«استدامة» الحلم.. نساء يعدن رواية التراث في الغربية

على الطريق الريفي الرئيسي في قرية حنّون، بمركز زفتى بمحافظة الغربية، يتوارى مبنى بسيط بين الحقول، لكن جدرانه تحتضن أحلام نساء كثيرات. أحلام تحقق كل يوم بمزيدٍ من حكايات الصبر، والشغف بالتعلم، والإرادة للحفاظ على التراث، وإثبات الذات، ونبض مختلف للحياة على إيقاع رؤية النساء وضحكاتهن.
هناك، في مركز «استدامة» تُنسج حياة جديدة كل يوم كما تنسج قطع الملابس والحرير بأيدي النساء. المركز الذي افتتح في أغسطس من العام الماضي، يهدف إلى تمكين المرأة اقتصاديًا، ويسعى لدعم طموحاتهن في إحياء التراث المنسي في الغربية وإعادة صياغته بروح معاصرة.
مركز استدامة للحرف اليدوية والتراثية
عند دخولي القرية، رأيتها لا تقل بساطةً عن قرى الغربية الأخرى. وحين دخلت المركز لم أقابل بأبوابٍ صامتة وجدران لا حياة بين ساكنيها، قابلتني اللافتات التعريفية، والأخبار الصحفية المنشورة عن المركز مؤطرة على الجدران، فيما التقط أنفي مزيج من روائح الخشب والنحاس المذاب. كما تداخلت أصوات النقر المختلفة على الخشب مع صوت ماكينات الخياطة في تناغم ساحر كأنه موسيقى أمل.
أبصرت صالة طويلة، وأربع غرف على الجانبين: على اليسار غرفة للأشغال اليدوية الثقيلة، وأخرى للأشغال الخفيفة، أما اليمين غرفة للمنسوجات، وأخرى لتعليم الرسومات الإلكترونية الحديثة والجرافيك، ومشغل للخياطة والتطريز في الدور الذي يليه، ومعرض لعرض مخرجات المركز، ومسكن مخصص للمدربين والمتدربات من خارج المحافظة.

نساء يعدن تعريف العمل
في غرف مكيفة وبمقاعد بسيطة ومينة، تجلس النساء. أعمارهن متفاوتة من الثامنة عشرة فما فوق، تلمع أعينهن بشغف في ورشة الكروشية وورشة النحاس التي حضرتها. بينما ينهمك أخريات في التطريز والحفر على الخشب، وأخريات يصنعن الإكسسوارات وينسجن خيوط المكرمية، يتعلمن كل جديد بشغف حقيقي.
نورا إيهاب، إحدى المشاركات في ورشة تصنيع الجلود، تقول لـ«باب مصر- بحري» إن المركز يمثل لها حياة مختلفة، فهو يأتي لهن بمدربات متميزات، تعلمت على أيديهن الأمانة والصبر قبل تعلم كل حرفة. مشيرة إلى أن هذه هي ثالث ورشة تحضرها، فقد حضرت معهن ورشة تعلم الكروشيه وورشة الجرافيك ديزاين. والآن تتعلم صناعة الحقائب الجلدية والأحذية والإكسسوارات.
أما الحاجة صفاء حامد، إحدى رواد المركز، فتحكي أن تعلمها الخياطة والتطريز والتفصيل في المركز ساعدها على إيجاد فرص عمل في أحدى مصانع الملابس، رغم أنها تجاوزت الأربعين من عمرها.
من حلم إلى واقع
«لاحظت أن النساء هنا يمتلكن مهارات فطرية في الأشغال اليدوية. لكنها مهارات خاملة كانت تحتاج إلى من يعيد لها الروح، بكل عزم حاولت شحذ هممهن رغم الفروق الفردية وأعمارهن المختلفة. كان لدي حلم أن أعلم النساء في الأرياف وقد تحول هنا حلمي إلى واقع»، هذا ما قالته آية البحيري، مدربة الكورشيه، لـ«باب مصر- بحري».
الحكاية تتكرر يوميا، فالمركز يحضر لهم الخامات المستخدمة، والنساء يتركن بصماتهن المختلفة عليها. حتى أنه هناك من يقمن مشروعات صغيرة في بيوتهم بعدها. وهذا هو هدف المركز، أن يكون المتخرجات منه قادرات على إعالة أنفسهن وأبنائهن.
يعد مركز استدامة الأول من نوعه في الغربية لتعليم الحرف التراثية واليدوية للمرأة من أجل تمكينها اقتصاديًا. ويستقبل يوميا أكثر من 400 امرأة من 10 قرى مجاورة في زفتى والمحافظة من أجل تعلم المهارات والحرف. يستهدف النساء بين سن 18 إلى 45عاما، وكل ورشة لها مستويين مبتدئ ومتقدم. وفي الحصة الواحد تمنح كل امرأة 100 جنيه، بحسب سعاد إبراهيم، المشرف العام على الأنشطة والورش بالمركز.
ويهدف المركز إلى توفير 400 فرصة عمل مباشرة سنويا لـ400 سيدة معيلة من أهالي قرية حنون والقرى المجاورة. وتوفير 1000 فرصة عمل غير مباشرة، ضمن رؤية مستدامة تراعي الحفاظ على البيئة.

رغبة مستمرة في النجاح
إسراء عبد الموجود، إحدى المتدربات في ورشة النحاس، تحرص دومًا على أن لا يخلو يومها منه. فهي تركز في التفاصيل البسيطة التي تجعل لحياتها معنى. وتؤكد لـ«باب مصر-بحري» أن «استدامة» جعل لحياتها معنى بعد تخرجها. لأنها تعمل فيما تحب وتؤمن وهو صنع الإكسسوارات من النحاس. ترى في المركز أملًا مختلفًا يتجدد كل صباح.
وتضيف عبد الموجود أن عملها هنا وتدربها لا يؤثر على حياتها الشخصية أو الاجتماعية. فبالرغم من قضائها معظم اليوم هنا، من التاسعة حتى الخامسة، إلا أن حياتها الشخصية لم تتأثر. وتستطيع قضاء جميع الأنشطة بجانب تعلم الحرفة. وتشير إلى أن أملها أن تفتتح معرضًا يخصها قريبًا.
حتى حارس المركز، يعتبر النساء مكافحات هنا، المرة الأولى التي يعتز فيها بنساء قريته، لأنهن بالطبع تغلبن على الخوف، ورغبن في التعلم. والطلب المتزايد على الورش كل يوم للتعلم، يعطيه أملًا مستمرًا في أن المركز سيؤدي دوره وأكثر. فهو يرى «شمس بلاده مشرقة» بنسائها المحفاظات على التراث.
خيوط الأمل تمتد
مع نهاية جولتي، أدركت أن الأمل بدأ بفكرة صغيرة لدى أهالي القرية في القضاء على البطالة. فما بين طموحات بتدشين خط إنتاج لبيع المنسوجات، وبين آمال أخرى بالنهضة بالقرى وعدم اندثار الحرف فيها. كانت خيوط الأمل تمتد لتغزل مستقبلًا كاملًا من الإرادة، يحافظ على استقلالية التراث وخصوصية الفنون المصرية. ويعمل بحرص من أجل ثبات الهوية.
في هذه المساحة من الغربية، أيقنت أن قلوب النساء تتسع لأن يصبحن رواة للحكايات التراثية من جديد. ولكن بأصوات قوية لا روايات شعبية خيالية. وجدت أن في هذا المركز بداية جديدة لبناء ملامح وضحكات وأصوات ثقافية مختلفة.
اقرأ أيضا:
هل تُعوّض بدائل قرى الغربية غياب بيوت الثقافة المهددة بالإغلاق؟
عندما يصبح الطرق على الحديد وسيلة للبقاء.. حكايات من قلب «تل الحدادين» في طنطا
في عيدها القومي| المنوفية كما يراها فنانوها: قصائد تتلى وقرى تحكي وثقافة لا تغيب