الحياة في مقهى كريستال

يتجمع الناس على الكورنيش في الجهة المقابلة لمقهى كريستال لكي يشاهدوا الصيادين الذين يستخدمون الجرافة للصيد. وهي شبكة كبيرة يتم رميها في البحر ويتعاون الكثير من الصيادين لسحب أطرافها، لتخرج محملة بالأسماك.

أنت جالس على مقهى كريستال لا ترى الصيادين، ترى فقط الناس الذين يشاهدون عملية الصيد. أنت تعرف أن صيادين في البحر يصطادون، والناس تنتظر السمك وهو يخرج من البحر، الصيادين يراقبون السمك والناس تراقب الصيادين وأنت تراقبهم كلهم.

الكراسي التي تطل على شارع الشهداء قريبة من الرصيف. يمكنك مراقبة الناس عن قرب أكثر. الكراسي التي تطل على الكورنيش تمنحك مساحة أكبر للمراقبة. الذين يجلسون في المناضد بداخل المقهى لا يراقبون الناس، ربما يراقبون أشباحًا غير مرئية، أو يراقبون أنفسهم.

أمام المقهى توجد إشارة تقع عندها الحوادث دومًا. كأنها طريقة ما ليتوقف الوقت. في المقهى أيضا كانت تحدث مشاجرات أحيانًا.

على الكرسي الذي يطل على شارع الشهداء كان يمكنك أن ترى صديقك القديم وهو يمر بجوار النافذة ويبتسم لك، ثم يكمل طريقه ويدخل من باب المقهى. في هذه المسافة الصغيرة والوقت القليل ما بين ابتسامته من النافذة ثم دورانه من شارع الشهداء ليدخل من الباب على الكورنيش وقت طيب لتوقُّع مقابلة الصديق. كان يوسف عبدالحميد، المخرج المسرحي، ينقر على زجاج النافذة ولا يكتفي بابتسامته الجميلة ليُعلم صديقه أنه حضر.

وكتب الشاعر حمدي زيدان قصيدة جميلة عن لحظة دخول يوسف عبدالحميد المقهى. في جاليري فراديس الذي يملكه الكاتب الكبير علاء خالد كان يتكرر نفس الأمر؛ تذهب لتزوره فتجده جالسا مبتسما خلف الزجاج. تدخل من الباب وهو يجلس في انتظارك. ربما تمنحه هذه المسافة الاستعداد ليتذكر أين توقفتم في الحديث المرة السابقة التي زرته فيها.

الحياة في كريستال كانت تبدو عاطلة. يكون الوقت الأساسي في المقاهي لروادها المعتادين هو المساء والليل، لكن كريستال كانت أوقاتها الأصلية الصباح والعصر. النافذة العريضة المطلة على الكورنيش في الصباح كانت تمنح الضوء والهدوء للمقهى. لكنها في الليل كانت تشبه شاشة سينما صغيرة، ربما لأن البحر يختفي في الليل. يمنحها وقتها النهاري ميزة البطالة، فتجلس بجوار أصحاب المعاشات وتعرف أن حياتك عاطلة كحياتهم. هل كان الليل خيالا ما أم أنت تتوهم ذلك؟

**

كنت أسير أنا وصديقي الشاعر والمترجم عبدالرحيم يوسف في النبى دانيال عندما قابلني زميل في العمل وسلم عليّ. كان زميلي أيضا من أيام الجامعة ويعرف عن حبي للكتابة. سألني بعدها بتلك النبرة الساخرة: هل مازلت تكتب؟ كنت أقابل أصدقاء قدامى من أيام الجامعة، أو زملاء العمل كثيرا على مقهى كريستال، وكان يتصادف أن يكون معي أوراق كتبتها أو كتب أدبية، فكنت أداريها خوفا من سخريتهم القديمة، وكان صديقي ماهر شريف الكاتب ومصمم الأغلفة يعرف عني ذلك الأمر، وكان يجلس معنا فيتعمد كشف أوراقي أمام زميل العمل.

كانت التسعينيات وأول الألفية أوقات بطالة. لا أعرف هل يشعر الجميع بذلك أم أنه إحساسي الشخصي. عملت بعد تخرجي من الجامعة بفترة قصيرة، لكني كنت أشعر بالبطالة في الحياة، ليس لأني بدون عمل، ولكن بطالة الحياة ذاتها. ممكن يكون فقد قديم أو كآبة ممتدة من أيام الجامعة.

كانت الصراعات مستمرة بشكل ما وكنت أتعجب لكن أين هي الكعكة التي يجب أن نتشاجر من أجلها؟ أو ربما لأن الأمر لم يهمني، أو أنى لم أرها! هي كعكة خيالية.. وربما كان المقهى نفسه مجرد خيال، وأنا أتوهم أني أنتظر شيئا جميلا.

مقهى كريستال للفنان محمد جوهر
مقهى كريستال للفنان محمد جوهر

أمس قال لي صديق ممثل على المقهى إنه قابل الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد في القاهرة، وسأله: لماذا تستمرون في البقاء في الإسكندرية؟ ولماذا لا تأتون إلى القاهرة؟ أيامها كنت اقرأ مخلوقات براد الشاي المغلي لمحمد حافظ رجب. كنت أسحب الصور الخيالية لأطبقها على المقهى. لم يكن هناك بياع سجاير أو كان هناك.. لكني لا أذكر، فجعلته ماسح الأحذية. صاحب المقهى هو الشيطان في قصص محمد حافظ رجب.

في صور يضعها الأصدقاء وهم يجلسون في المقاهي تتصدر صورهم في مقهى التجارية الشهير. أخمن المكان وأعرفه جيدا. لا توجد صور كثيرة في كريستال. ربما كانت صوره مجرد خيال في ذاكرتنا.

مقابلة العمل كانت في فندق سيسل. أجرَّت الشركة مكانا في الفندق، وهناك عملت. احتفلت بعد المقابلة بقبولي في العمل بالجلوس في كريستال قبل أن أعرف النتيجة.

**

كنت أعمل في الصباح في محطة الرمل أو الإبراهيمية، وأنزل بعد الظهر على كريستال، وأتصل بالعمل من تليفون المقهى قبل الموبايلات. أصبحوا بعد ذلك يتصلون من العمل على المقهى عندما يحتاجونني. كنت أشعر أني في فيلم أو مسلسل قديم.

أحيانا تسير في الحياة مقارنا بين كتاب قرأته أو فيلم تحبه أو حتى مسلسل بالحياة الحقيقية. ألا نفعل ذلك كلنا؟ عندما تستطيع مشاهدة اقتراب الحياة من خيالها ستشعر بدراما تملأ حياتك.

كان من الطبيعي أن تجد علي عاشور يجلس ويرسم بورتريهات جميلة لأصدقائه بالفحم الأسود. ووضع ماهر شريف صورة المبنى الذي يضم مقهى كريستال على الغلاف الخارجي لمجلة خماسين؛ وهي مجلة أدبية كنت أشارك مجموعة من الأصدقاء في إصدارها.

لكن في فترة كان هناك رسام أجنبي يرسم المقهى نفسه برسومات ملونة.

كانت رسوماته قريبة من الواقع لكنها حولت المقهى إلى خيال ربما.. خاصةً بعد أن تم هدم المبنى واختفى المقهى.

اقرأ أيضا:

محطة الرمل.. من أين يأتي كل هذا الحزن؟

للاشتراك في خدمة باب مصر البريدية اضغط على الرابط التالي:

Babmsr Newsletter

النشرة الإخبارية الشهرية
مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر