مصطفى بيومي يكتب: «أم كلثوم في عالم نجيب محفوظ»

تحتل أم كلثوم المكانة الثانية في عالم محفوظ الرحيب بعد الزعيم ذي السحر الخاص: سعد زغلول

غيب الموت أول أمس الناقد والروائي مصطفى بيومي، صاحب العديد من الدراسات البارزة والمميزة، من أهم معجم شخصيات نجيب محفوظ. نستعيد هنا واحدة من مقالته المهمة التي يرصد فيها علاقة سيدة الغناء العربي أم كلثوم بالروائي نجيب محفوظ. وقد سبق أن نشر المقال في موسوعته«المسكوت عنه في عالم نجيب محفوظ»

لا تقتصر أهمية أم كلثوم في عالم نجيب محفوظ على تصدر عرش الغناء دون منافسة جدية أو مزاحمة، باستثناء الصراع مع منيرة المهدية في بداية الظهور، لكنها تُعدَّ من أهم الشخصيات في إبداع الكاتب الكبير، وربما تحتل المكانة الثانية في عالمه الرحيب بعد الزعيم المقدس ذي السحر الخاص؛ سعد زغلول.

باستثناء أقلية ضئيلة، تقل كثيرا عن المعادين لسعد والرافضين لزعامته، فإن إجماعا كاسحا يتفق على الإعجاب بأم كلثوم والإقرار بتفردها، وهو إجماع يتجاوز صراعات الأجيال وخلافات الاجتهاد السياسي وتباين الأفكار.

  • البداية والنشأة

لم تكن الساحة خالية عند ظهور أم كلثوم، ذلك أن المرحلة التاريخية، عشرينيات القرن العشرين، تشهد وجود عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهو ما ينعكس على عالم محفوظ، حيث يتبدى الولع بكثرة من العلامات الغنائية البارزة، في مقدمتهم عبده الحامولي ومنيرة المهدية، لكن انتماء الأول للقرن التاسع عشر، وسيادة الثانية في الربع الأول من القرن الجديد، يضفى على أم كلثوم مكانة خاصة تنبع من تفوقها المطلق اعتبارا من بداية الربع الثاني في القرن، وهي الفترة التي تمثل الإطار الزمني للغالبية العظمى من أبطال نجيب وشخوصه.

مع بداية الظهور، تطل منيرة المهدية لتمثل منافسا شرسا أكثر شعبية وانتشارا. أفراد شلة أطفال «المرايا» يتذاكرون يوما مطربة «جديدة»، أم كلثوم، يقول عنها سرور عبدالباقي:

« – سمعتها في فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية!

فـ «كبر علينا» ذلك وقال جعفر خليل:

  • صوت منيرة يعلو ولا يُعلى عليه.

وانتهره خليل زكى، عديم الاهتمام بالغناء، قائلا بوقاحته المعهودة:

  • لا تردد آراء أمك بيننا!».

الأغلبية الساحقة من «الرأي العام»، ممثلا في أطفاله، تنحاز إلى منيرة المهدية، ومقولة سرور، البريئة العابرة، تمثل «صدمة» ينم عليها استخدام الراوي لتعبير «كبر علينا»، واندفاع جعفر خليل للدفاع، ومبادرة خليل زكي بالهجوم الوقح!.

إذا كان هذا هو موقف الصغار الذين لم يتشكل وجدانهم ويكتمل وعيهم بعد، لكنهم يعكسون الشائع السائد في عالم الكبار الناضجين، فإن الجيل الأقدم يبدو أكثر حذرا وحرصا في التعامل مع الصوت الجديد.

***

في «قصر الشوق»، يستشهد إسماعيل لطيف في حواره مع كمال عبدالجواد بأغنية للمطربة الجديدة أم كلثوم: «الحقيقة إن قلبك موجع، إنه يغنى مع المطربة الجديدة أم كلثوم: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا».

هذا الاستشهاد يمثل بدايات استيعاب الجيل الجديد لصوت أم كلثوم والاندماج معها، لكن جيل الآباء يختلف. في الرواية نفسها، يستمع السيد أحمد عبدالجواد، أحد أبرز المولعين بالغناء في عالم نجيب محفوظ، إلى أسطوانات المطربة الجديدة، ولا يبدى شيئا من الحماس والتعاطف: «أعارها أذنا حذرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها».

تتشكل ذائقة الجيل الذي ينتمي إليه أحمد على أغاني عبده الحامولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي، وليس من الميسور إضافة الصوت الجديد الشاب إلى التراث المزدحم المستقر، ولا تجدي شهادة الزعيم سعد زغلول في الإحساس بالصوت وتذوقه.

في جلسة الشراب التي يتذكر فيها أحمد سماعه لأسطوانات المطربة الجديدة في منزل صديقه محمد عفت، يسأل عفت العالمة العتيقة جليلة عن رأيها في أم كلثوم، فتقول: «صوتها، والشهادة لله، جميل. غير أنها كثيرا ما تصرصع كالأطفال»!.

***

يبدو أن محمد عفت، الذي يقتني الأسطوانات ويسمعها لأصدقائه، من المؤمنين بموهبة المطربة الصاعدة، وقادر على التخلص من مؤثرات تراثه الغنائي التقليدي، فهو يعود ليقول:

« – البعض يقولون إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت منيرة نفسها!».

تتوالى ردود الفعل المحتجة الرافضة لمقولته الجريئة، وتهتف جليلة مدافعة عن مقام منيرة ومكانتها:

« – كلام فارغ!، أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟

وتقول زبيدة بازدراء:

  • في صوتها شيء يذكرني بالمقرئين، كأنها مطربة بعمامة!

ويقول أحمد عبدالجواد رافضا، مقرا في الوقت نفسه بشعبية الصوت الجديد وانتشاره:

  • لم أستطعمها، ولكن ما أكثر الذين يهيمون بها، والحق إن دولة الصوت زالت بموت سي عبده».
***

البداية القوية لا تحول دون الانقسام والتحامل العنيف الجائر على الموهبة الثرية، ذلك أن توجهها يصطدم بالشعبية الجارفة لمنيرة المهدية وهيمنتها على عشاق الغناء. أحمد عبدالجواد يتخلص من الصراع وعبء الاختيار، فهو يرى البطولة المطلقة لعبده الحامولي، ولا متسع عندئذ لمنيرة وأم كلثوم معا!.

بعد استقرار أم كلثوم على العرش، في سنوات تالية، يستمر الصراع بلا هوادة، فهذا الاستقرار لا ينفى وجود متحمسين إلى درجة التعصب الأعمى لكل ما هو قديم، في مواجهة غلاة المحبين لأم كلثوم إلى درجة الهوس والتطرف غير المحدود.

في «خان الخليلي»، يرى أحمد عاكف، المحافظ التقليدي، أن الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر النفوس بغير عناء. وإزاء هذا التصريح، يتساءل سيد عارف في إنكار:

« – وأم كلثوم وعبدالوهاب؟»

لا يملك أحمد إلا الاستمرار في الدفاع عن رأيه، فيقول:

« – عظيمان فيما يرددان من وحى القديم، تافهان فيما عداه!».

ويأتي تعليق سيد متعصبا لا هوادة فيه:

«- أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل!».

عندئذ، لا يجد عاكف مفرا من الإقرار بعظمة «صوت» أم كلثوم، دون اعتراف مماثل بعظمة «فنها»!:

« – أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية!».

رأى غرائبى قوامه التناقض والتلفيق، بما يتوافق مع شخصية قائله. كيف يكون الصوت عظيما لا خلاف عليه، و«الناحية الفنية» تافهة ما لم تلتزم بالقديم؟، وهل يمكن الفصل بين الصوت وما يسميه بالناحية الفنية؟

  • السيادة والتفرد

تسود أم كلثوم بلا منافس، وتتهاوى قلاع المدافعين عن القديم السابق لها.

في «السكرية»، يعترف رضوان ياسين لعبدالرحيم باشا عيسى بأنه من «غواة» أم كلثوم، وكان ذلك في مطلع الأربعينيات، ولا يجد الباشا، المحب للقديم من الغناء، مفرا من الخضوع لسريان الزمن وتحولاته: «جميل، لعلى من عشاق القديم، ولكن الغناء كله جميل، فأنا أحب ثقيله وخفيفه كما يقول المعرى».

وإذا كان أحمد عاكف، في المرحلة التاريخية نفسها كما تقدمها «خان الخليلي»، يتفلسف ليميز بين الصوت وأصول الفن، فإن شقيقة الأصغر رشدي يبدو نموذجا للجيل التالي الذي يعشق أم كلثوم، ويرضخ لفنها وسحره وجاذبيته بلا مقاومة.

في مطاردته للجارة نوال، يسر بالسينما التي تختارها محطة أخيرة في رحلة المتابعة الطويلة، ومرد سروره أن السينما تعرض فيلم «دنانير» الذي تقوم أم كلثوم ببطولته: «وأدرك أن هذه المطاردة أتاحت له لذتين عزيزتين».

***

وهكذا تتساوى لذة الاستماع إلى أغاني أم كلثوم في الفيلم، مع لذة المغامرة العاطفية الجديدة في حياته.

داخل صالة العرض، يبقى رشدي مخلصا لعاطفته الغزلية، فيتجول بصره بين البناوير والألواج والمقاعد، مزجيا تحيات المودة إلى الصدور والنحور والثغور والمعاصم، لكن هذا كله ينتهي ببزوغ صوت أم كلثوم: «فما أن يغرد الصوت الإلهي بأغنية النبع «طاب النسيم العليل» حتى غفل عن الوجود».

تفكر نوال، بعد عودتها إلى البيت، في جارها المثابر العنيد الذي يتبعها عامدا، وتتوقف أمام انشغاله بأم كلثوم على حسابها: «ومن عجب أنه نسى وجودها في السينما بترنيم أم كلثوم!، أما هي فلبثت تشعر بوجوده عن كثب منها طوال الوقت».

***

لأن أم كلثوم تمارس هذا التأثير على العاديين من الناس الذين يحبون الغناء ويذوبون فيه، فإن ممارسي الفن، مع اختلاف مواهبهم وحظوظهم في الانتشار، يقرون بتفوقها ويستسلمون بلا مقاومة لشهرتها ولا يحملون بتجاوزها. غاية الطموح هو الاستمرار والتواجد في ظل سيادتها، ولعل هذا ما يفسر أن مدعى الفن على صبري، في «بداية ونهاية»، على الرغم من غروره وتعالمه الكاذب، لا يصل به التهور النرجسي إلى ادعاء منافسة أم كلثوم أو التشكيك في مكانتها، فهو يخاطب تابعه الخائب حسن كامل في مرارة وتهكم: «ماذا يُسمع الآن في الراديو؟. لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء. ولو كانت المحطة تراعى وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبدالوهاب».

بعد سطور قلائل، ينهال «نقده الفني» على محمد عبدالوهاب، ما يكشف عن اعتقاده بأنه أولى منه بالغناء في الإذاعة، لكنه لا يتعرض لأم كلثوم مقرا بأنه دونها.

عندما يصل على صبري إلى محطة اليأس من الغناء، متفرغا لإدارة القهوة والاتجار في المخدرات، يعترف بأن الراديو محتكر بمعرفة أم كلثوم وعبدالوهاب وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، ومن الجلي أن أم كلثوم فوق النشاز المنسوب إلى الشرذمة غير المسماة!.

قبل اعتزال الغناء، لا يجد على صبري مفرا من حفظ أغاني محمد عبدالوهاب وطقاطيق أم كلثوم، حتى يتسنى له العيش «في البلد الذي لا يقدر الفن»، والأمر نفسه يتكرر مع الشقيقين إبراهيم وزكي ضرغام، في قصة «صباح الورد». تقتصر ثقافتهما الفنية على حفظ الأدوار والتواشيح القديمة: «ثم مضيا مع الزمن يحفظان أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب».

  • خصوصية ميرامار

لعل «ميرامار» هي أكثر روايات نجيب محفوظ تجسيدا للمكانة الرفيعة التي تحتلها أم كلثوم في الحياة المصرية، وتعبيرا عن الدور الذي تلعبه في الحراكين الفني والاجتماعي معا.

العلاقة بين سكان البنسيون لا تتجاوز حدود التعارف الشكلي التقليدي، حتى تقترب الليلة الأولى لموسم أم كلثوم، فيعرف الصحفي العجوز عامر وجدي أنهم سيسهرون حول الراديو: «وأنها ستكون ليلة طيبة عامرة بالشباب والغناء».

لا تقتصر السهرة على الاستماع للغناء والاستمتاع به، ذلك أنها أيضا أداة تواصل اجتماعي وتعاون إنساني وتحرر من وطأة الروتين والملل، وعلى هذا التوجه يجمع السكان المختلفون في كل شيء تقريبا.

***

حسنى علام، المندفع المستهتر اللامبالي، المسكون بالشهوات والمجون، يقول عن السهرة ذات الخصوصية المتفردة: «ليلة أم كلثوم ليلة متوجة حتى في بنسيون ميرامار. أكلنا وشربنا وضحكنا. خضنا في كل موضوع حتى السياسة».

ويقف الشيوعي المأزوم منصور باهى في خندق واحد مع حسنى، على الرغم من التناقض الكامل بينهما، في الإحساس بطبيعة السهرة الاستثنائية: «ليلة أم كلثوم، ليلة الخمر والطرب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس».

ولا يختلف الأمر بالنسبة للانتهازي الوصولي سرحان البحيري، ذي الشخصية المغايرة تماما لشخصيتي حسنى ومنصور:

«وكانت ليلة أم كلثوم.

نازعني المزاج إلى قضائها في بيت على بكير لنتلقى السماع في جو هادئ جدير به، كما دعاني رأفت أمين إلى السماع في مسكنه، ولكنى فضلت – بعد تفكير – السهر مع أسرة البنسيون لأوثق علاقتي بأفرادها».

***

الفوارق الشاسعة بين الثلاثة أكثر من أن تُعد أو تُحصى، لكنهم يتفقون على خصوصية الليلة وطقوسها المميزة.

ويمتد التأثير الطاغي لأم كلثوم ليطول غير المصريين. مدام ماريانا، صاحبة البنسيون يونانية الأصل، لا تغير المحطة الإفرنجية التي تدمن سماعها إلا ليلة أم كلثوم. يسألها عامر وجدي، بعد وصوله إلى البنسيون بغرض الإقامة الدائمة: «ألا نغير المحطة الإفرنجية؟»، وتأتي إجابتها واضحة سريعة حاسمة لا تردد فيها أو مجاملة: «عدا ليلة أم كلثوم فلا محطة غيرها!».

في ليلة أم كلثوم، يستمع حسنى علام مع النزلاء الآخرين، وسرعان ما يعجز عن التركيز بسبب قلقه وملله وتوتره الدائم، ويدهشه أن المدام تحب أم كلثوم وتصغي إليها في اهتمام: «ولعلها لاحظت دهشته فقالت:

  • سمعتها عمرا طويلا».

وفي مناسبة أخرى، يعلق حسنى على طواف ماريانا بحجرات البنسيون حاملة المبخرة: «إذن فأنت تحبين أم كلثوم وتؤمنين بالبخور؟».

أي شيء يبقى من الانتماء الغربي لليونانية العجوز، وهي التي تحب أم كلثوم والبخور؟

الاستماع إلى كوكب الشرق والاستمتاع بها هو القاعدة في عالم نجيب محفوظ، وخلاف ذلك هو الاستثناء النادر الذي لا يُقاس عليه ولا يُعتد به. إنها مصدر السعادة والبهجة كما في المقطع الأول من قصة «الميدان والمقهى»، مجموعة «الفجر الكاذب»: «يتهادى صوت أم كلثوم من الراديو ليسعد صباح السامعين».

***

يشكل صوتها جزءا أصيلا في نسيج اللوحة المعبرة عن إيقاع الحياة المصرية، مندمجا في منظومة الصباح والشباب والإشراق والصفاء. ولأنها مصدر السعادة والبهجة، وعلامة التحقق والانتعاش، فإن المعاناة في سبيلها محتملة، وإذ تشكو اليونانية ماريانا:

« – عيب ثومة أنها تبدأ في وقت متأخر جدا!

يعلق عامر وجدى كأنه ينفى العيب أو يبرره:

  • ولكن الشباب نجحوا في التغلب على آلام الانتظار».

رشدي عاكف، في «خان الخليلي»، يغفل عما حوله ليستمتع بأم كلثوم في أغاني فيلم «دنانير»، لكن سرحان البحيري لا يستطيع أن يتجاهل زهرة وهو يستمع. ولعل انشغاله بالحب هو ما يفسد عليه استمتاعه «المعتاد»، أو على حد تعبيره: «لم أستمتع بأم كلثوم كالعادة، ولا رددت معها بعض المقاطع، ولكن نشواتي تفاعلت كسيال كهربائي مع زهرة».

الفارق بين رشدي وسرحان هو الفارق نفسه بين مغامرة عاطفية لم تكن قد وصلت إلى حافة الحب بعد، وبين حب ملتهب يعانى من أزمة حقيقية معقدة، وهذا الفارق هو ما يؤدي إلى انتصار أم كلثوم على نوال، وتراجعها أمام زهرة!.

  • العلامة والرمز

غياب استمتاع سرحان يمثل الاستثناء النادر في علاقته مع أم كلثوم، وهو ما يمثل مظهرا من مظاهر «الشذوذ» عند شخصية أخرى تستبدل بالنواح والعديد أغاني أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.

من مظاهر «الشذوذ» التي يتسم بها عبدالمنعم الكاشف، في قصة «صباح الورد»، وتعبر عن شخصيته المضطربة: «أنه مولع بنواح الندابات أكثر من أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب».

في هذا السياق، يبدو التشبه بأم كلثوم هو الأداة الوحيدة المتاحة لتقريب المعنى الذي تعجز اللغة العادية عن استيعابه.

في «السكرية»، لا تجد العالمة المتقاعدة جليلة ما تعبر به عن مكانتها القديمة المندثرة، إلا أن تقول لكمال عبدالجواد: «كنت في أيامي كأم كلثوم في أيامك الكالحة».

المراهنة هنا على معرفة كمال اليقينية بالمكانة التي تحتلها أم كلثوم في الثلاثينيات والأربعينيات، وبالقياس يمكن تخيل مكانة جليلة وشهرتها في الزمن القديم.

تعود جليلة إلى ماضيها المزدهر المندثر مستعينة بأم كلثوم، ويلومه مستقبل أخريات على ضوء ما تمثله المطربة المتربعة فوق القمة، حالمات بمجدها والتطلع إلى خلافتها. النجاح الذي تحققه المطربة الشابة وداد صبري، في قصة «صباح الورد»، يذكر الراوي بما كان يقوله أبوها لأبيه في زمن قديم، في سياق مديح ابنته الموهوبة: «هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء».

***

وهل من نموذج يُحتذى يفوق أم كلثوم؟!

لأن الفكاهة تمثل ملمحا رئيسا في عالم نجيب محفوظ، فإن أم كلثوم لا تنجو منها، لكن: أي نمط من الفكاهة يُمارس معها وتندمج فيه؟ إنها الفكاهة المنطلقة من الإقرار بعظمتها وتفردها، والمستثمرة لمكانتها غير المتنازع عليها.

المفترض في المحامي الإخواني محمد حامد برهان، في «الباقي من الزمن ساعة»، هو نفوره من الغناء لأسباب فكرية تتعلق بعقيدته السياسية، ذات الجذور الدينية، المعادية للفن، لكن هذا لا يمنع الإخواني العتيد من توظيفه لأغنية كلثومية شائعة للسخرية من جمال عبدالناصر، وليس من المطربة، فهو يقول ساخرا عن «نزهة» اليمن التي تنقلب إلى متاهة: «أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم «أسيبك للزمن»؟. يُقال إن الأصل هو: أسيبك لليمن!».

وفي «السراب»، يعود الدكتور أمين رضا من بعثته الأوروبية ساخطا متذمرا متمردا، مبشرا بالانحياز إلى الحكومات الفاسدة المعجلة باشتعال الثورة، بديلا للحكومات الشعبية التي لا تستطيع أن تفعل شيئا، وعندما يُسأل:

« – ألا تجد في مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟

يدير عينيه البراقتين في الحاضرين ويقول مبتسما:

  • بلى .. أم كلثوم».

وبعد انتهاء سهرة أم كلثوم في «ميرامار»، يقول منصور باهى للعجوز عامر وجدي، المنتمى إلى الماضي البعيد:

« – هل سمعت في ماضيك صوتا كهذا الصوت؟

فيجيب العجوز بأسى:

  • إنه الشيء الوحيد الذي لا نظير له في الماضي»!
***

أما طلبة مرزوق، الإقطاعي الرجعى المعادي لثورة يوليو، الذي يملأ الرواية بسخرياته اللاذعة من النظام الناصري وقراراته، فإنه يستمع إلى أم كلثوم في السهرة نفسها بعمق، ويهمس لحسنى علام ساخرا: «من نعم الله أنهم لم يصادروا أذني!».

في النماذج السابقة جميعا، فكاهة مرتبطة بأم كلثوم، لكنها لا تسخر منها ولا تتهكم عليها. المحامى الإخواني يستثمر الأغنية دون المساس بصاحبتها، للسخرية من عبدالناصر وورطته في حرب اليمن، والدكتور أمين رضا يتهكم على واقع وطنه المتخلف من خلال أم كلثوم، القيمة الوحيدة الجديرة بالاحترام، وبذلك يسخر «من خلالها»، ولا «يسخر منها». الأمر نفسه يتحقق مع عامر وجدي، الذي ينتمي إلى زمن سابق لظهور أم كلثوم وممتد إلى ما بعد سيادتها وتألقها. إذا كان التعصب للزمن القديم يفرض عليه أن يحب كل ما فيه، فإن خصوصية أم كلثوم تتبدى في أنها «الظاهرة الوحيدة» التي لا نظير لها في ماضيه، أما مرزوق فيسخر من مصادرات وتأميمات الثورة، ويحمد الله على أنهم لم يصادروا أذنيه، وكأنهما تقبلان المصادرة، حتى يستمتع بالاستماع!.

لا يخلو الأمر من هجوم حقيقي على سيدة الغناء العربي، لكن الهجوم، مثل الفكاهة المرتبطة بها، لا يتعرض لها في ذاتها. عبدالرحمن شعبان، المستغرب المعادى للشرق والشرقيين في «المرايا»، يسخر من الولع الشرقي بالألقاب، وفي إطار هذه السخرية يتعرض لأشهر ألقاب أم كلثوم متهكما: كوكب الشرق.

***

لا يخلو الأمر كذلك من برود نسبى يعترى بعض الأجيال، بحكم المتغيرات الاجتماعية والمؤثرات الإعلامية، تجاه أم كلثوم. سنية المهدي، في «الباقي من الزمن ساعة»، تنزعج لجهل حفيدها بزعماء مصر قبل ثورة 23 يوليو، ومن بروده أيضا تجاه أغاني أم كلثوم وولعه بعبدالحليم حافظ والأغاني الإفرنجية!.

تبقى ملاحظة أخيرة حول الموقع الذي تحتله أم كلثوم في عالم نجيب محفوظ، ونعنى بذلك استخدام بعض الأغاني للتعبير عن حماس مستمع أو ذكرياته، أو لتؤدي دورا في تشكيل نسيج فني خاص يستهدفه الروائي.

في «خان الخليلي»، يتجلى الحماس لأغنية بعينها عند المعلم زفتة، وهو مدمن عتيد قليل الكلام عادة، لكن الحوار الذي يتطرق إلى الغناء يثيره فيقول معلقا: «اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى ياليل، وعلى محمود إذا أذن الفجر، وأم كلثوم في “امتى الهوى”، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!».

من مفردات لغة الإدمان، يستمد تقييمه الفني، الذي يتسم بالإيجاز ومعانقة اليقين الذي لا يطوله الشك!

***

الأغنيات المرتبطة بذكريات معينة، نجدها عند العجوز الحكيم محتشمي زايد في «يوم قتل الزعيم». يستدعى ذكريات شبابه وما يرتبط به من انطلاق وتحرر واستمتاع بالحياة: «أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلي، والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحي، إن كنت أسامح وأنسى الأسية».

الأغنية الأولى لمنيرة المهدية، والثانية لأم كلثوم.

وفي قصة «الرجل الآخر»، مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»، يترنم أحد السابلة شاديا: «أهل الهوى يا ليل».

يأتي هذا الترنم تعبيرا عن سيادة العادي المألوف، من منظور قاتل مختلف عن غيره، في إطار ضبابي يمزج الواقع بالأحلام، والحقيقة بالخيال.

اقرأ أيضا:

ملف| «الست».. صوت السماء

شهادة أصدقاء الطفولة: «أم كلثوم» في سنوات التكوين

«الست» في 2025: ماذا لو كانت أم كلثوم بيننا اليوم؟

أم كلثوم العربية ضد عبد الوهاب المصري على الشاشة

«أم كلثوم» تكتب: قصتي مع المليم والجنيه

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر