ناصر النوبي: الجميزة الجديدة والأغنية الصعيدية

كيف يمكننا الاستفادة من التراث الصعيدي في إبداع أغنيات جديدة تعيد إنتاج التراث لكنها لا تقدمه كما هو، بل في إطار حوار خلاق بين القديم والجديد، أو الأصالة والمعاصرة. وكيف تقوم بذلك فرقة خاصة تعتمد على مجهود فردي، خاصة في ظل حالة تراجع قوية في تواجد الفرق الغنائية، لأسبابٍ مختلفة، بعد أن شهدت ازدهارا في مطلع الألفية الجديدة؟

ناصر النوبي واحد من المهمومين بهذا السؤال، والبحث عن آفاق جديدة للغناء الصعيدي، يقوم على الاعتزاز بالهوية والخصوصية معا لانفتاح على المتغيرات الإنسانية. ويظهر ذلك في أعماله ومنها أغنيته الشهيرة “لو طلعوني الجبل”. الأغنية التي سوف نحاول التوقف أمامها للتعرف على ملامح تلك التجربة من حيث الكلمات والأداء والتوزيع الموسيقي، والتصوير.

صوت ناصر النوبي ولون بشرته الأسمر، واسمه، يجعلوننا نتوهم أن تجربته نوبية. وهذا غير صحيح، لأنه مولود في قرية المريس محافظة الأقصر عام 1964. واسم النوبي مأخوذ من اسم أحد الأولياء بالمنطقة، وتجربته لا تنتمي للثقافة النوبية بل للثقافة الصعيدية. وهي تعتمد بشكل أساسي على تراث الصعيد وقوة الصوت لا التطريب، والتوزيع الموسيقي الذي يمزج بين الآلات الموسيقية التقليدية مثل الربابة والمزمار والطبلة. لكنه يعتمد أيضا وبشكل لافت للانتباه على الآلات الغربية الحديثة مثل الجيتار.

**

يجيد ناصر النوبي اللغة الإسبانية والإنجليزية والإيطالية. وقد عمل مرشدا للغة الإسبانية من سنة 1998 حتى سنة 2014. وهذا العمل في حد ذاته يجعله واعيا بضرورة مشروعه، فهو بخلاف مخزونه الطبيعي من التراث الطبيعي. يعيش في أجواء المعابد والآثار القديمة. ولم يتأثر بسحرها وحده. بل تابع أيضا تجليات هذا السحر في عيون السائحين، لأنه لصيق بتراثه لكنه يتعامل في نفس الوقت مع ثقافات مختلفة، يتفاعل معها شاء أو أبى، لكنها لا تقترب من جذوره.

سنة 2003 أسس ناصر النوبي فرقة موسيقية وأطلق عليها اسم “الجميزة”، على اسم الشجرة المصرية الراسخة في الثقافة المصرية منذ أساطيرها القديمة. وهي رمز من رموز الأصالة بسبب عمرها الذي يصل إلى مئات السنين، وانتشارها الواسع في ريف ما قبل السد العالي. ووجودها اليومي في حياة الناس لا بوصفها منتجة للثمار بل لأنها جامعة للناس تحت أغصانها كأنها مندرة عامة في الهواء الطلق.

ظهرت فرقة الجميزة في ظل جمهور جديد ومختلف عن الجمهور التقليدي. ومن ثم فهي جميزة جديدة، قامت على فكرة المحافظة على الأغنيات الأصيلة مع تقديمها في أسلوب عصري جديد يتناغم مع ما يحدث في العالم. مع دعم المواهب الصغيرة وتنميتها من خلال ورش عمل جماعية. وقد قدمت عددا كبيرا من الحفلات في مصر وخارجها.

تعتمد أغنية “لو طلعوني الجبل” على توليفة من التراث الشعبي على مستوى الكلمات. وتقديمها بشكل يكشف بوضوح عن هويتها الصعيدية. لكنه يتجاوز تلك الهوية على مستوى التوزيع الموسيقي، واللغة البصرية المصاحبة للعمل بمفرداتها المختلفة.

**

قبل تحليل الأغنية للوقوف أمام ملامح تجربة النوبي من حيث الكلمات والأداء والتوزيع الموسيقي، والتصوير. سوف نقف أمام كلمات الأغنية التي تقول:

لو طلَّعوني الجبل

لاطلع على راسي

لو قَرَّشوني الحصى (قرشوني: أطعموني)

لاجرش على ضراسي (ضراسي: ضروسي)

ليه يا حبايب تبيعوني رخيص وhنا الغالي

بالتبر ما بعتكم بالتبن، آه، وبعتوني

يا ريس البحر عدِّيني قوام معادُه فات

الرمل لا يتْفِتِل والشوك ما يتداسش (لا يتفتل: لا يتحول إلى حبال)

يا ماشي في الطريق أمشي فيه واتسلى

ياما فناجين بتتكسَّر وتتسلى

ياما عملنا عمايل في الخسيس ما تمرش (عمايل: جمع أعمال طيبة)

ياما علينا أيام وتاهت في الزمن بتمر (علينا: صعبة ليست في صالحنا)

الراجل الحر يصبر على القسى ويمر

واللِّي طبخ حلو ولَّا مُر كَلْ مِنُّه (كل: أكل)

**

أول ما نلاحظه أن الأغنية مفتولة من عدة أغنيات تراثية، ففيها الحداء أو الهجيني، وفيها المواويل وشظايا المواويل.

المطلع يأتي من الحداء أو الهجيني الذي يعتمد على بيت شعري واحد يعبِّر بشكل مستقل عن فكرة معينة. وهذا الغناء كان يؤديه راكبوا الجمال وعمال السواقي والنوارج وغيرهم، وطبيعة الحداء تسمح بتجاور أبيات مستقلة. لأنها تعبر في الغالب عن المشاعر  والموضوعات الصعيدية العامة مثل قسوة الأيام، والرجولة والاندفاع العاطفي في الحب والبغض وغيرها.

تأثير الهجيني أو الحداء يظهر في الأغنية كلها. حيث يكتفي بجملة أو جُملتين من موال ويقوم تضفيرهما في الأغنية، ومثال ذلك الجزء المأخوذ من الموال الشهير الذي قدمه محمد عبدالوهاب:

في البحر لم فتكم في البر فتُوني

بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني

أنا كنت وردة في بستاني قطفتوني

وكنت شمعه جوه البيت طفيتوني

لو عُدت دي المرَّه هاتوا المُر واسقوني

لقد أعتمد على سطر واحد من الموال، وترك بقيته، وفعل العكس، مع موال يؤديه “أحمد بريم”، حيث أخذه بالكامل، وهو الذي يقول فيه:

يا ماشي في الطريق امشي فيه واتسلى

ياما فناجين بتتكسر وتتسلى

ياما عملنا عمايل في الخسيس ما تمرش

ياما علينا ايام وكانت في الزمن بتمر

الراجل الحر يصبر ع الأسى والمر

واللي طبخ حلو ولا مر كَل منه

يا ليل يا ليل يا ليل

**

نحن هنا أمام توليفة من أكثر من مصدر تراثي. وتلك القدرة التوليفية ترجع في تقديري إلى فن الهجيني أو الحداء. حيث يقوم المؤدي بغناء عدد كبير من الأبيات المنفصلة، والمتصلة بحكم سياقها العام. وإن كنا في أحد المقاطع نشعر بضعف السطر المأخوذ لأن بقية الموال كانت تزيده وضوحا، يقول النص التراثي:

الرمل لا يتفتل والشوك ما يتداس

وحياة من حرَّم الخمرة وشُرْب الكاس

ما نفوت حبايبي ولا نتبع كلام الناس

لقد أخذت الأغنية أول سطر فقط، فجاء ضعيفا ومعزولا. بسبب حرمانه من السياق الذي يكشف معناه، لأن فتل الرمل يتضح من خلال ارتباطه بترك الحبيب الذي يشبه فتل الرمل نظرا لصعوبته أو استحالته.

الأمر يختلف مع استخدام سطر واحد من موال آخر، كان يؤديه متقال قناوي وله أكثر من صيغة متقاربة، يقول الموال:

ياريس البحر عديني قوام مع دول

وافرد قلوعك أنا شايف الهوا مع دول

ما كنت خالص يا قلبي واش ودَّاك مع دول.

**

لقد اختار السطر الأول فقط مع زيادة جملة “معاده فات” بعد قص “مع دول”. وبقاء السطر مع ذلك التعديل أكسبه دلالة مستقلة، بحيث لا يحتاج إلى سياقه القديم ليمنحه المعنى. فالسطر يحمل قيمة شعرية في حد ذاته، لأنه يقدم دلالة مفتوحة، ويحكي قصة بأقصر الطرق. حيث يضعنا مع شخص يريد اللحاق بموعد فات وهو ما يمنحنا فرصة للشرود الفني في طبيعة ذللك الموعد ومصير المتكلم، ومدى إمكانية لحاقه بالموعد.

الأغنية إذا عبارة عن مختارات من التراث الصعيدي. قد يكون لبعضها صيغة تؤدى في الوجه البحري، لكنها تكتسب الهوية الصعيدية من خلال اللهجة. وتكرار كلمة الجبل مرات ومرات. وكذلك الرؤية البصرية التي تركز على مشهد الجبل، وعمق الماء في النيل الذي يدل على الجنوب بسبب عمق المجرى. وقد لعبت الصورة المصاحبة دورا  في ظهور علامات تصب في رؤية الأغنية مثل الزي، ومكان وقوف المؤدي ونظراته.

لقد تم تصوير الأغنية بكاميرا عادية مع إخراج فني بإمكانيات بسيطة جدا. وطوال الأغنية كان المؤدي يقف فوق مركب، وكانت عين الكاميرا تركز عليه وعلى الماء بلونه الأزرق العميق والجبل القريب والحقول التي تفصل بين النهر والجبل، مع التركيز أحيانا على صورة قطار عابر.

**

حتى يكتمل المشهد الصعيدي، كان يجب أن يحتوي على الملابس الصعيدية، كما كان يجب اختيار المطرب في مكان الدفة، على اعتبار أن الأغنية تعتمد على أغاني العمل، ومكانه الطبيعي كصعيدي. لكن الرؤية الإخراجية تجاوزت ذلك المناخ الصعيدي، فالهجين أو الجمل لا يظهر في الصورة، بل يظهر القطار والمركب الآلي، حتى عندما ظهرت صورة الساقية كانت لرجل يركض خلف الدابة، أي لم يتم اختيار اللقطة لحظة الحداء، ولعل ذلك يرجع إلى إمكانيات الإخراج المحدودة.

يتمثل التجاوز أيضا في وقوف المؤدي وهو ينظر إلى الطبيعة نظرة السائح. حيث يرتدي الملابس الإفرنجية التي يظهر منها الجزء العلوي فقط، وهي عبارة عن قميص أبيض في لقطةٍ، وتي شيرت أخضر في لقطة أخرى. ثم الجلباب الأبيض والشاش في لقطة ثالثة، وعلى عكس اللحن الذي بدأ بالربابة والمزمار ليعلن هويته الصعيدية. يبدأ الزي بالقميص الإفرنجي ليعلن هويته كصعيدي مختلف، وهكذا تتم المراوحة بين الملابس الإفرنجية والصعيدية بامتداد الأغنية.

هذا التجاوز في المشهد التقليدي للمطرب الصعيدي يأتي بحساب، لأن المؤدي يتراوح بين شكلين من أشكال الزي، ينفصل عن الهوية لكنه يؤكدها، ينفصل عنها في محاولة منه ليثريها. بحيث تستقطب أنظارا أخرى لم تعد تألف الصورة التقليدية للأغاني الصعيدية، والأغاني الأصيلة عموما، ولا بأس من جعل الأغنية مألوفة في إذن لا تنتمي للثقافة الشرقية.

السؤال عن الجديد الذي تقدمه الأغنية يتعلق باللحن والتوزيع على الأخص. حيث يتم صنع التناغم بين اللحن الصعيدي مع الموسيقى الغربية، لكن، كيف ينصهر البياتي مع الروك، كيف تتناغم الربابة والمزمار مع الجيتارات الضخمة؟

**

لقد عاشت الأغنية الصعيدية شبه مستقلة عن محاولة الأتراك لتطوير الموسيقى، تماما كحال الصعيد بشكل عام الذي عاش شبه مستقل عن محاولات التطوير. هكذا احتفظت الألحان الصعيدية لنفسها بقالب يعتمد على قوة الصوت لا التطريب، فكيف يتم الحوار مع هذه الخصوصية الشديدة التي قاومت الزمن؟

المسألة ليست بسيطة، ومع ذلك نجحت الأغنية في صنع ذلك التناغم بدرجة عالية، خاصة مع أداء الموزع الموسيقي “كاميليو”، الذي استخدم تآلفات موسيقية من الروك. أي أن التوزيع الموسيقي لعب دورا بارزا بجوار  المؤدي والمؤدي المساعد “يم سويلم”، في ذلك الحوار الفني بين الشرق والغرب.

لقد اعتمدت التوليفة بشكل أساسي على تناغم اللحن والكلمات مع الصوت القوي. وهو ما يقوم عليه الغناء الصعيدي، وما تحاول الأغنية استثماره، ويظهر ذلك في المساحة التي تشغلها المطربة “يم سويلم”. فهي الأخرى لا تظهر بوصفها مطربة بقدر ما تظهر كصوت حاد وشجي لامرأة جنوبية تتحرك من منطقة عميقة جدا في الذات الصعيدية.

محاولة النوبي وهي تعتمد على مزج الروك بالبياتي قامت لا من أجل جعل اللحن مقبولا بالنسبة للأذن الغربية التي لا تستطيع هضم الألحان الشرقية بيسر فقط. بل لتجعل اللحن مقبولا أيضا بالنسبة لقطاع كبير من الشباب الذين تآلفوا مع الإيقاعات الغربية وانقطعوا عن التراث الصعيدي. فإلى أي مدى سوف تثبت التجربة حضورها جماهيريا، وإلى أي مدى سوف تتطور العلاقة بين تراث الغناء الصعيدي ومحاولة تقديمه في صيغة عصرية مختلفة؟

اقرأ أيضا

 شبح الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر