة كنبتها مريحة بها بلكونة نَسيمها وافر تطل على قبة الكنيسة المجاورة التي بَدَت كعينٍ مفتوحة على اتِّساعها متلهِّفة لابتلاع كل ما هو آتٍ في حفلة روز.

في إضاءة الغرفة الخافتة كمتحفٍ مكرَّس لمُقتنياتها جلسنا ننظر لكشَّافٍ مسلَّطٍ على لوحة تعرَّفنا فيها على وجه روز. وكان مرسومًا بتقليدٍ لوجوه “موديلياني” الممطوطة. سأل الدكتور بأنعرته إياها إن كنا نعرف أن أوَّل ملهى ليلي عرفته مصر كان اسمه “التيفولي”. وافتتحه نابليون في حديقة الأزبكية، كأنه كان لابد للفرنساويين أن يغزونا لنعرف طعم السعادة. لم تهتمَّ ليلى بمعلومته الإثرائية، وسألَته عمَّا يريد شُربه، طلبَ ويسكي وكوباية ميَّة. ولمَّا ضحكت اتَّهمها بالغباء والجهل بحقيقة أن شرب الماء يحمي من السُّكر.

شردَ عني وترنَّح برأسه مستعذِبًا الأغنية اليونانية الصادحة في أرجاء الشقة. قال إن لها نفس معاني أغنية محمد عبده “الأماكن كلها مشتاقة لك”. سألتُه عن أخباره ومشاريعه فهرشَ قفاه وسكتَ، ثم قال بنغمةٍ يائسة إن هذه الحفلة قلِّبتْ عليه المواجع، مصاريف حفلة واحدة من حفلات روز يمكن أن تغطِّي مصاريف كتب خارجية لتلاميذ فصلٍ بأكمله. المشهد الثقافي في مصر لم تَعُد تدعمه أي دولة من بين دول أوروبا بحضور وقوة فرنسا. وهي تريد بدورها الخيري الخبيث هذا لَيَّ أعناقنا وانتزاع اعترافٍ مستمرٍّ مِنَّا أننا مَدينون لها بفنوننا وتحضُّرنا. بل إذا أراد عيِّل من عيالنا أن يدخل الحمّام ينبغي أن يطلبها بلغتهم.

***

والسؤال هنا: هل فرنسا عبيطة لتظنَّ أن العرب يؤمنون بمبادئها فعلًا؟

دخَلَت زميلة روز في حصص الباتشاتا وجلَسَت على الفوتيه في وضعية متحرِّرة. ولمَّا سألها الدكتور باهتمامٍ عمَّا ضايقها اشتكت حاتم. بحَثَت ليلى عن مقعدٍ لها، ولمَّا لم تجد جلَسَت على حِجر الدكتور. كنت أعرف أنه اصطادها أو اصطادته منذ بدأ يدرِّس لها اليوناني؛ إذ رأيتهما معًا في الشارع، وكانت تتمسَّح فيه كالقطط، تنهَّدَت وقالت إن النبيذ حرَّرها. ثم وهي تتكلَّم وكأنها تخطُّ حدودًا لأي “أنثى” في الحفلة أو تعلِن عن إمكانيات ترسانتها، سحَبَت من على جسمها شالها كاشفةً عن بلوزة مخرَّمة عرَّت ذراعين لحيمتين، منذ زامَلَتني في الجاليري اعتقدت أن ليلى خُلِقت في يومٍ غير أيام خَلْقنا. كانت إحياءً لإغواء نساء الطليان في أفلام السباجيتي.

صعَدَت كليوباترا تتشمَّم ما آكله، في البدء أبعدتُ يدي عنها ثم تذكَّرتُ أن الحال من بعضه. كلانا لاجئ في بيت روز، فتحنَّن قلبي وأعدت ما بيدي لها لتواصِل جَسَّه بأنفها.

ترَكَت روز ضيوفها وأتت فجلَسَت بيننا، عزَّتها ليلى بالفرنسية على رحيلِ أُمِّها، فبَكَت وهي ترثيها بإنجليزية ممضوغة بلسانها الفرانكفوني المُعوجِّ، صنعَ نشيجها في غرفتنا على خلفية صراخهم وأغانيهم في الصالون حالةً من الخبلان لا يمكن أن تتواجد إلا في بيت خواجاية تُعامل الرقص كالعلاج. حاولت في صمتٍ تجميع كلامها عن الفقيدة خافيًا تعثُّري في اقتفاء معانيه. فكان كل ما فهمتُه منها أنهم أحرقوا جثمانها. شردتُ بعيدًا عن سيرة الموت التي هيمَنَت فجأة على الغرفة وصرتُ مع خيال البنت الروسية. وهو يتلوَّى في الخارج ناسِخًا حركات رقصها على حائط الصالون حيث أسقطه ضوء الشموع. وللغرابة كان ظِلُّها أكثر إغراءً من رؤيتها بشحمها ولحمها.

سأُسمِّيها “كلاشينكوف”.

God bless Ukraine

Love in my heart

Light in my heart

Peace in my heart

 Illuminate the whole earth with the light of our hearts. So that there is no more war in the world

Amen! 

***

آخر شيءٍ كنتُ أتوقَّعه أن تؤثِّر حربٌ في أوكرانيا على حفلةٍ في المنشية. لكن أيُّ مكانٍ مجنون في إسكندرية يمكن أن يصلِّي فيه الناس ويشربوا ويرقصوا في آنٍ واحد غير بيت روز.

ختَمَت كلاشينكوف صلاتها وسطنا بمُناجاة لم نفهمها، ولم يكن فيها أصلًا ما يحتاح لفهمٍ. إذ كانت مجموعة متتالية من الآهات اللحنية الحزينة كصلوات الكنائس البيزنطية. ولمَّا انتَهَت دعَت ربنا ليمنح الاستقرار لكلِّ اللاجئين الذين كتِب عليهم أن يتركوا كل شيء خلفهم ويبدؤوا من مكان جديد. سوريين كانوا أو سودانيين أو فلسطينيين أو أوكرانيين. أردتُ سؤالها إن كانت على مستوى شخصي روسيَّةً معارِضة أم هي دبلوماسية كفاية لتُجاري جوَّ الحفلة وضيوفها.

أخرَجَت لنا تليفونها ووجَّهت الشاشة لوجوهنا..

تدعوكم كاتدرائية سانت كاترين بالإسكندرية لحضور حفل غنائي من أجل السلام في روسيا وأوكرانيا والعالم بحضور سيادة المطران كلاويو لوراتي النائب الرسولي للاتين بمصر.

أعدكِ أن آتي يا كلاشينكوفي إذا لم تصلني يد الحوتِ قبلك.

***

وضَعَت روز ساقًا فوق الأخرى فانتفَخَت من تحت فستانها الذي لا يناسب عُمرها سمَّانتها البيضاء، وتشعَّبَت في جِلدها خيوطٌ رقيقة تُشبِه خريطة أرجوانية، قالت إن على بوتين إيقاف ما يُسمِّيه بالعملية العسكرية الخاصة، بينما هي في واقع الأمر جرائم حربٍ ضد المدنيين في أوكرانيا. من باب المُداخلة أو التطبيل لصاحبة الموكنة علَّقَت ليلى أن الروس في أمَسِّ الحاجة اليوم للاقتياد بالروح الفرنسية، سألها الدكتور بعصبية عمَّا تعنيه فأشارت وكأن الأمر لا يحتاج لتفسيرٍ لربيع باريس 68 الذي حاوَلَت شعوبنا الاقتياد به في الربيع العربي ثم ضحكَت وقالت بإنجليزية رصينة “لكننا للأسف لسنا فرنسيين”.

نظرَ الدكتور لنقطة خارج الغرفة وقال إنه ليس علينا أن نكون فرنسيين لننال حقوقنا، وأن الثورة كانت أكبر دليلٍ على وعي جيلنا، حتى لو كانوا ينادوننا بعواجيز يناير. تعجَّبتُ منه إذ يتنصَّل من دائرة شعبه في كل كبيرة وصغيرة، لكنه حين وُضِع في مناظرة مع أوروبية انحاز لحِسِّه القومي، خاصةً حين توصَّلوا لنقطة مِفصلية حول إن كانت يناير ثورة شعبية بمعنى الكلمة أم مجرد قلبة ترابيزة سببها تحايُل چيمي على الكُرسي؟ عارَضَته روز مُوضِّحةً أنها تكلَّمَت مع شبابٍ مصريين كثيرين بعد يناير، لكنها لم تجِد الثوريين على درجةٍ كافية من الوعي الفكري أو السياسي تمكِّنهم من إتمام أيِّ تغييرٍ جذري، بالعكس، لقد وجَدَت شعبنا يعتقد أن الديمقراطية تتعارض مع إسلامه؛ ممَّا يعني أن يناير اندلعت بسبب الكرامة والأوضاع الاقتصادية لا لإرساء دولة ديمقراطية بمعنى الكلمة؛ مما جعل الثورة تأكل نفسها سريعًا، حتى لو أطاحت بالرئيس.

***

مبارك أو ديجول لا فارق بينهما، ما يصنع التغيير الحقيقي هو عادات الشعوب وثقافتها، ألقت بنظرة ثقيلة على ليلى التي امتدحت الفرنسيين لمجرد أنهم فرنسيون وسألتها بشكلٍ جانبيٍّ إن كانت تعرف أن أحد قادة مايو 68 اتُّهِم فيما بعد بالبيدوفيليا؟

بتاتي بتاتو

 رقَّصني ياهو

صارتِ الأغنية التي هي مجرد هواء لحني مطلوق من سمَّاعة مفرغة وقد نسمعها كل يوم ونجدها عادية ونهزُّ عليها أجسامنا بتلقائية، هي النداء القادر أن يجعل كل هذه الأجناس التي تعج بها شَقَّة روز شعبًا واحدًا، كأنها آخر أغنية سمعها الكون قبل أن يبلبِل الله ألسنة سكَّانه.

***

أرى الحوت يجلس على فوتيه بجوار بابِ الغرفة يرمقني كأني نبيٌّ هاربٌ من ربِّه، أُعزِّي نفسي بأنها واحدة من تلك الأفكار التشاؤمية التي تصيبني في أيِّ مناخٍ مُبهِج.

بدا شيئًا محيِّرًا لي أنه برغم انشطارِ البشرِ حول الكرة الأرضية تظل المثيرات التي تحركنا نحو الآخرين واحدة.. وبرغم وجود أشياء كثيرة تفرقنا من حيث المظهر والعادات وبعض الأفكار إلا أنه لو خلعنا جميعًا ملابسنا لماعت خطوط خرائط العالم وألوانها وبدت الشقة كأنها جنينة حيوانات كبيرة في شكل جنة خفية يجتمع فيها البشر عرايا بعدما أسقطَ لهم الإله برجهم وطردَهم من فردوسه فلم يتبق لهم سوى بيتِ روز ليجمع شملهم، وهناك اكتشفوا السّر الأزلي الذي حَجبَه الله عنَّا وفَضَحَته شقتها؛ أننا والأجانب نعود لأصلٍ حيواني مشترَك، وأن الجنس متى تواجد لا يتَّكل على لغةٍ تسنده لأنه منبعنا وفِطرتنا، وأن لغاتنا وجنسانيتنا كلها في أصلها تفاصيل مراوغة بدلت الحفلة ملامحها.

مقاطع من رواية مارك أمجد «الوصفة الفرنساوية للفوز بماما» التي تصدر عن دار المحروسة.

اقرأ أيضا:

أربعة نصوص من «قبل أن يرتد إليك طرفك»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر