مي الإبراشي.. عندما يصبح ترميم الأثر تاريخ وفن وعمارة وصبر
استطاعت الدكتورة مي الإبراشي، خلال عملها منذ أكثر من 20 عاما في مجال ترميم الأماكن الأثرية بالقاهرة، التأثير في أهالي هذه الأماكن، خاصة أنها لا تعمل على إصلاح المباني فقط، بل الارتقاء بالأحياء كاملة بما يشمل الحرف التراثية والقائمين عليها، لتحفر اسمها من نور على هذه الأماكن.
مي الإبراشي
تشرح الدكتورة مي الإبراشي، خريجة قسم العمارة بكلية الهندسة جامعة عين شمس، ما يمثله لها مجال الترميم، وتقول: “هو تاريخ وفن وعمارة وصبر، خاصة فيما يتعلق بتوثيق التراث”، مشيرة إلى أنها قررت التفكير خارج المجال التقليدي للهندسة، فاقتحمت مجال ترميم الآثار من خلال التدريب في أكثر من مكان بالقاهرة تجري به عمليات الترميم. من بيت الهواري إلى قبة الصالح نجم الدين الأيوبي، بدأت حياة الإبراشي في التبلور أكثر، منوهة بأنها تخرجت عام 1992 واشتركت في مشروع يعمل على مراجعة خرائط القاهرة التاريخية، ومنها حفظت شوارع القاهرة بأكملها. أما عن النشأة فقد عاشت داخل مزار سياحي مفتوح ومتنوع أيضًا، فقضت سنوات من طفولتها في الهند، التي شكلت جزءا كبيرا من شخصيتها لما تحويه من أماكن وأضرحة من العصر الإسلامي، وبعد عودتها من الخارج أقامت في مصر الجديدة، بالقرب من قصر البارون، لتعيش في حي تراثي يلهمها أكثر.. تقول: “هكذا حصل ألفة بيني وبين التراث من حينها”.
وتتابع: بعد التخرج اتجهت إلى دراسة تاريخ العمارة والفنون لمدة عام في الجامعة الأمريكية، ثم السفر إلى لندن لدراسة العمارة والفنون الإسلامية، لتثقل بذلك حبها للمجال بالجانب الأكاديمي الشامل، وبعد العودة من لندن عملت في أول مشروع ترميم من إدارتها وكان ذلك عام 1997 ولم تكن قد تجاوزت الـ27، كان المشروع سبيل “كتاب” بجوار مجموعة المنصور قلاوون بشارع المعز، فتقول: “كانت تجربة ظريفة كنت لسه صغيرة خالص والمشروع أخذته من أوله لآخره من أول التمويل لغاية دراسة المبنى نفسه، والتعامل مع الأهالي في المنطقة”.
بدأت الإبراشي في رسالة الدكتوراه بعد مشروعها الأول بجامعة لندن، وكانت عن تاريخ الجبانات في القاهرة التاريخية خصوصا الجنوبية ومنها منطقة الأمام الشافعي، بالتوازي مع العمل بالترميم، حتى جاء عام 2009 لتلتحق بمجال التدريس، وتصبح أستاذة بالجامعة البريطانية لمدة سنتين، وهنا استغلت العمل الأكاديمي بشكل يخدم حبها للآثار.
تقول الإبراشي عن ذلك: أصبحت أفكر بشكل مختلف في كون عدم وجود كيانات ثقافية متخصصة للعاملين في مجال العمارة والعمران، سوى قسم العمارة التابع لكلية الهندسة، رغم أنه في كثير من بلاد العالم يعتبر قسم العمارة تابع للفنون والإنسانيات، وهو ما جعلني أفكر في عمل مكان للطلبة المهتمين بالعمارة والعمران والجمع بين طلاب الجامعات المختلفة ذات الاهتمام الواحد، لتأتي فكرة فتح مكتب “جمعية مجاورة” كمكان مفتوح للطلاب، وذلك في أواخر عام 2011.
إنجازات حياتية
في عام 2012، بدأت “جمعية مجاورة” في ترميم منطقة الخليفة، لأنها منطقة ذات أهمية دينية ولما تحتويه من مباني أثرية هامة كجامع أحمد بن طولون وقبة شجرة الدر والجعفري وعكا، ومباني آل البيت، لتبدأ بترميم قبة شجر الدر وتتخذ من المستوصف الكائن في حرم القبة مقرا جديدا للجمعية، ومنها استغلت على ترميم مباني أخرى كالجعفري وعكا، وذلك بشكل متكامل ليس فقط من الناحية الأثرية، بل العمرانية أيضًا، لتعالج المناطق من المياه الجوفية والمخالفات واستغلال الأراضي الشاغرة وتحويلها إلى ملاعب وحدائق.
قدمت مي مشروع خدمي متكامل لأهالي مناطق الإمام الشافعي والحطابة، بالتعاون مع وزارة الآثار ومحافظة القاهرة، من خلال مخطط عام لتطوير الحطابة بديلا عن مخطط الحكومة بالإخلاء أو الإزالة، خاصة وأنها مسجلة كمنطقة عشوائية ذات خطورة من الدرجة الثانية، إلا أنها ترى في واقع الأمر أنها منطقة تاريخية وتراثية يجب الحفاظ عليها، وأيضًا قبة الإمام الشافعي، التي عملت على ترميمها مع تصميم مركز للزوار ومسارات للجولات داخل منطقة الإمام الشافعي.
صعوبات وتحديات
توضح مي أن كونها امرأة لم يشكل عائقا لها في التعامل بالمواقع الأثرية، بل عكس ما يتصوره البعض، فتقول: “تعامل الستات مع العمال أسهل من تعامل الرجال، وذلك لأن الحرفيين وعمال البناء والصنايعية يتعاملون بلطف وباحترام شديد وكأنها أخت أو ابنة في بعض الأحيان، فكل الحاجات تعلمتها منهم، معظم الصدقات التي كونتها كانت مع العمال والصنايعية”.
أما عن متطلبات الترميم، فتذكر أنه مجال يتطلب الصبر والدقة والشخصية القوية والمرنة في نفس الوقت، فهي لديها قدرة على التعامل مع المستجدات الجديدة سواء كانت تلك المرتبطة بمجال الترميم أو المسؤولين بالهيئات الحكومية ذات الصلة بمجال العمل، بالإضافة إلى إدارة المواقع بشكل سليم.
عقبات حكومية
تقول مي: “نظرة الحكومة الضيقة للآثار قد تعتبر من مصادر الإزعاج لدي خاصة أني أؤمن بأن التراث هو مجال شامل جامع لكل ما يدخل في مكوناته سواء كان الأفراد أو الحرف أو العادات والتقاليد وحتى أسلوب الحياة اليومية فهو تراث من نوع خاص”، مشيرة إلى أنها دائمًا ما تناشد بعدم التعامل مع القاهرة على أنها متحف مفتوح، فالقاهرة التاريخية سجلت كموقع تراث عالمي لأنها مدينة تراث حي.
توجه الإبراشي رسالة، فتقول: الآثار ليست الأهم، بل أن المهم الآثار وسط الناس في الشارع وسط كل النشاطات التي تمارس بنفس الطريقة أو بطريقة متشابهة لمئات السنين، وهو الأمر الذي يمنح القاهرة التاريخية رونقها، مؤكدة ضرورة العمل على تحسين سكن المناطق الأثرية من أجل جذب السياحة وليس العكس.