الشاعرة والمترجمة مها جمال تكتب: أبي والأبنودي في زمن عزّ فيه وفاء الأصدقاء

لكل زمان مضى آية

وآية هذا الزمان النكت

الأبنودي

لن  أكتب عن الأبنودي كشاعر فهو قيمة كبيرة لمصر ولشعر العامية والأغنية المصرية  فمن المتخصصين من يفيض في الكلام عنه، إنما حديثي هذا عن الجانب الإنساني لعبد الرحمن الأبنودي  الصديق  الوفي المحب لأصدقائه في وقت تغلبت المادة والمصالح على كل العلاقات الإنسانية.

كانا دائمي الهروب من المدرسة وخاصة عندما يكون اليوم الدراسي طويلا -7 حصص – ليذهبا إلى الغابة أو يخرجان أثناء الحصص مع جماعة النشاط المسرحي. كان متفوقا في اللغة العربية ويحفظ كتاب النصوص والبلاغة من مرة واحدة يحبه مدرس اللغة العربية رغم أنه كان كثير الأسئلة والمشاغبات. عرف والدي عبد الرحمن الأبنودي منذ المرحلة الابتدائية عندما سكنوا قنا في شارع بني حسن. واستمرت الصداقة حتى نهاية المرحلة الثانوية في قنا. حكى والدي لنا عنه كثيرا  ، وما سأكتبه هنا  محاولة لإنعاش ذاكرة والدي المريضة -شفاه والله وعافاه-

حكايات كثيرة تتزاحم في رأسه : كان عبد الرحمن الأبنودي طاقة حب متحركة صعيدي- و بقلب حامي- عاشق لمصر وترابها و نيلها، قريتها ومدينتها . لم يتخل عن لهجته العامية في إلقاء قصائده التي كانت بحرارة شمس الصعيد وكانت ذاكرته راصدة ومتأملة لكل أغاني الطفولة في قريته وفي قنا على حد سواء. كان يكتب الشعر منذ صغره و عُرِف بين أصدقائه ومدرسيه أثناء المرحلة الثانوية. كانت مدرسة قنا الثانوية تقيم حفلا في نهاية كل عام دراسي وكان عبد الرحمن الأبنودي نجم هذه الحفلات يكتب المونولوجات ..وأزجالا عن المواد الدراسية  ، وكنا في فريق التمثيل معا واشتركنا في تمثيل العديد من المسرحيات على مسرح المدرسة كما اشتركنا في فقرات لتقليد المدرسين. كان يجلس تحت عامود الإنارة في “شارع الحلوي” ليقرأ  ويعزف الناي.

يستطرد أبي قائلا : عندما كنا في المرحلة الثانوية هاجم قنا سيلا مدمرا، جاء على أثره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتفقد المنطقة المنكوبة، كان والدي يسير برفقة عبد الرحمن في -شارع الجميل عند قهوة البراهمي- ولم يصدق عينيه فسأل عبد الرحمن عنه فكان الرد أنه الرئيس جمال عبد الناصر وذهبا ليسلما عليه ثم ،إذ كتب عبد الرحمن الأبنودي عن هذه الواقعة بالتفاصيل التي لا يتذكرها أبي حاليا في حلقات “أيامي الحلوة” والتي تم نشرها  في ملحق الجمعة في جريدة الأهرام.

في المرحلة الثانوية أيضا قاد عبد الرحمن الأبنودي مظاهرة الطلبة أيام العدوان الثلاثي على مصر ولم تخرج المظاهرة من المدرسة لاعتراض الناظر، وبعد المرحلة الثانوية عينه أبوه في المحكمة وكان على خلاف دائم مع موظفي المحكمة وكان يترك تدوين محاضر الجلسات ليكتب الشعر. نقلوه إلى الأقصر ثم إلى نقادة ثم قدم استقالته وانتقل للقاهرة.

في هذا الوقت التحق والدي بالجامعة في القاهرة والتحق عبد الرحمن بالخدمة في الجيش وكان في أجازته ينزل عند والدي فى سكنه  بالقاهرة أيام الخميس والجمعة. يقول عن فترة خدمته في الجيش في خطاب لأخيه “كمال”: “كانت فترة الجيش درسا كبيرا.. نافعا وإن كنت قد اشتريته بأعصابي وعرقي ودمعي وبعد انتهاء فترة خدمته بالجيش كان يزوره ويأتي له بتذاكر للمسرح الذي أحباه في المرحلة الثانوية.

انتهت فترة دراسة الوالد في القاهرة وعاد إلى قنا ليتسلم عمله في الأزهر كمدرس للتربية الفنية ويبحث عن الاستقرار والأسرة ويبقى عبد الرحمن الأبنودي في القاهرة يبحث عن ذاته وعن الشعر .

لم تنقطع الصداقة تماما كان الأبنودي يرسل لوالدي رسائل تحمل المحبة الصادقة وأحيانا العتاب وأحيانا مسودات قصائد وصور طلب أن يستردها منذ أعوام لا أدري لماذا ربما كان يريد أن يستعيد تلك الأيام. ومن كلمات رسالة بقيت في درج والدي ” لم تكن كذلك منذ عرفتك يا جمال …أنت نعمتي التي أرجوها. أنت نعمتي وهو الواقع وكل مادفعني إلى الكتابة إليك هو لك الهاتف الذي صرخ في أعماقي بأن أكتب لك..و في فقرة أخرى من الخطاب أنه كتب 6 أغنيات في ليلة واحدة غير الستَة اللي بعتهم لك مطالعهم قديمة .. أغنية يخيل إلي إنها لو اتلحنت تكون أغنية موسم..  وكان دائما يذكره في لقاءاته التلفزيونية كان يلقبه ب “صديقي التاريخي”. وفي رسالة أخرى مسودة قصيدة يقول له أنا عارف انك بتحب النوع دة من القصائد عشان كدة بعتهالك.

انقطعت فترة الرسائل بينهما بعد إعارة أبي إلى اليمن ثم إلى السعودية ثم عاد الود والاتصال كان يحرص على مقابلة والدي عند زياته لقنا وعندما سجل حلقات أيامي الحلوة، كان والدي ضيفه في إحدى الحلقات التي تم تسجيلها في مدرسة قنا الثانوية – كلية الهندسة حاليا. وعندما علم بمرض والدي في الفترة الأخيرة أرسل له صديقين من الأصدقاء القدامى ليزورونه ويسألوا عنه لأن والدي كان رافضا للعلاج وقال له ” احنا عايشين عالمية والأدوية يا جمال”،  واستمر اتصاله بوالدي يوميا أو كل يومين على الأكثر . رحم الله الأبنودي وحفظ الله والدي .

وهذا مقطع من قصيدة أرسلها رحمه الله بعنوان” حبيبتي ياللي ناسياني” وتحمل براءة البدايات

تموت الشمعة ….غرقانة

ويصرخ قلبي في وداني

ويزعق..والقلوب …نايمة

وأسمع صرخة..بيعاني

يقول سري…يقول سرك

وطرف السر… أدماني

ما أتحرك….وبانتظرك

ولا بتيجي … ولابتاني

وراح فرحي…ف…عذاب جرحي

وصبحني …..ومساني

وأنا …لوحدي.. باقول فينك

حبيبتي…ياللي ناسياني

مقطع من قصيدة( حبيبتي..ياللي ناسياني)

شعر عبد الرحمن الأبنودي

قنا- أول أبريل سنة 1958

وفي قصيدة أخرى بعنوان “وعلى الأرض السلام” وهي عبارة عن خماسيات وكعادته منحازا للفقراء أو ” الغلابة”.

الغلابة اللي القدر فارشلهم تحت الحيطان

اللي يائس …واللي بائس واللي له مدة جعان

واللي بيغمض عيونه لو يشوف البرتقان

شلة الهم الحزينة …فرقة النوح والآلام

دول عليهم وعلينا وعلى الأرض السلام

والسهارى في ليل ما يرحم …يكتم الفرحة في نجومه

واللي بيهفهف بهمسة فوق رؤوسهم وبغيومه

واللي بدره يطوف ويدفن نوره ويفرق همومه

دول عليهم وعلينا وعلى الأرض السلام

بالممزق والملزق واللي جامع كل لون

زمهرير البرد لفه بات بيحلم له بكانون

لا رغيف يجبر بخاطره ..لا طبيخ ولا يحزنون

نسيوا طعم الميه حتى نسيوا  ايه ريحة الطعام

دول عليهم وعلينا وعلى الارض السلام

واللي بينادي القليلة تمنع البلوة الكبيرة

وف نغمته جوع ولهفة وفيها أنّة وفيها حيرة

واللي بينام عالتراب واللي بيتغطى بحصيرة

اضحكوا تاني وتالت وزيدوا في الابتسام

دول عليهم وعلينا وعلى الارض السلام

وفي نهاية خطاب كتبه أيام خدمته بالجيش ولأنه مكتوب بالقلم الرصاص ولِقدم الورقة لم أستطع قراءة  كل السطور ففي البداية يقول :تحية من الزجال عبد الرحمن الأبنودي  سكرتير محكمة الأقصر الوطنية ورئيس رابطة هواة الأدب الشعبي بقنا إلى السيدين/ عبد المحسن متولي وبانوب زكي يوسف ضباط صف سلاح المدفعية

البطانية منورة وكأن بيها ميت كلوب

واللي منورها الجاويش محسن ولمباشي بانوب

صدقني لو جيت للحقيقة ..الحقيقة اننا

قاعدين ف احسن صنف…

أما الجاويش محسن دة رايق.. زي رفات النسيم

راجل لطيف وإنسان مهذب ..أيوة والله العظيم

ساعة الغضب يقرض شفايفه الحمرة ويبرق عينيه

لكن صدق مين قالك احذروا ثورة الشخص الحليم

أما بانوب دة ..شخص كامل.. ربنا ينعم عليه

مهما بيقسى عالعساكر طيب باين ف عنيه

أخ الجميع.. تقدر تبوح له باللي شايفه في التروب

وبكلمة واحدة وكلمتين ..تقدر على طول تشتريه

وها هو في المقطع الأخير يقول :

أنا لسة باحلف للجميع على انهم أحسن قلوب..

شاويشنا عب محسن محمد وبالمباشي بانوب

وان صرحولي ف يوم اجازة راح اروح مطرح بعيد

واكتب كلام مسبوك صحيح.. لازم بقى يهز التروب

عسكري مؤهلات

عبد الرحمن الأبنودي

الوحدة – 8094ط 5  حـ3

10-11- 1959

وكما بدأنا بسيرة النكت نعود إليها فقد وجدت كراسة بها 210 نكتة   ومسرحية ” الخائن” مسرحية وطنية كما سماها .ثم قصة قصيرة بعنوان ” ملوخية أفندي”  ثم مسرحية أخرى بعنوان “محاكمة تلميذ خائب” وجميعهم بتاريخ .1954

من النكت :

– البخيل : اكوي رجل واحدة من البنطلون

المكوجي: ليه؟

البخيل: أصلي حتصور بجنب.

الجدة: لو اعطيتك قرش تقولي ايه؟

الطفل: ولا حاجة.. اصل ماما قالت لي ماتشمتش اللي اكبر منك.

الزوجة: فين الكتاب اللي بيوري كيف الواحد يعيش 100 سنة؟

الزوج: انا خبيته لغاية امك ما تمشي.

وهكذا رحل الأبنودي بابتسامة عريضة قاوم بها الفقر والظلم والمرض إلى أن تغلب عليه المرض ورحل تاركا غرسة حب كبير في قلوب محبيه وأصدقائه.

 

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر