حسام إسماعيل: استكشاف وجوه القاهرة

تكتسب بعض الكتب مكانتها من قدرتها على سد فجوة معرفية، وإزالة غموض عن موضوع يتحاشى الباحثون الخوض فيه. لذا نقدر كثيرا الكتب التي يقف خلفها باحث يستطيع القيام بهذه المهمة الثقيلة على أكمل وجه. من هنا يكمن التقدير الذي نكنه لمنجز الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس، الذي رحل عن عالمنا في 20 من الشهر الجاري، بعد صراع قصير مع المرض. فالرجل أفنى عمره في التأريخ للقاهرة ومعالمها الأثرية، خصوصا في دراسته عن أحياء المدينة العريقة. وهنا نحاول أن نرصد أشهر كتب إسماعيل التي تشكل محطات مهمة في التأريخ لمدينة القاهرة.

***

أنجز حسام إسماعيل عدة دراسات أثرية تميزت بالجدة والتدقيق والاعتماد الواسع على الوثائق الأرشيفية وتحليلها. منها عدة دراسات عن مدينة رشيد في العصر العثماني، وكتاب (الأصول المملوكية للعمائر العثمانية). ودراساته المهمة: (منشآت السلطان قايتباي بسوق الغنم من خلال وثيقة عثمانية)، و(أربع بيوت مملوكية من الوثائق العثمانية)، و(استعمال العثمانيين للعمائر السكنية والتجارية المملوكية من خلال الوثائق)، و(بولاق: المنشآت التجارية في العصرين المملوكي والعثماني دراسة ميدانية أثرية وثائقية).

كذلك ترأس فريق العمل الذي أخرج كتاب (جاردن سيتي: المدينة الحدائقية اسم ومعنى)، ضمن سلسلة (ذاكرة المدينة)، التي أطلقها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. كما شارك في الكتاب المهم عن (الخان الخليلي وما حوله) والصادر عن المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة. فضلا عن رسالته للماجستير عن منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة 1988، ورسالته للدكتوراه عن (وجه مدينة القاهرة من ولاية محمد علي حتى نهاية حكم إسماعيل) 1994.

وطبعت كل من رسالة الماجستير والدكتوراه في كتابين، صدر أولهما الخاص بوجه القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014، والثاني الخاص بمنطقة الدرب الأحمر عن دار الآفاق العربية 2022. وسنركز في السطور التالية على هذين الكتابين لبيان حجم الإضافة المعرفية والمنجز العلمي لحسام الدين إسماعيل في حقل الدراسات القاهرية، التي أغناها ليس فقط بالمؤلفات بل بأعمال الترميم الحفائر والتوثيق المختلفة.

***

يقدم الدكتور إسماعيل في كتابه عن منطقة الدرب الأحمر دراسة معمارية وأثرية وثائقية وتاريخية شاملة تعد بلا جدال نموذجا للدراسات الجادة عن أحد أعرق أحياء القاهرة. ودراسة يمكن تطبيق منهجها الشامل في دراسة مختلف أحياء المدينة التاريخية. إذ يتميز الكتاب بالإحاطة الشاملة لتاريخ منطقة الدرب الأحمر منذ بداية تكونها في العصر الفاطمي حتى العصر الحديث، والدأب الواضح في تسجيل آثار هذه المنطقة الغنية بآثار من مختلف الفترات التاريخية، والتي لم يسجل بعضها كأثر. وهو جانب مهم من جوانب مشروع حسام إسماعيل. ويلاحظ في كل أعماله هذا النفس الطويل في حصر المنشآت التاريخية للموضوع محل الدراسة بطريقة تثير الإعجاب من إخلاصه البحثي.

ويرصد حسام إسماعيل خطط منطقة الدرب الأحمر ويحاول تقديم تفسيرات علمية مقنعة لتسميات الحارات والدروب. مقدما دراسة عن الحياة السياسية والاجتماعية لمنطقة الدرب الأحمر. ليرصد بعدها العمائر في المنطقة والتي يقسمها إلى عمائر دينية وعمائر الخدمة المدنية. ويركز على الآثار التي لا تزال قائمة في المنطقة مبينا حالتها. ومقدما وصفا أثريا مستفيضا لها. معتمدا في ذلك على طيف واسع من الوثائق الأرشيفية التي تنشر لأول مرة والتي مكنته من تصحيح العديد من الأخطاء التاريخية كنسبة منشأة لغير صاحبها. كما هو حاصل في إثبات الاسم الأصلي لسبيل يوسف أغا دار السعادة، لمنشئه الأصلي محمد كتخدا مستحفظان. ووصل عدد العمائر التي حصرها إسماعيل في المنطقة إلى 300 منشأة ما بين قائمة ومندثرة، بعضها تم توثيقه لأول مرة.

***

التدقيق العلمي والاستناد إلى أرشيف الأوقاف المصرية، كان ديدن حسام إسماعيل، الذي استطاع تطويع هذا الأرشيف ليبوح بأسراره ويكشف عن المعلومات النادرة التي يحتويها. فلا يخلو كتاب أو دراسة لحسام إسماعيل من ثبت ضخم بالحجج الوقفية التي رجع إليها في بناء عمله. واللافت هنا أنه لم يكن يعتمد على معرفته الواسعة بوثائق الأرشيف فقط، بل يدعمها بجولات ميدانية يقارن فيها بين ما جاء في حجة الوقف الخاص بالمنشأة، وما هو موجود على الأرض.

الأمر الذي مكنه من تقديم معرفة دقيقة بتطوير مدينة القاهرة، خصوصا في أعماله التي ارتبطت بأحياء المدينة مثل بولاق وخان الخليلي والدرب الأحمر وجاردن سيتي. إذ نلاحظ في هذه الأعمال نفس خططي يحيل إلى فن معروف في الكتابة المصرية وهو الكتابة الخططية. أي الكتابة لمعالم المدينة والتأريخ لها ووصفها معماريا، وهو فن يقف على ذروته من المتقدمين المقريزي. والذي يبدو جليًا أن حسام إسماعيل يمشي على خطاه في أعماله مسخرا أدوات العلم الحديث في أداء مهمته على أكمل وجه.

***

هذه المعرفة سخرها حسام إسماعيل في كتابه الأهم والمركزي في مشروعه كله. وهو (وجه مدينة القاهرة من ولاية محمد علي حتى نهاية حكم إسماعيل). في هذا الكتاب نقابل باحث من طراز رفيع وعمل تأسيسي في تاريخ القاهرة. يغطي فترة مهمة في تاريخ المدينة تشكل عصر التحولات السريعة فيها، بين خروجها من عصور ما قبل حديثة شكلت وحدة واحدة تقريبا في نمو المدينة. ثم فترة الحداثة التي عصفت بالمدينة وأدخلت عليها أفكارا جديدة بداية من الغزو الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر. ثم بداية التغيير الحقيقي مع عصر أسرة محمد علي. وعند قراءة الكتاب تكتشف سمة الإخلاص والجد الذي يطبع أعمال حسام إسماعيل. ويجعل من (وجه القاهرة) مرجعا أساسيا في الفترة التي يتناولها لا يمكن ادعاء فهم القاهرة ومراحل تطورها دون الاطلاع عليه.

يحفر إسماعيل عميقا في وثائق أسرة محمد علي حتى فترة الخديو إسماعيل، ليعيد رسم القاهرة ويرصد بدقة التحولات التي ضربت المدينة مع محاولات التحديث التي بدأها الباشا الكبير. دون أن يغفل النظر عن التعديلات التي أدخلها الاحتلال الفرنسي قصير الأمد على المدينة لإخضاعها أمنيا بعد ثورات أهالي المدينة. ثم يرصد من خلال تحليل طيف واسع من المواد الأرشيفية طبيعية هذه التحولات العمرانية وكيف غيرت شكل المدينة وخلقت وظائف جديدة مع عمليات التحديث الجارية وقتذاك. وهو في ذلك كله يتبع منهج إحصائي للمنشآت التي ظهرت في فترة كل حاكم. ويتوقف عند كل منشأة بالوصف والشرح التاريخي والأثري فكأنه يصحب القارئ في رحلة عبر الزمن لمشاهدة المنشأة في لحظة بنائها ثم متابعة ما جرى عليها من متغيرات.

***

الاستماع لصوت الوثائق الأرشيفية مكن حسام إسماعيل من إعادة بناء دقيق للتطورات العمرانية التي شهدتها القاهرة في عصر محمد علي باشا. لافتا النظر إلى أن العشرين سنة الأخيرة من حكم الباشا (حكم من 1805- 1848)، شهدت تركيز أعماله العمرانية في المدينة. بما في ذلك بدء تجفيف البرك وتوسيع الشوارع وتسميتها وترقيم المنازل. كما اهتم بمنشآت أبناء الباشا في القاهرة، وهي نقطة غير مطروقة في البحث عن المدينة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كذلك خص جهود الخديو إسماعيل (حكم 1863- 1879)، في تعمير المدينة بنصيب وافر. وهو يؤكد أن إسماعيل لم يكن يهدف إلى جعل مصر قطعة من أوروبا فقط. بل أن أحد أهداف تحديث القاهرة كان بيئيا بالتخلص من البرك التي تفصل القاهرة عن النيل وتسبب انتشار الأمراض كالملاريا.

في النهاية، هذه إطلالة شديدة الإيجاز لبعض أوجه منجز الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل. فما تركه خلفه من أعمال تتعلق بالبحث الأثري والوثائقي في مصر يحتاج إلى دراسة شاملة لبيان حجم منجزه والإضافة المعرفية لأعماله. خصوصا في ما يتعلق بالتأريخ لمدينة القاهرة. فهنا ترك إسماعيل جهدا علميا على مستوى رفيع من الجودة والإتقان. وقدم درسا لكل المهتمين في كيفية توظيف المعرفة الميدانية. مع الاطلاع الواسع لأرشيف المدينة في إنتاج دراسات ستظل علامات للباحثين في تاريخ القاهرة وعمرانها. استطاع حسام إسماعيل أن يسجل اسمه بكل فخر كأحد مؤرخي القاهرة البارزين الذين تركوا علامات ستظل بئر لا ينضب يغرف منها الباحثون في مستقبل الأيام.

اقرا أيضا:

يسألونك عن الإسماعيلية والنزارية والحشاشين وأشياء أخرى

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر