محمود شكوكو في أوراق منسية: مسافر وسايب عندكم روحي
في رسالة إلى زوجته يقول محمود شكوكو: سافرت إلى ألمانيا عام 1962 لإحياء إحدى الحفلات هناك وودعتني زوجتي – أم سلطان- حتى الطائرة وتمنيت وقتها ألا أتركها فالغربة كما يقولون بايخة. وبالفعل تمنيت والطائرة تحلق بي في الجو لو عملتها وقفزت منها إلى بيتنا وذلك لإحساسي أن فراقي لها ولو من أجل لقمة العيش شئ لا يجب أن أتساهل فيه!
باختصار وصلت ألمانيا فقد كانت الطائرة على ارتفاع لا يسمح بتنفيذ الفكرة وإذا ما نفذتها وقفزت فلابد وأنني سأصل فعلا إلى الأرض ولكن على أقساط!.. وبالطبع سأتحول إلى مادة مشوقة لمحرري صفحات الحوادث وإلى “تصعيبة” في فم كل إنسان كان يسمع وردد اسم شكوكو.. وبإعتبار أن العمر ليس بعزقة.. ومن هناك كتبت رسالة إلى زوجتي للأسف لم تصلها، ستقرؤها معي الآن والسبب أن مدام “هيلين مكسمليان” إحدى معجباتي هناك كانت قد مدت يدها الطويلة في جيبي الشمال ونشلت منه الرسالة متوهمة أنها إحدى الصور الخاصة بي وكانت قد اكتشفت بعد ذلك ونسيت أن ترسلها طوال المدة الماضية.. أرسلتها لي على غير توقع وانتظار في الأسبوع الماضي ومعها اعتذارها.
من شكوكو إلى زوجته
“بعد – الجود افترنون- والشوق اللي زاد عن حده لرؤية طلعتك البهية منذ أن ودعتيني وحلقت بي الطائرة أنا والفرقة وقد وجدت نفسي بأغني الموال الشعبي المعروف، صابح مسافر وسايب عندكم روحي” وفعلا روحي دي يعني أنت وأولادي وبلدي وحبايبي وأصحابي، وفضلت أغني لحد ما وصلنا بالسلامة وإحساسي بالانتشاء والعظمة يملؤني، وقضينا أول يوم من غير شغل استعدادا لأول حفلة سنقدمها غدا فانتهزتها فرصة خاصة وأنني منذ شبابي أحب اللف والدوران ونزلت اتفسح في أوروبا.. يا خبر أبيض.. الشوارع غير عادية، زحمة فوق ما تتصوري.. إيه الخلق دي كلها، إنما بيني وبينك بالرغم من الزحمة اللي على الآخر دي نظام المرور ممتاز، هناك مفيش إشارات مرور ومع ذلك لا تحدث حوادث أو مخالفات والسبب أن كل السائقين والناس عندهم ذوق، والستات هناك حلوين بس مش خفاف الدم زي ستاتنا، ملامحهم مسمسمة وطعمة، العيون خضراء وواسعة أوسع من شقتنا والشعر سايب، أحمر خفيف كغزل البنات.. حاجة يا أم سلطان ولامؤاخذة تهوس.
المحلات التجارية
علاوة على كدة الأدب ممنوع، عبارة عن حاجة سايبة والفساتين دائما مرفوعة والرزق على الله.. يا خرابي، المحلات التجارية حاجة مش معقولة ولا في الأحلام.. المحل من دول بيشغل عمارة من بابها وفيه كل شئ حتى لبن العصفور.. حتى أتخن المستحيلات وحتى أجعص الطلبات.. وكل شئ أيضا عندهم نظيف.. الشوارع نظيفة تشوفي فيها خيالك.. والأكل نظيف كله في أكياس بلاستيك والعقول كذلك نظيفة، وجيوبي هى الأخرى بعد – فركة كعب- أصبحت نظيفة لأن هناك الحاجة غالية نار.. الأسعار شبه مستحيلة.. تصوري صديق لي مصري عايش في ألمانيا بيقول لي أن نصف كيلو الأرز بثلاثين قرش!. وأن الإنسان العادي علشان يعيش عيشة متواضعة يتكلف في اليوم خمسة جنيه، يا خرابي.. ربنا يجعلك يا مصر عمار، أوعي تفتكري أني باشتكيلك من الغلاء علشان ماجبلكيش هدية.. بالعكس هديتك حاشتريها لك حتى ولو أحتاج الأمر إلى بيع الطرطور أو رهن الزمارة.
الغرض ماطولش عليكي.. تاني يوم عملنا أول حفلة، وبمجرد ما ظهرت على المسرح هاص المتفرجين وهات يا تصفيق ويا تصفير وقبلها حملوني على الأعناق في سريري في الفندق الذي أنزل فيه حتى باب المسرح.. شئ يفتح النفس فغنيت في هذا اليوم كما لم أغني من قبل..
هدم المسرح
وانهدم المسرح مرة أخرى من التصفيق والتصفير والتهليل والهتافات بإسمي وروحي يا روحي، وبالطبع كل هذا جميل وشئ ليس بالجديد فالتصفيق والتصفير يحدث كثيرا في أي حفلة أغني فيها بالقاهرة والهتاف بإسمي سمعته من قبل ألف مرة ولكن الجديد أن هذه المرة تعلن ختام رحلة اللوعة والشقاء الذي رمحته عندما كنت صبي نجار أتشعبط في أي فرح لغناء مونولج على أمل أنني سأصبح في يوم من الأيام شئ ما، والحمدلله على كل هذا الذي وصلته وجعلني انتقل من الغناء في حفلات ختان الأطفال وعقد قران العوانس إلى الغناء في أوروبا.. وتذكرت كل هذا وأنا على المسرح فتوقفت عن الغناء وقد تساقطت دموعي بالرغم مني.. أبكي فرحا كل هذا الحب وكل هذا الحنان!
وفي الختام يا زوجتي العزيزة كنت عاوز أقول لك كلام تاني لكن اتضح لي أنه ما يتكتبش.. نهايته لما آجي بالسلامة حنقوله لبعض!”
زوجك المخلص بالرغم من الإغراء الأروباوي
شكوكو- 1 إبرايل 1965
اقرا أيضا
رمضانيات: أوراق قديمة منسية في حياة هؤلاء