جمال الغيطاني.. معاركه وكلماته

القاهرة هي مدينتنا التي نعيش دائما معها حالة من العشق والكره. العشق نابع من عظمتها التي دوما تبهرنا، من ثرائها وخبرتها الذي جعل منها مخزون ثقافي لا ينضب. ممتد على مدى طبقات التاريخ المختلفة، هذه العاصمة المحورية، حامية العالم العربي والإسلامي منذ بداية نشأتها. أما حالة الكره فهي نابعة-ربما- من حالة الحزن لأننا نعي جيدا أهمية هذه المدينة التي تحتضننا. ونكره ربما حالة العجز التي نصل إليها عندما لا يستمع إلينا في محاولاتنا للدفاع عنها. كلما أجد نفسي في حالة من حالات الاستسلام هذه أذكر نفسي بكلمات أستاذنا الكبير جمال الغيطاني، فهو الذي عشق القاهرة وحبّبنا في شخصيتها الفريدة ونبهنا إلى عظمة بنائيها. أستذكر أحاديثنا وأعيدها في ذهني الآن بعد رحيله في محاولة لاستجماع الطاقة من جديد. إذ أن معركة الدفاع عن التراث مازالت مستمرة.

***

هكذا عرفت الغيطاني بكلماته التي تذكرنا دوما بقيمة المكان، وبعظمة صنعة الأجداد وبالمسؤولية التي تقع علينا لكي نوصل هذا التراث القاهري المتميز سالما إلى الأبناء. كانت بداية معرفتي به في صيف 2003 من خلال كتاب «الزيني بركات» وقد كان هدية من صديقة فرنسية وباحثة في تاريخ القاهرة المعماري والعمراني. وقد أهدتني نسختها الفرنسية التي كانت صدرت في نفس هذا العام. كنا وقتها نعمل سويا في منطقة السيدة زينب ونزور العديد من الآثار الإسلامية في المنطقة وكان هذا العام هو بداية معرفتي الحقيقية بالمدينة التاريخية عندما قررت أن أختار مسجد مملوكي للأمير أزبك اليوسفي. وهو أحد مماليك السلطان قايتباي لكي يكون موضوع رسالة الماجستير. وكان الكتاب بمثابة رحلة في عالم الماضي لأن الوقت الذي اختاره الغيطاني لأحداث الرواية لم يكن بعيدا عن فترة بناء هذا المسجد.

أما المعرفة الحقيقية للغيطاني فقد كانت في اجتماع في مكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك. حينما كان وقتها رئيسا لمجلس إدارة المكتبة وقد التقيته مع زوجته السيد ماجدة الجندي التي استمتعت كثيرا بصحبتها وتناقشنا كثيرا في القضايا الخاصة بالتراث المعماري في القاهرة. لا أتذكر تحديدا متى كان هذا اللقاء لكن ربما كان في خريف عام 2013. كنا في كل مرة نتواعد على الذهاب لزيارة مدرسة السلطان حسن سويا لكن للأسف لم يسعدني القدر. وصفه لهذا الصرح المعماري كان دائما ممتعا وهو يشرح كيف امتزجت فيه الهويات والأنماط من خلال الحرفيين والبنائين الذين جاءوا من بقاع بعيدة واشتغلوا مع المصريين. وقد نجحوا في خلط الطرز المختلفة في طريقة متزنة وشيقة مما جعل هذا البناء واحد من أشهر العمائر الإسلامية عالميا. وقد كان الغيطاني مغرما دائما بهذه المدرسة كما كان يسمى منطقة بين القصرين بوادي الملوك ذلك لوجود المجموعات الجنائزية لسلاطين المماليك وآخر سلطان أيوبي.

***

في ديسمبر 2010 طالعتنا الصحف باكتشاف عملية سرقة أذهلت الجميع. منبر مملوكي كامل اختفى كان قد صنع في بدايات القرن الـ16 يزن أطنانا ويرتفع لأكثر من خمسة أمتار. هكذا وبكل بساطة فقدت القاهرة واحدا من أهم منابرها التاريخية. وصل الأمر لمجلس الشعب الذي طالب النائب العام بفتح التحقيق. لكن سرعان ما هدأ الموقف ونسى المنبر. بعد حالة الاضطراب التي عاشتها البلاد بسبب الانفلات الأمني بعد 25 يناير، لم يكن أحدا مهتما أن يحقق في سرقة منبر قاني باي الرماح، حتى لو كان يقدر ثمنه في سوق الفن الإسلامي بملايين من الجنيهات. في منتصف 2011 قررت أن اكتب قائمة بالسرقات التي تتم في الآثار الإسلامية.

تصوير: منى عبد الكريم
تصوير: منى عبد الكريم

تزايدت حدة السرقات وأصبحنا عاجزين عن صدها. في 2014 كانت الحالة السياسية قد هدأت نسبيا لكن على العكس بالنسبة للسرقات. في شهر يناير وضعت داعش قنبلة مفخخة أمام مديرية أمن القاهرة المقابلة لمتحف الفن الإسلامي الذي تضرر بشدة جراء الانفجار. ساعتها قال لي أستاذنا إن المتحف هو المقصود وليس مديرية الأمن. المتحف هو الأهم في مجموعة متاحف الفن الإسلامي حول العالم نظرا لاحتوائه على مقتنيات من جميع العصور الإسلامية. لذا ليس صدفة أن تزرع داعش القنبلة أمامه.

***

في يونيو 2014 قمت برصد سبع سرقات مؤلمة تمت خلال الشهر لعدد من الآثار الإسلامية المهمة. وكان من ضمنها مدرسة السلطان حسن الذي فقدت بضع حشوات من كرسي المقرئ الموجود بالقبة الضريحية. أتذكر أنني هاتفته وأنا في مكتبة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية حيث كنت وقتها منهمكة في أبحاثي عن القاهرة المملوكية لإعداد رسالة الدكتوراه. هاتفته وأنا أبكي لأنني أحسست بالعجز وبالضعف إبان النزيف المستمر الذي يهدد تراثنا المملوكي. وقلت له هذه العصابات لن تهدأ حتى تأخذ كل ثمين مازال قائما في مساجدنا التاريخية. ساعتها وعدني بالتدخل بسرعة وبالفعل ذهب للحديث مع الأستاذ إبراهيم عيسى. ثم أخذني معه في لقاء ثان مع الأستاذ حافظ المرازي. وكنت قد أعددت ملف للصور وتم عرضها في الحلقة. ساعتها وبدأت الدولة تلتفت للخطر الذي يهدد آثار المماليك. لن أنسى له أبدا كيف كان مدافعا عن التراث وكيف ساندنا نحن المعماريين في هذه اللحظة المربكة.

اليوم هدأت السرقات، لكن الخطر مازال قائما مع أعمال التطوير والهدم المستمرة في جبانات القاهرة وفي منطقة عرب اليسار أسفل القلعة. اليوم فقدنا صوت الغيطاني لكننا لم نفقد كلماته لذا إذا وجدنا أنفسنا مستسلمين فلنقرأ كلماته من جديد لنتذكر قاهرة الغيطاني تلك المدينة الفريدة التي أحبها وأحببناها معه.

اقرا أيضا:

ملف| جمال الغيطاني.. مقاوما الفناء

جمال الغيطاني.. استئصال ذاكرة المدينة

كان جمال الغيطاني يجيد قراءة الأثر من أحجاره

قاهرة جمال الغيطاني.. مدينة بنفس صوفي

«سلام».. من نصوص جمال الغيطاني

الأبدية … من نصوص جمال الغيطاني

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر