«اللنبي».. المعتمد البريطاني الذي تحول إلى دمية

تنفرد مدينة بورسعيد عن غيرها من المدن المصرية بطقوس احتفالية خاصة في أعياد شم النسيم. تلك العادات والتقاليد التي تبلورت داخل المجتمع، وتحولت بمرور الزمن إلى موروث ثقافي وحضاري توارثه الأحفاد من الأجداد. ساهم في تشكيل الشخصية البورسعيدية، وتحديد هويتها الفكرية.

ومن أهم هذه الطقوس عادة حرق “اللنبي” أو “الألمبي” باللغة العامية البورسعيدية. وهو عبارة عن دمية محشوة بالقش ونشارة الخشب، أو الملابس القديمة. وترجع تلك التسمية إلى الفيلد مارشال “اللنبي” المندوب السامي البريطاني في الفترة من 1919 حتى 1925.

***

بدأت عادة حرق اللنبي ببورسعيد، في أعقاب صدور القرار بعزل اللورد اللنبي وإحالته للتقاعد. ومغادرته مصر عن طريق ميناء بورسعيد في الخامس والعشرون من يونيو عام 1925. وكان الأهالي في انتظاره حتى يودعونه وداعا يليق بأمثاله من الطغاة، ساخرين منه وشامتين فيه. فرحين بمغادرته مصر إلى الأبد وبلا رجعة، بعد فشل سياسته القمعية وبطشه بالمصريين. وفي دلالة رمزية أقاموا له محاكمة شعبية للتعبير عن مدى كراهيتهم له، بأن أعدوا له دمية كبيرة من القش على هيئته، وقاموا بإحراقها وبذلك تحول جبروته إلى رماد تذروه الرياح.

وترجع تلك الكراهية تجاه اللورد اللنبي، عندما أراد أهالي بورسعيد وداع سعد باشا زغلول ورفاقه إسماعيل صدقي ومحمد محمود وحمد الباسل. بعد إلقاء القبض عليهم من قبل السلطات البريطانية ونفيهم إلى جزيرة مالطة على ظهر الباخرة كالودنيا من ميناء بورسعيد في التاسع من مارس عام 1919. إلا أن حكمدار بوليس القنال “جرانت بك ” بأوامر من اللورد اللنبي منع أبناء بورسعيد من الوصول إلى الميناء. فقام بعمل كردون أمني من جنود الاحتلال البريطاني بشارع محمد على ليفصل بورسعيد إلى نصفين قرية العرب بالغرب وحي الإفرنج بالشرق. وكلما حاول المصريون اختراق هذا الحصار كانت عصى القوات البريطانية تمنعهم من التسلل. مما اضطر الأهالي إلى الرد عليهم بإلقاء الزجاجات الفارغة والحجارة تجاههم معلنين سخطهم على منعهم من وداع زعيم الأمة وصحبه.

***

وبعد اندلاع ثورة 1919، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 21 مارس 1919 خرجت المظاهرات في بورسعيد التي تطالب بالاستقلال. وتجمعت جموع المصلين من المسجد التوفيقي مع جموع المصلين من المسجد العباسي. والتقوا مع جموع الأقباط الأرثوذكس القادمين من كنيسة السيدة العذراء ليلتقوا في نقطة واحدة عبر شارع محمد علي. وتصدى لهم الحكمدار الإنجليزي وجنوده، إلا أنهم لم يذعنوا لأوامره بالتفرق. فأمر جنوده بإطلاق النار على جموع المتظاهرين فسقط منهم سبعة شهداء وجرح المئات. ومنذ تلك اللحظة أعلن أهالي بورسعيد كراهيتهم للورد اللنبي وأصبحوا يناصبونه العداء، واعتبروه رمزا من رموز الطغيان.

والشائع تاريخيا أن عادة حرق دمية (اللنبي) جاءت وليدة مغادرة اللورد اللنبي لمصر عن طريق ميناء بورسعيد. إلا أن هذا الأسلوب من الاحتجاج له جذور أخرى في بورسعيد. حيث ذكر المؤرخ البورسعيدي ضياء الدين القاضي في كتاب “موسوعة تاريخ بورسعيد”، والذي خصص لاحتفالات شم النسيم الفصل الثالث من الجزء الثاني. والذي استعان بالمرجع اليوناني “حقائق وذكريات عن مدينة بورسعيد”. يوضح لنا الكاتب كيف كان العداء مستحكما في ثمانينات القرن التاسع عشر بين اليهود المقيمين على أرض بورسعيد، والجالية اليونانية التي حضرت في زمن حفر القناة.

ويعود هذا العداء إلى مساعدة يهودا الأسخربوطى على إيذاء المسيح (كعقيدة المسيحيين). وتعبيرا عن ذلك العداء اعتاد اليونانيين أثناء الاحتفال بعيد القيامة المجيد على حرق دمية من القماش محشوة بالقش يطلق عليها “الجوداس” تعلق فوق ساري الكنيسة بالحبال وتحرق بعد انتهاء الصلاة. مما أدى إلى احتجاج اليهود المقيمين ببورسعيد لدى محافظ القناة يلتمسون منه منع هذا الاستهزاء بهم من قبل اليونانيين.

***

وفي إبريل 1883 توقفت هذه العادة لحدوث أعمال شغب وتبادل لإطلاق النار بين البوليس المصري “الذي طلب إنزال دمية الجوداس من فوق ساري الكنيسة” وبين الجالية اليونانية التي رفضت هذا الأمر. مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، وانتهت للأبد عادة حرق اليونانيين لدمية الجوداس.

وهناك من يعزى تلك العادة إلى عدة حكايات كان يرددها أهل بورسعيد. فمنهم من يقول أن هذا القائد الإنجليزي الصارم وقف على أبواب مدينة القدس في نهاية الحرب العالمية الأولى مناديا: “الآن انتهت الحروب الصليبية ” بعد أن أحرق كثير من الأحرار العرب المدافعين عن بلادهم، فأراد أهالي بورسعيد أن يعاملوه بالمثل بإحراقه مرة كل عام.

لمحة عن اللورد اللنبي

الفيلد مارشال إدموند هنري هينمان اللنبي، الڤايكونت اللنبي الأول، ضابط وإداري بريطاني. اشتهر بدوره في الحرب العالمية الأولى حيث قاد قوة التجريدة المصرية في الاستيلاء على فلسطين وسوريا عامي 1917 و1918، والتي جمع فيها آلاف المصريين قسرا للاستيلاء على فلسطين وسوريا وهزيمة الجيش العثماني. وكان الداعم الأول لجهود لورنس العرب في خداع العرب وتقسيم أراضيهم وإهداء فلسطين للكيان الصهيوني. ثم عين بعدها معتمد بريطاني لمصر 1919حتى 1925.

لقب بالثور الدموي تعبيرا عن طغيانه وجبروته. وأصبحت عادة حرق دمية اللنبي تقليدا سنويا لكل أهالي بورسعيد، ورمزًا لمناهضة الطغيان، لتذكر الأحفاد بصرخة الأجداد في وجه كل ظالم.

اقرأ أيضا:

«زفة اللنبي» و«الغطس في بحر مويس».. ذكريات المصريين للاحتفال بشم النسيم

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر