دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

كتاب عن «الروائح» يتسع به الفضاء

أتابع ما يكتبه ويبدعه أحمد فضل شبلول. جمعتنا الإسكندرية طبعا ولقاءات كثيرة بها وغيرها. أعتبره واحدا ممن تتجلى مواهبهم العظيمة في وسائل مختلفة للفن والفكر، ما بين الشعر والرواية والكتابة للفتيان، والدراسات والمتابعات النقدية لأعمال غيره. من أعماله الشعرية: “تغريد الطائر الآلي” و”شمس أخرى وبحر آخر”، ومن رواياته: “اللون العاشق” و”الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد”. وأخيرا، منذ أيام صدر الجزء الثالث من هذه الثلاثية الرائعة عن فنان الإسكندرية العظيم محمود سعيد بعنوان “الكتالوج”. ومن رواياته أيضا “الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ”. وهو من أجمل من خصني بمقالات رائعة عن بعض رواياتي.

جمعتنا ندوة عني في أتيليه القاهرة في يوم الخميس، الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي. كتبت عن حديثه الرائع عني ولن أعيده، لكنه أهداني كتابا صغيرا له عنوانه” كتاب الروائح”، صدر منذ عامين عن دار “الآن ناشرون وموزعون” الأردنية.

***

شجعتني معرفتي بجهود شبلول وحجم الكتاب الصغير، الذي لن يتيح الفرصة لشرودي عنه، وهو ما يحدث لي أحيانا بحكم العمر حين أقرأ في كتاب ضخم. وهو كتاب من كاتب سحرته الألوان في كتابته الروائية، فلماذا لا اقرأه؟ فقد يحملني إلى أبعاد أكبر في الفضاء، خاصة وأن الروائح التي تهل علينا قليل منها مبهج، وكثير – للأسف – عطن، فالقضايا الحقيقية للثقافة أو الوطن كثيرا ما تضيع رغم وجود العشرات ممن يبدعون فيها، أمام التريندات التافهة التي تشغل المساحة الأكبر من السوشيال ميديا، ملاذنا الأكبر الآن بعد انحسار الصحافة الورقية.

يبدأ الكتاب بجملتين:

الأولى: “من ريح ارتد يعقوب بصيرا”.

والثانية: “الرائحة النتنة تجعل العين مظلمة”.

والجملتان من كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي. ستعرف من أين جاءت الجملة الأولى فيما بعد، من قصة النبي يوسف وأبيه يعقوب. أما الثانية فلا تحتاج لشرح، فخبرتك بالحياة دليلك عليها.

***
غلاف كتاب الروائح
غلاف كتاب الروائح

الكتاب يشمل تسعة فصول، وفي كل فصل عناوين داخلية مكونة له. بدءا من سؤال ما الرائحة؟، حتى معالجة الروائح، وبينهما فصول تحمل عناوين مثل: تجارب ودراسات، الروائح عند العرب، الإنسان والروائح، روائح الأطعمة والأشربة، رائحة البيوت والأماكن، الروائح في الأمثال والأقوال، الرائحة في الشعر والرواية، ثم أخيرا معالجة الروائح.

الفصول قصيرة، فالكتاب يقع في ثمانٍ وتسعين صفحة من القطع الصغير، ومن ثم قد تسأل: كيف يتسع كتاب بهذا الحجم الصغير إلى هذه الموضوعات؟ تكتشف أن الأمر له جانب بحثي عميق قام به الكاتب، وله جانب إبداعي وفكري أيضا، ظهر في إيجازه في الحديث.

نعود إلى الفصل الأول “ما الرائحة؟”، يقدم ما توصل إليه العلم فيما يحدث للإنسان أو الحيوان عندما يشم رائحة ما، وما الذي يحدث في المخ من عمليات معينة عندما تصل إلى مراكزه أو خلاياه العصبية هذه الرائحة أو تلك، وكيف يستطيع المخ التمييز بين الطيب والخبيث منها. إن حاسة الشم من أبسط وسائل التمييز بين الأشياء دون رؤيتها، لكن الفقاريات ذات حاسة شم أقوى من الإنسان ومنها الكلاب مثلا.

***

يعتقد العلماء أن هناك سبع روائح أساسية فقط تتركب منها كل الروائح الأخرى، لكنهم لم ينجحوا في تحديدها. لكن تتوالى التجارب العلمية للوصول إلى ما يعرف بـ”الشم المرئي”، ويذكر أسماء العلماء وزمن التجارب. لكن كيف تختلف رائحة الشيء الواحد من إنسان إلى آخر. فقد يشم شخص رائحة الخل، بينما يشمها شخص آخر فيراها نعناعا. والسبب هو الخلايا العصبية كما رأى أستاذ العلوم البيولوجية في كولومبيا ستيوارت فيريستين. يتابع شبلول غيرها من الدراسات العلمية التي ترى الأعضاء الحسية بالأنف – لا الدماغ- هي التي تميز رائحة بين خليط من الروائح. يتابع ذلك في موسوعات مختلفة.

بقية الفصل عن أنواع الروائح. منها العطرة كالمسك والعنبر، والمنعشة كالأوكسجين والكحول والبصل، والمخدرة المشتقة من النفط كالغاز والبنزين، والروائح الواخزة التي تحركك كالخردل والفلفل، والروائح الكريهة كالمواد المتعفنة، والروائح السامة.

***

أما استخدام الروائح فيكون في الحياة العامة كالعطور والصابون، أو في الزراعة فتستخدم النباتات التي تطلق روائح لجذب الحشرات مثل النحل لإنتاج العسل، أو في المجالات الصناعية والطبية في غرف العمليات، أو العسكرية مثل القنابل السامة أو المسيلة للدموع.

يستمر في الحديث عن التجارب والدراسات، ومنها ما جرى عام 2003 من تجارب لمعرفة تأثير الروائح على مخ الفئران، لنعرف آلية اتخاذ القرار فيما يتعلق باختيار الشريك في التكاثر اعتمادا على الرائحة. تجارب قام بها أستاذ العلوم العصبية لورنس كاتس في جامعة ديوك الأمريكية على الفئران، ونجح في جمع ما يشبه “البصمة” للأصابع تتركها الرائحة على المخ في الفئران، ومن ثم الإنسان.

كما يشير إلى تجارب أجريت على النساء لمعرفة تأثير الرائحة على المشاعر. وصلت بعض التجارب الخاصة بالشم إلى أنها قد تساعد الأطباء في التعرف على الشخص المحتمل أصابته بالشيزوفرينيا. المهم مسألة بصمة الرائحة. فلكل إنسان بصمة لرائحته المميزة، ومن دلائل ذلك ما جاء في سورة يوسف في الآية 94 في قول الله تعالى: “ولما فَصَلَتِ العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تُفَنِّدونِ”. ففي الآية بصمة لرائحة يوسف تميزه عن البشر، شمها أبوه يعقوب وهو على مسيرة ثمانية أيام.

***

وتم استغلال هذه البصمة فيما بعد مع الكلاب، فكلاب الوولف مثلا تستطيع بعد شم ملابس إنسان معين، أن تخرجه من بين آلاف البشر. يأتي الشم والذاكرة. التذكر بالشم أكثر من الأحداث المرئية ومن ثم جاء الطب بالروائح، فهي تؤثر على المشاعر والتزاوج والجهاز الهرموني، فضلا عن الذاكرة. التجارب أثبتت أن من يشمون روائح كريهة يكونون أكثر ميلا للعنف، ورائحة عرق الإبط مثلا تتحكم في مزاج الآخرين.

وذهب العرب إلى أن إدامة شم البنفسج ينوم النوم الصالح. الشم والتذوق حاستان من الحواس الكيميائية، إلا أن الشم أكثر حساسية من التذوق بما يعادل عشرة آلاف مرة. حاسة الشم تتطور بعد خمسين ساعة من الولادة، لكن الطفل لا يستطيع التفرقة بين الرائحة الجيدة والرديئة إلا بالتعلم والتجربة، كما أنه يستطيع تمييز رائحة أمه بدقة كبيرة وتجارب لتأكيد ذلك.

***

نأتي إلى الروائح عند العرب: كيف عرفوها وميزوا بينها دون تجارب علمية، وعرفوا الفوارق الدقيقة بينها؟ وكيف تطورت صناعة العطور في عصور الحضارة الإسلامية، وظلت لمئات السنين فنا شرقيا خالصا؟

يُعَد ابن سيناء من أفضل العلماء المسلمين في صناعة العطور. لقد اكتشف مثلا طريقة لاستخراج العطر من الورود بالتقطير، كذلك يعد الكندي مثله وله كتاب بعنوان” كيمياء العطور”. العطور العربية جزء من الثقافة العربية، ومن أشهر منتجاتها العنبر والمسك والياسمين والريحان. وقد قرأتْ كليوباترا عن العطور العربية، فقررت القيام برحلة إلى شبه الجزيرة العربية عام 40 قبل الميلاد علها تكتشف أنواعا جديدة منها. وأثناء الحروب الصليبية حمل الصليبيون صناعة العطور معهم من بلاد الشام إلى أوروبا، التي صارت رائدة فيما بعد في هذا المجال.

يأخذه الحديث إلى الاستنشاق وارتباط الرائحة به، وإلى الأنف كجهاز هو دليلنا الشمي لأنواع الروائح. فالأنف البسيط الشكل من الخارج، معقد في التركيب في داخله، بما فيه من مستقبلات هي عصب الشم. ورحلة مع مسميات الأنف في اللغة منها: النخوة وموضع التجبر، فجمع أنف أنوف، والأَنوف من النساء طيبة رائحة الفم. ويسمى الخشم في حالة فقدان حاسة الشم.

***

يتنقل بعد اللغة ومشتقاتها إلى أنوف الثعابين الحساسة جدا، لأنها تتنفس ببطء، لذلك خلق لها الله عضوا إضافيا تكشف به الروائح، يسمى بعضو جاكبسون، وهو نسبة إلى العالم الدنماركي الذي اكتشف هذا العضو في القرن التاسع عشر، في مؤخرة فم الثعبان من الداخل، يمده إلى الخارج ليلتقط الروائح التي تتركها فريسته في الهواء وعلى الأرض فيتتبعها.

ويتناول الكتاب حديثا لغويا عن الفم وأطيبه مثل “أفواه الظباء”، والرائحة في اللغة وكيف هي النسيم الطيب أو النتن، وأشهر التعبيرات اللغوية في ذلك. فتفَاوحَ الزهر يعني فاحت رائحته، والنفحة طيبة أو خبيثة، وسطعت الرائحة أيْ ارتفعت وانتشرت، وعشرات من الجمل في ذلك.

ننتقل إلى الإنسان والروائح: فالمرأة طيبة الرائحة للفم هي رشوف، وطيبة رائحة اليد هي أنوف، أما الوذرَة فهي كريهة الرائحة.غيرها كثير من الصفات ليأتي الرجل. فالرجل العبق هو من تطيب بأدنى طيب لم يذهب عنه لأيام، وكذلك المرأة العبقة. وأسِن الرجل أي أصابته ريح نتنة.

***

ويستمر في التعريفات اللغوية لرائحة الجسد ورائحة الماء ورائحة الطيب، فالعنبري نسبة إلى العنبر، مثلا. يأخذ المسك مساحة فيأتي بقول لكليوباترا: ” لم يكن أنطونيو معي، صليت للربة إيزيس أن تمنحني عطرا لا يفنى، ذا رائحة نفاذة لا تبلى من أخلاط المسك والعنبر والزعفران والأعشاب النامية على سفح قبرص. كانت ممالكي تتسع مع كل رشة عطر. كنت أكتب بالمسك علي صدر أنطونيو، ويكتب هو بالعنبر والقبلات على خديْ وشفتيْ”.

ثم تأتي تعريفات للمسك في اللغة، لينتقل إلى الزعفران والبخور والدهن وروائح الطين. رائحة الحيوان وما يطلق عليها، والنباتات ذات الرائحة مثل الأكاسيا والبان والبيلسان والرِّند والكافور والنسرين والياسمين. عشرات النباتات ذات الرائحة الذكية، والقليل ذا الرائحة السيئة مثل الفَسفَس.

***

وتأتي الأطعمة والأشربة باعتبارها أكثر الأشياء تغيرا في روائحها وطعمها، ورائحة الميت أو الجيفة، ورائحة الأخشاب. تعبيرات مختلفة للرائحة النتنة أو الخبيثة في اللغة مثل أَسِن ولَخِن يعني أنتن. لتأتي رائحة البيوت والأماكن والدخان والحشرات التي تظهر في حالة خُبث الرائحة مثل الخنافس. أمثلة شعبية على الروائح مثل” لا عطر بعد العرس” و”أبخر من صقر” و”أبخر من فهد” و”أطيب من نفس الربيع”. وغير ذلك ليأتي الشعر والرواية. أمثلة مختلفة من الشعراء مثل قول المتنبي: “يضمها المسك ضم المستهان بها.. حتى يصير على الأعكان أعكانا” (والأعكان جمع عكنة وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن). كذلك أشعار في الهجاء مثل قول حماد عجرد في بشار بن برد: “لو طلبت جِلدته عنبرا.. لنتَّنت جلدته العنبرا” وغير ذلك.

أما في الفن الروائي فينتقل إلى أكثر من رواية، لكنه يقف عند رواية “العطر- قصة قاتل” للروائي الألماني باتريك زوسكيند، وكيف تعد حاسة الشم التي تمتع بها جان باتيست غرنوي، المولود في الرواية في السابع عشر من يوليو 1738 في أكثر أماكن المملكة الفرنسية زخما بالروائح، هي البطل الرئيسي. وكيف كانت الحواس أبطالا جددا في فن الرواية، وكيف جعلت منه قاتلا متسلسلا.

في الكتاب فقرات دالة من رواية شبلول نفسه “الماء العاشق” تهوِن الحديث اللغوي وتزيده متعة، وطبعا مراجع كثيرة للعمل. انتهيت من الكتاب فاتسع الفضاء حولي بالمسك والعنبر في اللغة والبحث.

اقرأ أيضا:

كيف أصبحت الإسكندرية حلما؟ الروائي «إبراهيم عبدالمجيد» يُفسر

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.