مذبحة أبي حزام: سقوط الشاعر وسطوة المكان (2)
كيف يُقْبل الشاعر الرقيق والمثقف على التورط في الثأر، وهل هذا يعني أن الثقافة لا دور لها في مواجهة الثأر؟
نعم يتورط الشاعر المثقف في الثأر، لكن سقوطه لا يعني سقوط الثقافة، بل يؤكد دورها، ويؤكد أهمية أن تكون هي رأس الحربة في مواجهة الظاهرة، لقد سقط فرد أمام الجماعة ولم تسقط الثقافة، سقطت حجرة الشاعر أمام زحف البيوت والشوارع والقرى المجاورة.
الشاعر المثقف
إن للمكان سطوة كبيرة، وللجماعة قبضة تسحق الفرد، وهي لا تفعل ذلك من خلال أساليب عنيفة، بل من خلال ثقافة وأحوال معينة تخلق لا وعيا جماعيا، أو اجتماعيا، يفرض شعورا واحدا يسيطر على المجموع، ويوحدهم في كائن أسطوري واحد، ويحشدهم في رؤية معينة للعالم، ولا يستطيع الفرد سوى الانسياق في ذلك الكيان، حتى لو كانت أفكاره مختلفة، يضحك إذا ضحك الجميع، ويغضب إذا غضب الجميع، ويظهر ذلك على مستوى الدول في حالة الحروب والأزمات، ويحدث في القرى في مناسبات أهمها ظهور العنف، أو الدخول في أزمة الثأر.
وعندما نرجع إلى يوميات صديقنا الشاعر القاتل، نرصد الفرق بين مكانين، مكان تهيمن عليه الثقافة القبلية وهو القرية، وآخر تهيمن عليه الثقافة المدنية الحديثة وهو العاصمة، ويظهر الفرق واضحا، ففي الأيام التي كان يتواجد فيها في القاهرة كان أقل حدة واشتباكا مع الأمور القبلية، وفي السنوات الأخيرة التي استقر فيها في القرية بشكل دائم كان هناك انفعال واندماج كبير مع قضايا القبلية، وهو ما يؤكد القول بتأثير روح المكان، وقدرته على أن يفرض سطوته على الشخصية، ويؤثر فيها تأثيرا كبيرا.
العصبية القبلية
إن القبلية مرحلة قديمة موجودة في أعماق كل إنسان، لقد تعرضت إلى ضغوط ثقافة أخرى أحدث، فرجعت إلى الوراء لكنها لم تمت نهائيا، و هناك بيئة تشجع وتوقظ الاستعدادات القبلية، وهناك بيئة تهذبها وتفرض عليها إقامة جبرية في مكان بعيد جدا.
وإذا كان هذا حال البشر، فالأمر مختلف بالنسبة لإنسان رضع من ثدي القبلية، ونشأ في أحضانها، وعندما بدأ يتسلح بالوعي النقدي، راح يحاورها، ويرفض مظاهرها المدمرة، وهذا الإنسان يمكن أن يرتد بسهولة، لأنه قريب العهد بالمرحة القبلية، بل لم يغادرها وإن ظهرت بينهما خصومة.
الفرق بين قرية الشاعر والعاصمة، ينبغي أن يجعلنا نتريث ونحن في مجال إصدار الأحكام، وهذا ما تعبر عنه الحكمة الشعبية، على نحو ما نراه في المثل الذي يقول: “اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار”، والقاهرة هي الماء وأبوحزام هي النار، خاصة مع تورط عائلته في أزمة العنف، ومن المقبول أن تختلف الشخصية باختلاف المكان ودرجة اندماج الفرد في ثقافته، وحكاية شاعرنا تؤكد تلك القدرات التي تتمتع بها الأمكنة.
الثأر والضعف
لقد كان شاعرنا رافضا للثأر، ورافضا للعصبية القبلية، وقد تورط في القتل نتيجة أسباب متداخلة بالتأكيد، لكن أهمها في تقديري، هو ضعف موقفه أمام موقف الجماعة التي ينتمي إليها، لقد سقط لأنه كان وحيدا في مواجهة ثقافة القبيلة، وهذا يدين كل المؤسسات المعنية ببناء الإنسان، مثل مؤسسات التربية والتعليم، والإعلام، والشباب والرياضة، والجامعات، والأوقاف، ومؤسسات المجتمع المدني التي ترفع راية الثقافة، لأنها عجزت عن أن تكون ندا للبيوت والشوارع والقرى العجوز، وتركت الفرد وحيدا وهو يخوض حربه ضد ثقافة المكان.
ربما نذهب إلى التشكيك في قدرات شاعرنا الثقافية، فلو كان مثقفا حقيقيا بمعنى الكلمة لرفض القتل، أو هرب من القرية، وأنا من خلال كتاباته لا أراه مثقفا بمعنى الكلمة، لكن يكفيني إعلان رفضه للثأر ورفضه للتعصب القبلي، يكفيني تأكيده على الروح الوطنية ومؤازرتها بشكل كبير، غير أن هذا التشكيك في قدراته الثقافية يدين أيضا تلك المؤسسات التي تعجز عن تكوين هذا المثقف النموذجي، والذي يظل وجوده استثنائيا، لأن البيئة لا تدعمه، والمناخ العام لا يشجع على وجوده.
ويظل السؤال مفتوحا، كيف يتورط في القتل شاعرٌ مرهف الحس، رقيق المشاعر، كيف يمتلك القدرة على حمل البندقية الآلية وإطلاق الأعيرة النارية بمنتهى القسوة؟
قد تتعدد الأسباب، لكن يبقى السبب الأساسي في تقديري هو فكرة القداسة، نعم قداسة القتل، وهذا ما سوف نتأمله في المقال القادم.
اقرأ أيضا
صدمة مذبحة أبي حزام: 1ـ القاتلُ شاعرا