كيف تحافظ دول العالم على مبانيها التاريخية؟ تجربة أمريكا في نقل مبنى سكة حديد

لجأت العديد من الدول حول العالم، إلى وضع تشريعات وعقوبات صارمة تمنع هدم أو تعديل المباني التاريخية، وتخضع هذه التشريعات لتعديلات مستمرة، خاصة مع تسارع البناء حول العالم. وللحفاظ على المباني التاريخية غير المُسجلة كآثار، تتخذ الحماية أشكالا متعددة، من فرنسا إلى الولايات المتحدة، وصولا إلى اسكتلندا وأذربيجان، حيث يتم إتباع أساليب مُبتكرة مثل نقل المباني التي تزن مئات الأطنان، إلى إعادة تأهيل مسارح ومصانع قديمة وتحويلها إلى بنوك أو متاحف أو وحدات سكنية. ويرصد «باب مصر» نماذج من تجارب دولية توضح آلية تعامل الحكومات وشركات التطوير العقاري والتخطيط العمراني مع المباني التاريخية.
حماية التراث
في الولايات المتحدة الأمريكية، تزايد الاهتمام بقوانين الحفاظ على التراث التاريخي في السنوات الأخيرة، إذ تسن لحماية المباني والمعالم ذات القيمة التاريخية.
وبحسب هيئة المتنزهات الوطنية، هناك نحو 2300 قانون معني بالحفاظ على التراث في أنحاء الولايات المتحدة.
تعارض المباني التاريخية مع التخطيط المعاصر
تتعارض بعض المباني التاريخية مع التخطيط الحضري المعاصر، مثل خطة التطوير التي وضعت عام 2023 لإعادة تصميم موقع مكتبة تاريخية ودمجها مع مساحة خضراء عامة. وكانت الإشكالية هي كيفية الحفاظ على هذا الإرث المعماري الذي شكل جزءا من الهوية الثقافية للمدينة.
وكان أحد الحلول المبتكرة هو الاستعانة بشركة “وولف هاوس بيلدينج موفرز – wolfehousebuildingmovers” المتخصصة في نقل الهياكل والمنازل بالكامل من مكانها إلى مكان آخر. هدف واحد هو الحفاظ على المباني والأشجار التاريخية.
نقل المنازل من مكانها
على مدار 50 عاما، نجحت الشركة الأمريكية في إنقاذ العديد من المباني التاريخي عبر نقلها بالكامل من أماكنها. وتعرف هذه المهمة بأنها ليست سهلة، خاصة عند التعامل مع منازل تاريخية يتجاوز عمرها 200 عام، أو أشجار تاريخية يزيد وزنها عن 300 طن.
وقد نقلت الشركة مبنى المكتبة التاريخية الذي شيد عام 1913 من الحجر والطوب بولاية كونيتيكت، مسافة 115 قدمًا داخل قطعة الأرض نفسها، مع تدويره بمقدار خمس درجات وتثبيته على أساس جديد.

الحفاظ على حُلي المبنى التاريخي
خلال عمليات النقل، حرصت الشركة على الحفاظ على كلما هو قديم بالمبنى التاريخي، مثل الأرضيات المصنوعة من الطين المحروق والأعمدة الكلاسيكية في مدخل المبنى.
كما نجحت في مشروع آخر بإنقاذ أثقل مبنى تاريخي بوزن وصل إلى 1750 طنا، من خلال نقله بالكامل، وهو فندق “بيلفيو بيلتمور” في بيلير بولاية فلوريدا، الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1897.
صون محطات السكك الحديدية التاريخية
لم يكن الهدف من نقل المباني التاريخية هو إنقاذها من الهدم فقط أو من تعارضها مع المشاريع الإنشائية الحديثة. ففي ولاية ميشيجان الأمريكية، على سبيل المثال، كانت هناك محطة سكك حديدية تاريخية في موقع معزول. وبسبب عدم استغلال مبنى المحطة، نفذ مشروع لنقلها من موقعها المعزول إلى وسط المدينة. حيث تكثر الأنشطة الثقافية، بهدف إعادتها إلى الواجهة كمعلم تاريخي وثقافي.
المحطة التي شيدت عام 1867 تعد واحدة من أقدم الأبنية في المنطقة. وتتميز بجدران حجرية سميكة يتراوح سمكها بين 17 و24 بوصة. فيما يبلغ طول المبنى 96 قدمًا وعرضه 41 قدمًا، ويزن نحو 304 أطنان. ومن بين المقترحات المطروحة لاستغلال المبنى بعد ترميمه، تحويله إلى متحف تفاعلي إلى الأطفال.
إرث محطة قطار أنفاق
يبدو أن الاهتمام بمباني محطات السكك الحديدية القديمة كان أولوية. إذ هدد مشروع توسعة طريق منزل “كوكس” التاريخي الذي يرجع إلى أواخر القرن الثامن عشر. وتكمن أهمية هذا المبنى في كونه جزءا من إرث محطات القطار بالولاية.
وقد نقلت شركة “وولف هاوس موفرز” المنزل من موقعه بجانب الطريق السريع إلى مكان أكثر أمانًا داخل حدائق ولاية بنسلفانيا، حفاظا عليه من آثار توسعة الطريق.
محطة سرية
بُني هذا البيت التاريخي عام 1790 من الطوب الأحمر، وكان لا يبعد سوى ثمانية أقدام عن الطريق السريع. وقد حظي بالاهتمام نظرا لدوره الإنساني في التاريخ الأميركي. إذ اُستخدِم كمحطة سرية ضمن شبكة “قطار الأنفاق” التي ساعدت العبيد الهاربين على الفرار شمالا نحو كندا خلال أوائل القرن التاسع عشر. وخلال عملية النقل، جرى الحفاظ على المداخن والمدافئ الأصلية.

الحفاظ على التاريخ
يُعرف موقع التخطيط العمراني “نوروك تومورو” المباني التاريخية بأنها ليست مجرد هياكل قديمة، بل خيوط حيوية في نسيج هوية المدينة، وأن الحفاظ عليها يشكل شخصية المجتمع ومستقبله.
ويضيف الموقع: “تشكل المباني التاريخية روابط ملموسة بالماضي، مضفية شعورا بالانتماء للمكان والاستمرارية. فهي تجسد التطور الثقافي والجمالي للمدينة، وغالبًا ما تخلد ذكرى أحداث هامة”.
الفوائد الاقتصادية
يعدد موقع التخطيط العمراني الفوائد الاقتصادية للحفاظ على المباني التاريخية، منها:
1- جودة بناء المباني قبل الحرب العالمية الثانية، التي تتميز بحرفية فائقة ومواد مثل خشب الصنوبر أو الرخام أو الطوب المصنوع يدويًا. أما المباني الحديثة فنادرًا ما تحاكي هذه المتانة أو الطابع المميز.
2- يمكن لإعادة تأهيل المباني التاريخية تحفيز النمو الاقتصادي. إذ أنها بعد الترميم تجذب المستثمرين والسياح والشركات الجديدة. كما يمكن لإعادة توظيف مبنى واحد مهجور إلى مساحات تجارية أو متعددة الاستخدامات أن تحدث نقلة نوعية في طبيعة الحي.
الأهمية الجمالية والبيئية للمباني القديمة
كذلك سلط موقع التخطيط العمراني الأمريكي الضوء على الأهمية الجمالية والبيئية للمباني القديمة. لما تحتويه من تفاصيل وميزات لم تعد موجودة في المباني الحديثة. مثل الواجهات الزخرفية، والأعمال الزجاجية غير التقليدية، والمواد النحاسية.
بالإضافة إلى الطوب القديم، والأخشاب العتيقة، والرسومات على الجدران أو السقف، والزجاج الملون. ويصفها الخبراء بأنها جوهر الهوية الخاصة بالمباني القديمة، والتي تجعلها أكثر جاذبية من المباني الحديثة.
إلى جانب ذلك يمثل الحفاظ على المباني القديمة شكلا من أشكال إعادة التدوير. وبحسب تقرير خبراء التخطيط العمراني: “يحسن إصلاح المباني القائمة وإعادة استخدامها من كفاءة استخدام الطاقة والموارد المادية، ويقلل من النفايات. فلا حاجة لإنتاج مواد جديدة، ولا للتخلص من المواد القديمة المهدمة. كما أن هدم المباني قد يطلق سمومًا وملوثات في البيئة”.
منح للحفاظ على التراث
يتم الحفاظ على المباني التاريخية من خلال ترميمها واستغلالها. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، شهدت مدينة نورووك استثمارات ملحوظة، مع الحفاظ على مبانيها التاريخية العديدة وطابعها المميز.
وتتوفر العديد من البرامج لتمويل إعادة تأهيل المباني التاريخية. ويمكن للمنظمات غير الربحية، وشركات الإسكان غير الربحية، ومالكي المنازل التقدم بطلب للحصول على منح من صندوق الترميم التاريخي.
إحياء مبانٍ تاريخية
يعد إحياء المباني التاريخية وإعادة استغلالها بشكل معاصر مع الحفاظ على طابعها المميز من المشاريع الشائعة في الولايات المتحدة. ولإعادة استخدام هذه المباني، يتم ترميمها عبر الإعفاءات الضريبية. ففي ولاية أوهايو الأمريكية، على سبيل المثال، تم تخصيص ميزانية 66 مليون دولار لترميم وإحياء 39 مبنى تاريخي على مستوى الولاية.
وتعمل هذه المشاريع على تحويل المباني التاريخية إلى وحدات سكنية أو مبان خدمية ومكاتب عمل. ومن بينها مصنع “أكرون” للصابون” الذي بني عام 1893. بحسب موقع “سيجنال أكرون”.
فيما شهدت ولاية أيوا منذ عام 2018 التخطيط لبناء مقر لبنك. وكانت الخطة الأمثل استغلال مسرح “ستراند” التاريخي، الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1915. وتحويله إلى مبنى خدمي بالكامل، يتضمن مقر لبنك وصالة ألعاب رياضية. ووفقا لموقع “كيه آر سي جيه” فقد تم افتتاحه بالفعل ضمن مشروع لترميم المسرح التاريخي. بقيمة 31 مليون دولار لإحياء عدد من المباني التاريخية بالولاية.
صندوق الحفاظ على المباني التاريخية
بالانتقال إلى اسكتلندا، أولي اهتمام خاص بالمباني التاريخية من خلال إطلاق مؤسسة المباني التاريخية الاسكتلندية مشروعا تجريبيا لتعليم مهارات البناء التقليدية، مع توفير تدريبات على الحرف اليدوية للسكان المحليين.
ووفقا لموقع “بوردر تيليجراف”، حصلت المؤسسة على تمويل رسمي من صندوق مشترك تابع للحكومة البريطانية، وشجعت أصحاب العقارات التاريخية على المشاركة إما بتقديم مبانيهم أو التوصية بترميم مبانٍ أخرى.
حماية مبنى أول إذاعة في أذربيجان
أما في أذربيجان، فيحرص محبو التراث على الحفاظ على المباني التاريخية، ففي عام 2019، تجمّع أكثر من 200 شخص داخل مبنى قديم بحي في العاصمة “باكو” لمنع هدمه.
وطالبوا وزارة الثقافة بإدراجه ضمن قائمة المباني التاريخية المحمية. وبحسب موقع “oc media”، فإن المبنى الذي كان في الأصل كنيسة تابعة لطائفة المولوكان، استخدم لاحقا كدار للسينما، وكان تاريخيا مقر أول محطة إذاعية في البلاد.
قيود التراث في فرنسا
في فرنسا، تخضع نحو ثلث المنازل لقيود صارمة تهدف إلى الحفاظ على الطابع الجمالي والمعماري الفريد للمدن والقرى. هذه القواعد لا تستثني حتى أعمال التجديد الحديثة، بما فيها تحسين كفاءة الطاقة. والتي يتم تنفيذها بحسب توصيات مهندسي المباني الفرنسية (ABF)، الجهة المكلفة من وزارة الثقافة بحماية التراث.
القاعدة الأساسية التي تفرضها الهيئة هي الحفاظ على المظهر الخارجي للمباني. بحيث يظل مطابقا قدر الإمكان لما كان عليه في الماضي. ومن بين المشاريع التي حظيت بالاهتمام ترميم محل جزارة قديم يعود إلى عام 1945. بدعم مالي من البلدية لعزل الجدران والأرضيات والأسقف وتحديث نظام التهوية.

ضوابط فرنسية لحماية التراث
تخضع جميع الأعمال التي تتم بالقرب من المعالم التاريخية في فرنسا لإجراءات تنظيمية مشددة تهدف إلى حماية القيمة الثقافية والمعمارية لهذه المواقع.
وبحسب الموقع الرسمي لوزارة الثقافة الفرنسية، تشمل القوانين حماية المبنى المصنف معلما تاريخيا وكذلك المنطقة المحيطة به. وتعتبر هذه الحماية بمثابة “حق ارتفاق للمنفعة العامة”، أي أنها تفرض لصالح المجتمع للحفاظ على التراث الثقافي، بغض النظر عن رغبة المالك.
مصير قلعة فرنسية شهيرة
لكن التلاعب بالقوانين أزمة تواجه قلعة “فولو بينيل” الفرنسية الشهيرة المطلة على نهر السين، والتي تواجه الإهمال. وقد دفعت هذه الأزمة فرنسا لتوقيع اتفاقية مبدئية مع شركة التطوير العقاري “هيستوار آند باتريموان”.
ووفقا لموقع “أكتيو فرانس” جاءت الاتفاقية بهدف استغلال القصر التاريخي وتحويله إلى مجمع سكني يضم حوالي 50 منزلا، مع إعادة تأهيل الحديقة المهملة.
ورغم توقيع العقد، لا تزال المفاوضات جارية دون اتفاق نهائي. وتواجه الشركة عقبات أبرزها إيجاد حلول لمواقف السيارات. لكن محبي التراث أبدوا مخاوف من المشروع، مثل طمس الهوية التراثية أو قطع الأشجار وتقليل المساحات الخضراء المحيطة، وهو ما يتعارض مع بنود العقد.
أهمية الحفاظ على التراث التاريخي
المطالب المستمرة بالحفاظ على المباني التاريخية لا تقتصر على الجانب الجمالي فقط، بل تمتد إلى فوائد اقتصادية وثقافية وبيئية كبيرة. ووفق ما ذكره موقع “بيان كيني للإرشاد القانوني”:
- التراث الثقافي والأهمية المعمارية: يساعد حماية المباني التاريخية في الحفاظ على الطابع الفريد وقصة المجتمع.
- الفوائد الاقتصادية: تعمل المناطق التاريخية المحفوظة جيدًا على جذب السياحة، وزيادة قيمة الممتلكات، وغالبًا ما تستفيد من الحوافز الضريبية والمنح.
- الاستدامة: إعادة الاستخدام التكيفي – ممارسة إعادة استخدام المباني القديمة لاستخدامات جديدة – غالبًا ما تكون أكثر ملائمة للبيئة من الهدم والبناء الجديد، مما يقلل من النفايات ويحافظ على الطاقة المتجسدة.
اقرأ أيضا:
بعد تورط متاحف في بيع قطع مشبوهة.. قانون أوروبي جديد يُغير مشهد تجارة الآثار عالميا
امتلكها أمير عربي.. القصة الكاملة لبيع قطعة أثرية يُرجح سرقتها من مقبرة توت عنخ آمون
هروب تاجر آثار باع قطعا مصرية منهوبة بـ50 مليون يورو.. هل تُغلق القضية؟| مستندات