موائد البحر وسر الملوحة.. حكايات الصيف مع الأسماك في تراث السويس

في مدينة السويس، لا تُعد الأسماك والمأكولات البحرية، مجرد طعام يومي يقدمه البحر إلى موائد الناس، بل هي طقس اجتماعي، ومكون رئيسي في الذاكرة الجمعية، وموروث ثقافي ضارب بجذوره عبر السنين، حيث تتجاوز الأسماك هناك كونها وجبة، لتتحول إلى مناسبة سنوية واحتفال رمزي، سواء في المواسم أو الأعياد المختلفة.
وتُمثل المأكولات البحرية المستخرجة من المحار في خليج السويس أكثر من مجرد طعام، فهي قصة تراث وثقافة ممتدة عبر الأجيال، من أطباق الشتاء الشعبية إلى الصناعات اليدوية، ومن الصيادين المحليين إلى حلقات البيع اليومية. يحتفظ خليج السويس بكنز من التنوع البيولوجي والغذائي، يجعل من المدينة وجهة فريدة لعشاق البحر والطعام.
خليج السويس.. بيئة بحرية متنوعة
يقول بكري أبو الحسن، شيخ الصيادين بالسويس، إن خليج السويس يمتد على مساحة واسعة من البحر الأحمر. ليشكّل بيئة بحرية فريدة تتميز بتنوع هائل في الكائنات البحرية. فإلى جانب أنواع الأسماك المعروفة، يضم الخليج ثروة طبيعية من القشريات كالجمبري والكابوريا. فضلًا عن وفرة الرخويات داخل المحارات والأصداف، التي تحتوي على نسب عالية من الفوسفور والبروتين تفوق ما تحتويه القشريات والحيوانات البحرية الأخرى. ما يجعلها مصدرًا غذائيًا وصحيًا مهمًا لسكان مدينة السويس وضيوفها.
ويشير إلى أن تناول المحار في السويس لا يقتصر على كونه وجبة بحرية فاخرة، بل هو جزء من الثقافة الشعبية. خاصة خلال ليالي الصيف حيث الموسم الخاص بالمحار أو الشتاء الباردة. إذ يعد المحار المجفف مثل “السرومباء”، من الأطعمة المفضلة في جلسات المساء. حيث تتجمع الأسر لتناول السندويتشات المعدّة منه، مستمتعين بطعمه المميز وفوائده الغذائية العالية.
جمل البحر وأشهر أطباق الفوسفور
يوضح سمير عبد الكريم، الشهير بـ”اللول” أو “ياسين”، صاحب أقدم محل بمنطقة الغريب لبيع المأكولات البحرية، أن “جمل البحر” أو “السرمباء” هو اسم يطلق على أحد أشهر كائنات البحر التي تعيش في قاع خليج السويس. يتم اصطياده من داخل أصدافه، التي تسمى “العضمة”. ثم يسلق أو يجفف، ويؤكل باردًا أو كمجفف محفوظ لأشهر طويلة. وقد سمي بـ”جمل البحر” لأن هذه الكائنات تسير مصطفّة في قاع البحر كقوافل الجِمال. مما يسهل تتبعها وصيدها، ويعد طبق السرومباء المجفف من أكثر الأطعمة الشعبية رواجا خلال الشتاء. لما له من طاقة غذائية ونكهة بحرية أصيلة.
وأما “طماطم البحر”، فهي طبق مميز ذو طابع خاص، عُرف بهذا الاسم بفضل لون المحار الأحمر الذي يشير، بحسب الصيادين إلى غناه بالفوسفور والبروتين. ويعتبرها أهالي السويس من أكثر الأطعمة البحرية فائدة. إذ يتم تناولها طازجة أو بعد السلق وتقديمها باردة ضمن أطباق فسفور البحر المعروفة محليًا.
اللوجز والسريديا.. نكهات مختلفة من أعماق الخليج
يضيف “اللول أبو ياسين”، أن من الأطباق الباردة الشهيرة الأخرى، يأتي “اللوجز”، وهو رخوي يستخرج من أصداف متوسطة الحجم، يسلق على حرارة منخفضة ليحافظ على طعمه. ثم يستخرج بلطف بواسطة أداة تشبه الإبرة، وينظف من أمعائه ويقدم باردًا. ويقبل عليه الزبائن ممن يفضلون التجربة الأقل ملوحة أو طعما.
ويلفت إلى أن “السيرديا” من أنواع المحار ذات الأصداف الصغيرة اللامعة، التي تشبه أصداف اللؤلؤ. تستخرج منها المادة الغذائية بعد تنظيفها بعناية من الحفش والطحالب، ويستخدم الجزء المتبقي من الصدفة في الزينة وتطعيم التحف والأثاث. وتقطع أصداف السيرديا إلى قطع صغيرة تستخدم في الصناعات اليدوية. وتباع في محال الأنتيكات أو الحرف التراثية.
ولم تكن الأصداف البحرية في السويس مجرد مكونات لطعام البحر، بل كانت جزءًا من الصناعة والتراث. ففي أعقاب افتتاح قناة السويس، أنشأ الإنجليز مصنعًا للزراير (الأزرار)، اعتمد على أصداف السيرديا في تصنيع أزرار البدل والقمصان لضباطهم والعاملين الأجانب. وكان لمعان السيرديا الداخلي عنصرًا أساسيًا في تميز هذه الأزرار. استمر المصنع في العمل حتى ما بعد ثورة 23 يوليو. ثم أغلق مع تأميم القناة ورحيل الإنجليز.
وفي العصر الحديث، تحوّلت تلك الأصداف إلى خامة لصناعة الحلي والإكسسوارات اليدوية. ويعرض بعض الباعة، حلي مصنوعة من القواقع والمحار، إلى جانب الأطباق البحرية
رمزية السمك في السويس.. ما بعد الطعام
في أجواء الأعياد، تحتفظ مدينة السويس بطقس فريد لا يقل أهمية عن تحضير الكعك. وهو تجهيز وتناول السمك المجفف، وبينما تمتنع الأسر عن تناول الأسماك المملحة طوال شهر رمضان خشية العطش، يعودون إليها بقوة مع صباح العيد، من خلال طبق خاص يحمل عبق التراث. “البكالا”، كما يسميه أهل المدينة.
ومن بين عشرات الأنواع، تبرز سمكة واحدة تعَد الأشهر في هذا الطقس. وهي سمكة “الحريد” من نوع “الفرهودي”، تلك التي تعيش في البحر الأحمر. وتتميز بجمال ألوانها التي تشبه ريش الببغاء، وقوامها المتماسك الذي يناسب التجفيف. هذه السمكة تفقد خلال عملية التجفيف ما يزيد عن ثلثي وزنها. لكنها تحتفظ بطعمها الفريد. وتتحول إلى ما يشبه “ألواحًا فنية” معلقة في محلات السمك.
طقس سنوي يتخطى الحدود
لا تقتصر عادة تناول “البكالا” على أبناء المدينة، بل تمتد لتصل إلى المقيمين في الدول العربية والأوروبية، الذين يطلبونها من ذويهم خصيصًا، لتصلهم قبل العيد عبر الشحن. فهي ليست طعامًا فقط، بل ذكرى ومناسبة، تبدأ طقوسها في الأيام الأخيرة من رمضان وتتوج على مائدة العيد.
وفي حي “الغريب”، أحد أقدم أحياء السويس، يقف عبدالله زغلول، تاجر السمك المجفف، وسط محله الصغير الذي تبدو جدرانه وسقفه كمعرض فني طبيعي. الأسماك المجففة تتدلى بخيوط رفيعة، تحركها نسائم البحر، وتظهر قشورها اللامعة جودة التجفيف الذي خضعت له.
ويقول زغلول: “بشتري سمكة الحريد لما تكون وزنها فوق 5 كيلو، وبعد التجفيف بتنزل لـ 2 كيلو”. تستغرق عملية التجفيف نحو شهر في فصل الصيف. يتخلله تعريض السمكة يوميًا لأشعة الشمس نهارًا، وللتهوية ليلًا، حتى تفقد الماء وتصبح محفوظة من التلف.
تقنية فرعونية عمرها آلاف السنين
يشير زغلول إلى أن تجفيف الأسماك هو تقليد قديم يعود إلى العصر الفرعوني، حين كان المصريون القدماء يحتفظون بالأسماك عبر طريقتين: التمليح أو التجفيف. وكانت الطريقة الثانية أطول عمرًا وأكثر أمانًا للتخزين، حيث يمكن للسمكة المجففة أن تبقى صالحة للاستهلاك لأكثر من عامين. شرط ألا تلامسها مياه أو رطوبة.
ومع مرور الوقت، انتقلت هذه التقنية من مصر إلى دول البحر المتوسط، لتصبح جزءًا من تقاليد غذائية وثقافية مشتركة.
سر ماء البحر في تجفيف الأسماك
واحدة من أهم مراحل تحضير السمك المجفف، كما يشرح زغلول، هي غسله بماء البحر، ويستكمل: “ماء الصنبور بيخلي البكتيريا تنشط، وده ممكن يعفن السمكة”. مؤكدًا أن ماء البحر يجف سريعًا ولا يسبب نمو الجراثيم. مما يجعله الخيار الأمثل لغسل السمك قبل التجفيف.
وبعد غسلها، تفتح السمكة طوليًا من الظهر، تزال الأحشاء، وتملح بملح البحر. ثم تعرض للشمس والهواء. وفي الليل، توضع أمام مروحة أو في الماضي كانت تترك على الشاطئ، لتكمل عملية التجفيف التي يحذر خلالها من الأتربة. فيغطيها بشاش خفيف.
تجفيف سمك البكالا
يمتد موسم التجفيف نحو 30 يومًا، كما يقول الحاج عبد الله زغلول، ويتراجع خلالها وزن السمكة تدريجيًا. فبعد أن كانت 5 كيلو، تصبح نحو 1.5 كيلو فقط. الصيف هو التوقيت المثالي لهذه العملية. حيث الحرارة العالية تضمن تجفيفًا مثاليًا يمنع العفن أو الفساد.
ومع نهاية الشهر، تصبح السمكة جاهزة للعرض والبيع. في انتظار مائدة العيد التي تحتفل بها الأسر بطريقتها الخاصة.
طقوس تحضير “البكالا”
ليلة العيد تبدأ عملية الإعداد. تغسل السمكة المجففة بماء الصنبور لتُزال عنها الأتربة والملح الزائد، ثم تنقع في ماء نظيف طوال الليل. صباحًا، تعود لحم السمكة إلى ليونته، ويصبح سهل التفتيت عن الجلد.
يمكن طهيها بأكثر من طريقة، وأشهرها أن تطهى مع الطماطم، الشبت، البقدونس. أو تحضر كطاجن يدخل الفرن، ليصبح طبقًا رئيسيًا على مائدة أول أيام العيد.
موروث يمتد على طول البحر الأحمر
لا يقتصر هذا التقليد على السويس فقط، بل تمتد الخبرة إلى مدن أخرى على البحر الأحمر مثل سفاجا والقصير. حيث تعرف تلك المناطق بمهارة أهلها في تجفيف الأسماك.
اقرأ أيضا:
«يوم رجع الوطن لأهله».. حكاية الجلاء يرويها شاهد من قلب مدن القناة
حوار| الكاتب «محمد أيوب»: القصة القصيرة فنّي وعشقي.. والثقافة لا تُدار بعقلية الجزر المعزولة
بعد 40 عاما في البحر.. «محمد دياب» يصنع مجسمات تنبض بحياة الموانئ