من «عين المجلاة» إلى «الكنداسة».. ذاكرة العطش والارتواء في سفاجا

كحال المدن الحدودية والصحراوية، حيث يخوض البشر صراعًا دائمًا مع الطبيعة لصياغة بيئة صالحة للبقاء، كانت سفاجا ولا تزال مسرحًا لهذا النزال الأزلي. فبين جبالها تنبت الحياة من الشقوق، وتتشبث بالتلال، وتزهر حتى في أعماق الوادي، تبحث عن أي سبيل يمدها بأسباب الاستمرار، رغم قسوة ندرة المياه وأحيانًا غيابها تمامًا. ومع ذلك، لم يستسلم أهلها الذين عمروا هذه الأرض منذ مئات السنين، بل خاضوا رحلات شاقة في تتبع منابع الماء الصالح للشرب، حتى تحولت محاولاتهم إلى حكايات تُروى، وقصص خالدة تشهد على صلابة الإنسان أمام جفاء الصحراء.
بداية الحكاية
يقول محمد خيري، سبعيني من أبناء سفاجا: “بدأت الحكاية حين وطئت أقدام العربان أرض سفاجا، يحملون معهم عبق الصحراء ورائحة البحر من رحلات صيدهم الممتدة من شبه الجزيرة العربية واليمن، حيث اتخذوا من هذه البقعة موطناً لهم، يقتاتون من الرعي والصيد، ويجوبون الأودية والجبال بحثاً عن ماء يحيي قلوبهم العطشى ويمنحهم أسباب البقاء”.
ويكمل: استقروا في الأودية وفي جنوب سفاجا البلد، وتركوا أسماءهم بصمة على المكان. ويشهد كل من وادي العربان ووادي قاتل على صراع الإنسان مع قسوة الطبيعة ورغبته في الاستمرار. ومن هناك تواصلت سلالة هؤلاء الرواد الممتدة من جذور الجزيرة العربية. لتثمر في عائلات عريقة مثل آل عبدون وآل حمزة القاضي، الذين ما زالت صلة الدم والمصاهرة تشدهم إلى أقاربهم في الجزيرة، اللذين لم ينقطع بهم خيط الحنين.
عين المجلاة.. نبع الحياة في قلب الصحراء
رغم قسوة الصحراء والجبال التي تبدو حصونا شاهقة تعاند الرياح، يشير عثمان فتحي، من أبناء قرية أم الحويطات. إلى أن العربان والعائلات الأولى في سفاجا لم يجدوا ما يعينهم على البقاء سوى مياه الآبار والعيون. كانت هذه العيون متباعدة، تفصل بينها مسافات قد تستغرق أيامًا وربما أسابيع من الترحال. ولكونها المصدر الأول للحياة، كان يُسقى منها الإنسان والحيوان، وتمنح الصبر على العيش برغم قسوة الطبيعة. تكوّنت حولها بذور العائلات، ونشأت تجمعات صغيرة شكلت فيما بعد ملامح مدينة سفاجا.
ويضيف فتحي: “بين الرمال الممتدة والجبال الوعرة، وبالقرب من قرية أم الحويطات القديمة على ضفاف البحر الأحمر. وعلى بعد 16 كيلومترًا منها، وبضع عشرات من الكيلومترات عن سفاجا، تتجلى واحدة من كنوز الطبيعة “عين المجلاة”. التي ينبثق ماؤها النقي من قلب الصخور، على ارتفاع خمسة أمتار عن سطح الأرض. صافٍ كأنما خرج لتوّه من نبع الجنة، يروي العطاش، ويمنح القوافل حياة جديدة، وتشرب من مائها الإبل والماعز. وتحط عندها الطيور المهاجرة للراحة من سفرها الطويل”.
ويقول خالد رمضان، مرشد سياحي: “بسبب نقاء مائها أطلق عليها الأهالي اسم “عين المجلاة”، وصارت مقصدًا للرحلات والسياح. حيث تنطلق إليها قوافل السفاري من نزلاء الفنادق في سفاجا، للاستمتاع بسحر الطبيعة ودهشة المكان. فهي ليست مجرد عين ماء، بل شاهد على حكاية البقاء وسط الصحراء.
مياه عدن.. هدية البحر البعيدة
قصةً أخرى تكشف وجهًا آخر من وجوه الصراع من أجل البقاء، يقول المهندس علي غزالي الشاوري، أحد المهتمين بتراث سفاجا: “عندما بدأت شركات البترول تتوافد على شواطئ البحر الأحمر باحثة عن المعادن وموارد الطاقة، كانت سفنها تملأ المرافئ بين غارب وسفاجا. واعتادت هذه السفن أن تذهب إلى مصافي عدن في جنوب اليمن، وعند عودتها كانت تحمل على متنها (الماء)، الذي يسمى ماء الاتزان، بغرض الحفاظ على توازن المركب وهي تبحر.
ولم تكن هذه المياه نقية تمامًا. إذ تختلط أحيانا بآثار الوقود والبترول، لكنها مع ذلك كانت تُستقبل في سفاجا كما تُستقبل بشائر الغيث بعد طول جدب. كان الأهالي يهللون فرحًا عند وصولها، حتى غدت “مياه عدن” ذكرى راسخة في وجدان أهلها. وعنوانًا لصبرهم الطويل على قسوة الصحراء وشُح مواردها”.
الكنداسة.. آلة الماء ومعجزة الحديد
يروي محمد سعيد مصطفى، كبير معلمين وشاعر، حكاية مختلفة عن الماء ترتبط بذاكرة المدينة في زمن الاستعمار الإنجليزي. ففي عام 1907 أنشأ الإنجليز أول آلة لتحلية مياه البحر في سفاجا. كانت تعمل بالفحم، وتعتمد على تقنية تسخين ماء البحر وتحويله إلى بخار ثم تكثيفه لينساب عذبًا صالحًا للشرب. وقد أطلق الأهالي على هذه الآلة اسم “الكنداسة”، المأخوذ من الكلمة اللاتينية Condensate أي التكثيف، لتصبح رمزًا مبكرًا لمحطات التحلية الحديثة.
ويضيف: لم تكن “الكنداسة” مجرد آلة، بل كانت أشبه بكائن حديدي يتنفس بالبخار ويئن بصوت مبحوح كلما أدار العمال مفاتيح تشغيلها. حتى تفيض بالماء العذب، وكأنها روح منحت الحياة لمدينة عطشى. وارتبطت هذه الآلة بشركة الفوسفات، إذ كانت بمثابة الشريان الذي يروي عطش العمال والموظفين. ويحقق لهم الاكتفاء الذاتي من الماء الصالح للشرب.
ويشير مصطفى إلى أن أبناء سفاجا أثاروا الإعجاب بمهارتهم وإصرارهم، حيث أعادوا تشغيل “الكنداسة” بأيديهم وصنعوا قطع غيارها بعد أن توقفت الشركة المنتجة عن توفير الدعم الفني. وظلت “الكنداسة” تُصان وتُرمم حتى جاء عام 1967 حين أسلمت أنفاسها الأخيرة وتوقفت نهائيًا. لكنها بقيت في ذاكرة سفاجا كروح من بخار وحديد نسجت جانبًا من أسطورة العطش والارتواء.
المشربيات.. أول نبع حضاري يتدفق في سفاجا
يروي المهندس عادل غزالي، أن المطر الأول لم ينهمر على سفاجا من السماء وحدها، بل هطل في عام 1970 بقرار من الفريق سعد الدين الشاذلي، قائد المنطقة العسكرية الجنوبية آنذاك. حين أمر بمد خط مياه من قنا إلى سفاجا عبر مواسير من الحديد. وكان ذلك الحدث بمثابة نقلة نوعية أعادت تشكيل الحياة اليومية لأهالي المدينة. خاصة عمال الشحن والتفريغ الذين كانوا أكثر الناس معاناة من ندرة الماء.
ويضيف غزالي: كان من ثمار هذا المشروع أن وجدت خمس مشربيات. والمشربية عبارة عن بناء خرساني مرتفع عن الأرض بمسافة متر أو أكثر قليلاً. وحوله مقاعد حجرية، ويخرج منه أربعة صنابير يتدفق منها الماء. وقد نصبت المشربيات الخمس في قلب الأحياء الأكثر كثافة سكانية، أربع منها في منطقة سفاجا البلد، والخامسة عند منطقة الأشغال العسكرية.
ويتابع غزالي: لم تكن “المشربيات” مجرد صنابير ماء، بل كانت مسرحًا صغيرًا تتقاطع عنده الحكايات اليومية. إذ كانت النساء يجتمعن لملء الصفائح والجرار الفخارية بالماء، ويتداخل صوت حديثهن، الذي كان يخفت أحيانا لدرجة الهمس، مع صوت الماء المتدفق من الصنابير، بينما يلهو أطفالهن بجوارهن. وفي حال غياب النساء، كانت المقاعد المحيطة بالمشربية تتحول إلى أماكن يجلس عليها المارة لالتقاط أنفاسهم بعد سير طويل.
هكذا، ومن خلال تلك المشربيات، دخلت أولى قطرات الماء عبر المواسير إلى سفاجا. لتصبح رمزًا للتحضر وبداية فصل جديد في تاريخ مدينة طالما صبرت على الظمأ.
الخزانات الأرضية… ذاكرة العطش والارتواء
لم تنته رحلة البحث عن الماء، مهما تبدلت الوسائل وتغيرت الأزمنة. ويقول محسن حمد الله، من أبناء سفاجا: “مع تزايد الكثافة السكانية، عادت المدينة إلى الاعتماد على الخزانات الأرضية. إذ شُيّد في كل منطقة خزان ضخم بسعة تتراوح ما بين 20 و30 طناً، يُملأ بالمياه النقية القادمة من قنا”.
ويضيف: كان المشهد يذكّر بما كان يحدث قديمًا عند توزيع الخبز والدقيق. إذ يقف الأهالي في صفوفٍ طويلة تحت شمس حارقة بانتظار صفيحة ماء لا تتجاوز سعتها عشرين لترًا. وربما لا ينالون منها سوى نصفها إذا قلّ الوارد. لذلك كان يمنع استقدام العائلات إلى المدينة بسبب نقص المياه. كما تم منع تربية الطيور والحيوانات. وإذا تم ضبط من يخالف هذه التعليمات أو التنبيهات يتم ترحيل الأسرة.
ولفت إلى أن نصيب الأسرة من الماء كان ربع صفيحة أيام الاحتلال الإنجليزي. ثم صفيحة كاملة بعد رحيله، ثم صفيحتين للأسرة التي لديها أولاد. وكان الاستحمام والوضوء يتم بمسح الجسم بالمياه.
ويتكرر المشهد ليظل العطش رفيقًا خفيًا لا يفارق أهل سفاجا، يشاركهم تفاصيل يومهم كقدرٍ محتوم. ومن قلب هذا العطش المتجذر ظل الحلم يتجدد بأن تتوسع محطات التحلية ويزداد عددها. أو تتضاعف كميات المياه القادمة من محافظة قنا. ليروى عطش المدينة ويطوى فصلٌ طويل من الصراع مع ندرة المياه. حلم يشبه الخلاص. خلاص مدينة تنتظر منذ زمن أن تشرب كما تشرب المدن.
اقرأ أيضا
حكاية «مدينة سفاجا».. مناجم الفوسفات وصوت التاريخ العابر للأجيال