ملف| «الست».. صوت السماء

بعد شهور قليلة من وصولها إلى القاهرة، حققت الشابة الآنسة أم كلثوم نجاحا غير متوقع، وكتب عنها النقاد أنها أكمل وأجمل صوت نسائي عرفته مصر. أوغر هذا النجاح صدور كثيرات ممن سبقنها، حتى أن مطربة أخرى غيرت اسمها إلى «أم كلثوم» ربما يأتيها- بالخطأ أو بتشابه الأسماء- بعض المجد الذي وصلت إليه أم كلثوم الحقيقية. أم كلثوم كتبت إعلانا قصيرا، وقامت بتوزيعه باليد على مستمعيها وجمهورها: «أنا وحدي أم كلثوم الأصلية، وأنا أم كلثوم إبراهيم البلتاجي، وأما الأخريات فإنهن أمهات لكلثوم زائفات، لا يعترف كلثوم بأمومتهم فن الغناء»!
***
منذ البداية، وقبل أن تصبح سيدة الغناء العربي أو «الست»، كانت تعي أم كلثوم مكانتها، هي الأصل، لا فروع أخرى لها، والباقي أسماء مزيفة.
لم تكن الساحة خالية عند ظهور أم كلثوم، فقد كان هناك عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهي لم تكن سوى فتاة ريفية لا تملك إلا حنجرتها، وموهبة غير محدودة، وذكاء فطري مكنها من أن تحدد هدفها وتعرف ما تريد. ومن هنا استطاعت أن تخرج منتصرة في كل المعارك، وأن تواجه الحروب والصعوبات التي كانت تحول بينها وبين الغناء. انتصرت في كل معاركها، ووجدت من المؤمنين بموهبتها من يدافع عنها، ويتحمس لها، زعماء مثل جمال عبد الناصر، وشيوخ مثل علي ومصطفى عبدالرزاق الذي كتب عنها العديد من المقالات في جريدة “السياسة الأسبوعية”. وقد حاولت مئات الكتب وآلاف المقالات البحث عن «الست»، وسر خلودها رغم تعاقب أزمنة وحكام وثورات ومطربين وملحنين.
***
لذا، ليس في الأمر مبالغة عندما نصف أم كلثوم بالأسطورة، هي كذلك بالفعل، أسطورة عابرة للأجيال والطبقات، والإجماع عليها يتجاوز خلافات السياسة وتباين الأفكار، وهو ما جعلها صامدة أمام سؤال الزمن وتحولاته، ورمزا لذوبان كل الطبقات والقيود أمام الموهبة. لقد استطاعت، وهي «الفلاحة» القادمة من قلب الريف المصري، أن تحكم العربي بحنجرتها، وأصبحت جزءا من تاريخ الفن الحضاري العربي وجزءا من تاريخ الزعامات الشعبية أيضا.
منذ نصف قرن، تحديدا في الثالث من فبراير 1975 استيقظ العالم العربي على خبر وفاة أم كلثوم التي شُيّعت بعد يومين بجنازة شعبية حاشدة لم تحدث لأي من فناني جيلها أو الأجيال التالية. وتوقع البعض اختفاء السيدة أو انحسار الأضواء حول أغنياتها بعد الغياب، أو حتى ظهور من يقاربها. ولكن على مدى نصف قرن لم يحدث كل ذلك. لأنها أم كلثوم، الصوت الاستثناء أو صوت السماء.
بالتأكيد لا تحتاج أم كلثوم إلى مناسبة، حتى لو كانت المناسبة متوفرة: مرور نصف قرن على رحيلها. نحتفي بها دائما، طوال هذا العام، ونفتح «باب مصر» لكل الآراء حول «الست».
اقرأ أيضا:
شهادة أصدقاء الطفولة: «أم كلثوم» في سنوات التكوين
«الست» في 2025: ماذا لو كانت أم كلثوم بيننا اليوم؟
أم كلثوم العربية ضد عبد الوهاب المصري على الشاشة