كلمات بماء الذهب.. طلاسم قبة الإمام الشافعي

الأهمية التاريخية والمعمارية لـ”قبة الإمام الشافعي” بالقاهرة جعلتها محط الاهتمام على مر العصور، حيث خضعت لعمليات ترميم وتجديد على مدار مئات الأعوام، كان آخرها التي افتتحت مؤخرا واستمرت خمس سنوات بإشراف وزارة السياحة والآثار المصرية، وتمويل صندوق السفراء الأمريكيين.. «باب مصر» يزور القبة مستكشفا ما تتضمنه من زخارف وكتابات.

قبة سياسية

مكانة مميزة اكتسبتها القبة الضريحية، التي يرجع تاريخ إنشائها إلى عام 608 هجريا فوق قبر الإمام الشافعي، وأمر ببنائها السلطان الكامل عم صلاح الدين الأيوبي واستكملها من بعده السلطان العادل، وبعد إنشاء الملك الكامل للقبة، حرص على أن تكون مزخرفة برسم الصوفية، وأنشأ حوض على الطريق دوّن عليه هذه الأبيات:

من الكوثر الأعين الجارية

لهــــا قبــــــة تحتهــــا سيد

وبحر لهــــــا فوقه جــارية

إليهــــا الذي يلتــجي بسعد

ويشرح لـ«باب مصر» الدكتور محمد حمدي، أستاذ الرسم والتصوير بجامعة حلوان، سبب إنشائها، قديما كان كل سلطان أو ملك يحرص على تجديد ضريح الإمام الشافعي، نظرا لأنه كان مدفون قبل ذلك لدى عائلة «ابن الحكم» التي ينتسب إليها المؤرخ المصري «ابن عبدالحكم» مؤلف كتاب «فتوح مصر»، وسددت العائلة ديون الإمام الشافعي وظل القبر بسيط وصغير الحجم، حتى عصر الدولة الفاطمية التي كانت تتبع المذهب الشيعي، ومن بعدهم صلاح الدين الذي حرص على إحلال المذهب السني بدل الشيعي.

ولتنفيذ هذه الخطة دشن مدارس «الصلاحية» نسبة إلى اسمه صلاح الدين الأيوبي بجانب ضريح الإمام الشافعي، وبدأ الاهتمام بالضريح ويقول أستاذ الرسم والتصوير: “بناء الضريح كانت في الأصل عملية سياسية مذهبية، وكل التجديدات أجريت في عهد شقيق صلاح الدين وابنه استكمالا لتطبيق هدفه”.

وحرصوا على الرمزية في بناء القبة التي تعد أكبر قبة ضريحية لضريح منفصل في مصر، أما قبة السلطان حسن فتعد أكبر قبة ضريحية متصلة بمسجد، وقبة محمد علي تعد أكبر قبة على جامع في مصر، ويوضح: “يوجد فوق القبة الضريحية للإمام الشافعي، مركب، ووجوده يرجع إلى سببين الأول أنه كان يُطلق عليه بحر العلم، والثاني أنه كان مخصص لوضع الحبوب للطيور وتسمى بالعشارى”، وتم تنفيذها فوق مسجد السلطان فرج بن برقوق وباب زويلة وجامع أحمد ابن طولون سابقا، ويُستدل على وجودها في جامع بن طولون سابقا من خلال رسومات الرحالة.

شفرة تاريخية

صُنعت القبة بمهارة عالية الدقة، فهي مصنوعة من الخشب المغطى بالرصاص نظرا لأنه لا يصدأ وأكثر تحملا لعوامل الزمن، كما أوضح حمدي، ومن ضمن الرمزية في القبة الضريحية، الباب الذي أمر بتنفيذه الأمير «عبدالرحمن كتخُدا» لقبة وضريح الإمام الشافعي، متبعا فيه طريقة تسمى «حساب الجُمّل» ويشرح الأستاذ الجامعي هذه الطريقة، بأنها تعتمد على أن كل حرف من حروف اللغة العربية يعبر عن رقم من الأرقام ، “وهذا يدحض النظرية الشائعة بأن رقم 1176 المدون على الباب تعني تاريخ تجديده فقط، بل لها ترجمة أخرى” كما قال.

والحروف العربية المقصود استخدامها في هذه الحالة بهذا الترتيب (أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ)، وتأخذ الحروف التسعة الأولى أرقام الآحاد من 1 حتى 9، والحروف التسعة الثانية أرقام العشرات بدءا من 10 حتى 90، أما الحروف التسعة الثالثة تأخذ أرقام المئات بدءا من 100 حتى 900، أما الحرف الأخير يحمل رقم 1000.

ويستكمل أستاذ الرسم والتصوير، أن من يقوم بكتابة اللوحة التأسيسية للجامع أو أي منشأة يكتب بيت شعر أو أكثر، يعدد فيه مزايا البناء ويمدح بانيه، ثم يذكر كلمة تاريخ، أو مؤرخ، أو أرخت، والكلمات التي تُكتب بعدها مباشرة حال حسابها بطريقة «حساب الجُمّل»، ينتج عنها سنة إنشاء الجامع بالتاريخ الهجري، دون وجود أية أرقام، وهو ما يعرف بـ«الشعر المؤرخ» أو «الشعر التأريخي».

أما بيت الشعر المكتوب على باب ضريح الإمام الشافعي، والذي جدد عمارته «عبدالرحمن كتخُذا» يقول: «الله نوَّر مسجداً تاريخه يزهو به إشراق مجد الشافعي، وتتم عملية الحساب بعد كلمة تاريخه، ومن خلال طريقة حساب الجُمّل: “يزهو = 28، به = 7، إشراق = 602، مجد = 47، الشافعي = 492، والمجموع هو 1176 وهو عام تجديد الضريح بالتاريخ الهجري”.

شاع استخدام هذه الطريقة في الكثير من العمارة الإسلامية، وهي دليل على براعة الشاعر الذي يستطيع صياغة أبيات شعرية يعبر فيها عن فكرته مع التعبير عن تاريخ إنشاء المبنى، وعن استخدامها حاليا يقول لـ«باب مصر»: “للأسف هذه الظاهرة كانت موجودة حتى وقت قريب على الجوامع والبيوت والمقابر، ولكنها اختفت ولم يعد يستخدم حساب الجُمّل إلا العرّافين والمشعوذين”.

كلمات من ذهب

شهدت قبة الإمام الشافعي العديد من عمليات الترميم والتجديد على مر العصور، وكان كل حاكم يولي اهتماما خاصا لتجديدها وتوثيق عملية التجديد التي تمت في عصره على جدرانها، مما جعل قبة الإمام الشافعي تشمل عدد من الكتابات المميزة التي دونت قديما بماء الذهب واللازورد، وشملت كتابات قرآنية، وكتابية، وتأسيسية.

وذكر هذه الكتابات بوصف دقيق لها، «علي باشا مبارك» في كتابه «الخطط التوفيقية»، ومنها ما يوثق عملية بناء القبة الأولى، هدم الأمير عبدالرحمن كتخذا مدارس الصلاحية بعد قلة الانتفاع بها، مع أماكن مجاورة قد اشتراها وبنى مسجدا سنة 1175 هجريا، وعلى واجهته هذه البيت:

مـسجد الشافعي بحر علوم

أشرقت شمسه بنور محمد

وبعد هذا الباب، باب كبير تجاه المشهد يًعد إليه بسلم من الرخام وأعلاه لوح مصبوغ باللون الأخضر مكتوب عليه:

الله نوَّر مسجــــــدا تـــــاريخه

يزهو به إشراق مجد الشافعي

وبحسب ما ذكره علي باشا مبارك: “يشمل الجامع باب من الرخام وباب خشب مصفح بالنحاس، من داخله رحبة من الرخام الترابيع بها بابان: باب للمسجد وباب للمشهد، وعن شمال الداخل سبيل من الرخام عليه شباك من النحاس له كيزان من نحاس أصفر مربوطة بالسلاسل مكتوب عليه: «أنشأ شباك هذا السبيل المبارك – من فضل الله تعالى -أمير اللواء علي بيك دفتر دار مصر حالا في شهر الحجة سنة إحدى ومائتين وألف”.

أما عن تجديد آخر للجامع والمدون أيضا على قطعة من الرخام مكتوب عليها: “جدد عمارة المدرسة الشريفة وتبيضها وتبليطها وعمارة الميضأة المباركة أمير اللواء الشريف السلطاني علي بيك دفتر دار مصر حالا تحريرا في ذي القعدة سنة أربع ومائتين وألف”.

وفي الجامع عن شمال الخارج من القبة، مقصورة من الخشب بها أضرحة لعش الشيوخ الشافعية، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والشيخ أبوالحسن المفسر، والشيخ شيبان الراعي، وعلى الحائط الغربي زاوية بالحجر عليه رخامة مكتوب فيها:

أكرم به مــــــــن مسجد مصباحه

كنز الهدى المولى الإمام الشافعي

وكان قد جدد علي بك الكبير هذه القبة، كشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل، وجدد نقوش القبة من الداخل بالذهب واللازورد والأصباغ وقبل الدخول من بابها مكتوب بجوار باب السبيل على قطعة من الرخام هذا البيت:

هذه جنـــــــات عــــدن

فادخـــــلوها خـــالدين

وباب القبة من الرخام عليه باب عبارة عن ضفتان من الخشب المطلي بالفضة، وأعلاه لوح من الرخام مدون عليه هذه الأبيات:

إن رمت فضـــــــل الشافعــي

في مسند قد صــــح قــــــدما

هــــــو من قــــــــــريش عالم

يملا طبـــــــاق الأرض علما

ومن داخل الباب باب آخر وعلى البرزخ مقصرة مربعة من الخشب المرصع بالصدف والعاج، وفي كل زاوية من زواياها 3 صفائح من الفضة، وأعلى الباب أبيات مكتوبة بالصدف:

إن الإمـام الشــــافعي محمــدا

سلطــان مصر له أجــل علوم

ناهيك في ورد الحديث بفضله

العــــــــــالم القرشي في الإسلام

بالعلم قد ملأ الطباق فــــــأرخت

لمحمـــــد للناس خـــــــير إمــام

اقرأ أيضا

مستجدات«مشهد آل طباطبا»: الصور الأولى للفك والنقل

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر