قاهرة يوليو (13): إعلان وفاة جروبي

كنا قد تناولنا في الحلقة (12) انفعالات الأدب المصري بالتجربة الناصرية، لا سيما خروج النخب والأجانب من مصر، واتصال ذلك بقاهرة يوليو. تناولنا بالتحليل رواية لا تطفئ الشمس لإحسان عبد القدوس، وفيها انتبهنا إلى أن الراوي ينقل للقارئ حالة احتضار لأشهر الأماكن التي ارتبطت بالنخب والأجانب: جروبي، المقهى والمطعم النخبوي العريق.
والواقع أن راوي لا تطفئ الشمس لم يكتف بتصوير حالة احتضار جروبي فحسب، بل أعلن وفاته فعليا حين ذكر المقهى للمرة الثانية في الرواية، عندما بدأت دائرة الأحداث في الرواية تتقاطع مع دائرة السياسة، تحديدًا في صبيحة اليوم التالي لتأميم قناة السويس. عن ذلك يستحضر الراوي مشاعر أحمد زهدي المترددة بين الفرح والحماس:
“وصحا في اليوم التالي متلهفا على الصحف.. وقرأ خطاب جمال عبد الناصر مرة ثانية.. وقرأ التعليقات. واستغرق في محاولة تحليل الموقف السياسي.. ثم نزل من بيته.. وخيل إليه أن القاهرة قد ارتفع ضجيجها عما تعوده.. وقرأ الخبر المثير في عيون الناس، وفي دقات أقدامهم فوق الأرض.. ودخل جروبي. وجلس يتلفت حوله باحثا عن صديق. ولكن لم يكن حوله إلا فريق من العجائز وسمع الرجل الذي يجلس على المائدة المجاورة يقول لزميله:
- والله البلد حاتروح في داهية..
وقلب أحمد شفتيه.. وأحس أنه هنا – في جروبي- كأنه بلد آخر.. بلد لا ينتمي إليه.. وكان كل من يجلسون حوله يكونون شعبًا آخر.. ليس شعبه.. ويتحدثون لغة أخرى ليست لغته.. وخرج من جروبي سريعا كأنه يهرب. إنه يريد أن يلتقي بالشعب.. يريد أن يضم حماسه إلى حماس الآخرين.. يريد أن يضع خواطره بجانب خواطر الآخرين”.
***
في سياق دراستنا لموضوعي التمصير وخروج النخب والأجانب (عملية الصفحة البيضاء) – وهما محوران أساسيان في فهم قاهرة يوليو- تبرز لنا من خلال قراءة رواية لا تطفئ الشمس عدة عناصر دالة تستحق التأمل والتحليل.
نجد أولًا أن الراوي يعمد إلى ذكر الاسم الكامل لرئيس الجمهورية “جمال عبد الناصر” مجردًا من أي صفات أو ألقاب رسمية، وكأنما يريد بهذا التجريد أن يؤكد على أمرين: الأول أن هذا الشخص وإن كان رأس الدولة، ليس إلا مواطن من عامة الشعب- ولم تكن تلك هي الحال أيام الملكية. والثاني أن هذه الطريقة في التسمية تضفي على العلاقة بين أحمد (بطل الرواية) وناصر طابعًا من الألفة والقرب، فيصبح جمال عبد الناصر بطلًا للرواية هو الآخر، رغم ما يفترض أن يكون عليه من مهابة المنصب و المقام.
ثانيًا، يبدو أن تبعات قرار التأميم المصيري لم تكن واضحة المعالم صبيحة27 يوليو 1956، فلم يسترسل الراوي لماذا استغرق أحمد وقتًا لتحليل الموقف سياسيًا؟ ولماذا تحمس المارة وفيم؟ وماذا يجول في خواطر الناس؟ كما لم يخبرنا الراوي عن ماهية “الداهية” التي يجلبها عبد الناصر للبلد بحسب “عجوز جروبي”.
***
هذه الأحاسيس المتضاربة تكشف، بشكل غير مباشر، في رأينا عن طبيعة المناخ السياسي آنذاك: مناخ يلفه الغموض وعدم اليقين، إذ يصعب خلاله تحليل القرارات السياسية وفهم أبعادها الحقيقية.
لكن – رغم كل شيء – فإن قرار تأميم قناة السويس لا شك ترك أثرًا بالغًا في المجتمع القاهري، أثرًا واضحًا يمكن لقارئ لا تطفئ الشمس تلمسه في ضجيج الشوارع ووقع أقدام المارة. وللمرة الثانية في الرواية، يقدم لنا الراوي زاويتين متوازيتين لعالمين متناقضين صبيحة يوم التأميم: عالم جروبي المعتم، المنغلق، وعالم الشارع المنير، المنفتح.
حيث يجسد مقهى جروبي – بروّاده القدامى وزبائنه المعتادين – رؤية متشائمة تجاه مستقبل البلاد، لدرجة أنه يبدو بمثابة “دولة داخل الدولة”، شأنه في ذلك شأن شركة قناة السويس قبل تأميمها. فهو مكان معزول عن محيطه، منطوٍ على نفسه، يصل بأفكار مرتاديه إلى حد الرجعية، كأنه جزيرة غريبة في قلب العاصمة النابض بالحياة والناس.
وبحسب ما نفهم من الراوي، فإن روّاد جروبي ينتمون، بحكم أعمارهم ولغاتهم، إلى زمن مضى، زمن لا يمت بصلة إلى لغة الشعب الذي استولت عليه المشاعر الوطنية وأسرته روح العزة القومية التي زرعتها فيهم جمهورية يوليه.
***
من هذا الوصف الدقيق، يمكننا أن نستشف من أحداث الرواية ضرورة حدوث تغيير جذري حتى يعود هذا المكان إلى أيدي المصريين. هذا التغيير المنشود سيتحقق بالفعل في عالم الواقع بعد سنوات قلائل من زمن الرواية، حيث تم تأميم جروبي عام 1960، يعني في نفس العام الذي شهد نشر الرواية!
ومن الرجعية واللامبالاة اللذين يسودان أجواء جروبي، يخرج أحمد إلى ميدان سليمان باشا وكله حماس في أن ينضم إلى الحشود في الخارج. وهنا ومن خلال عملية الانتقال بين الداخل والخارج، يبرز التباين الصارخ بين ديناميكية الجماهير – المفعمة بالفخر والبهجة – وبين جمود جروبي، وتشاؤمه، وانعزاله عن السياق العام.
وبينما يعجز أحمد عن العثور على أصدقاء داخل جروبي، سرعان ما ينتقل إلى حال أخرى: “ما حاجته إلى صديق؟ إن كل هؤلاء الناس أصدقاؤه.. كل الذين يسيرون في الشارع.. إنه يكاد يسمع حماسهم يتجاوب في صدورهم.. ويكاد يرى أفكاره تنطلق مع نظراتهم”. يعني حتى لو كان جروبي يرتاده أصدقاء لأحمد، فهو ليس بحاجة إليهم، لأن رابطة الفخر والحماس بينه وبين الناس قد تغلبت على صلة الصداقة وعشرة السنين مع أي إنسان كان.
***
لكننا نجد أن الكلمات الحادة التي حملت هجومًا قاسيًا على جروبي في الرواية قد تحمل جانبًا من المبالغة أو المغالاة، خاصة عند مقارنتها بموقف الراوي من المؤسسات الأجنبية الأخرى في وسط المدينة. فثمة مقاهٍ أخرى مذكورة في الرواية –كمقهى البن البرازيلي، ومقهى إكسلسيور، ومقهى لاباس في شارع سليمان باشا –قد نجت من النقد اللاذع ومن التقريع.
فعلى سبيل المثال، ذكر الراوي مقهى لاباس في سياق لقاءات أحمد بـ”جرمين” التي ارتأى الراوي وصفها وصديقاتها بـ”أنصاف أجانب”، مما يعني أن وجود هؤلاء مقبول، أو على الأقل غير مستهجن. وربما لاختلاف الشريحة العمرية، فهم شباب يعبرون عن المستقبل أيا كانت انتماءاتهم. وربما لرغبة الراوي تأكيد استمرارية الطابع الكوزموبوليتاني للمدينة رغم التهجير والطرد.
ولعل هذا التسامح مع “لاباس” مرده إلى أن مرتاديه لا يقفون في موقف عداء واضح من سياسات العهد الجديد، كما يراها الراوي في مرتادي جروبي.
انفتاح وسط المدينة: الطبقات المتوسطة والدنيا تسود
من خلال أحداث ومشاهد الرواية، يمكننا ملاحظة انفتاح وسط المدينة أمام الطبقات الوسطى والشعبية، وهو الأمر الذي تناولته السلسلة في الحلقات (5 و6 و7).
يتجلى ذلك بوضوح عندما يقرر أحمد زهدي التوجه إلى سينما مترو في شارع سليمان باشا: “ووقف في الطابور الطويل أمام شباك تذاكر سينما مترو، دون أن يرفع رأسه ليقرأ اسم الفيلم الذي يُعرض. وظل ينظر في قفا الرجل الذي يقف أمامه، إنه قفا عجيب، رفيع، معروق، لا بد أن صاحبه موظف، ولا بد أن له زوجة سمينة مترهلة تسومه العذاب، ولا بد أن له ستة أولاد، ولا بد أنه يضرب أولاده ليفرّج عن كربه فيهم..”.
في هذا المشهد القصير جدًا، ولكن شديد الدلالة، نستنتج كثافة الحشود التي تزدحم أمام دور السينما في وسط المدينة. هؤلاء المتفرجون هم الوافدون الجدد من أبناء البلد، الفاتحين لوسط المدينة، والتي بدورها استقبلتهم في إطار ما يمكن أن نطلق عليه: “عملية التمصير الناصرية”.
إن “القفا العجيب المعروق” للشخص الواقف أمام أحمد زهدي يرمز إلى طبقة الموظفين – أصحاب الياقات البيضاء، بحسب التعبير الفرنسي- الذين غالبا لا يقطنون وسط المدينة، وإنما هو بالنسبة إليهم مقرًا للعمل أو للتنزه. وبحسب تخيلات أحمد، فإن هذا الموظف يقطن على الأرجح في أحد الأحياء الشعبية، حيث تكثر في الأغلب الأسر كبيرة العدد كثيرة العيال وينتشر فيها “النكد” والعنف الأسريين. وهكذا يصبح وسط المدينة بالنسبة لهذه الطبقة مكانًا متعدد الوظائف: مكان للعمل، ومكان للتسوق، ومكان للترفيه في آن واحد.
سينما مترو: رمز الطبقة الوسطى
عن اختيار الراوي لسينما مترو، فهي تُعد من أعرق دور السينما في وسط المدينة. شُيدت عام 1938 وافتُتحت عام 1940 على يد شركة “مترو-غولدوين-ماير” الأمريكية الأشهر في مجال إنتاج وتوزيع الأفلام ـ ومنها جاءت التسمية.
وبفضل تصميمهما على طراز الأرت ديكو المتأثر بالمدرسة التعبيرية، ونظام التكييف المركزي- الأول من نوعه في مصر- احتلت سينما مترو مكانة بارزة بين دور السينما في مصر.
لكنها، كغيرها من المؤسسات الأجنبية، لم تسلم من الأحداث الجسام التي مرت بها البلاد، فقد تعرضت لمحاولة نسف عام 1947، وتضررت من نيران حريق القاهرة الكبير عام 1952، وأخيرًا طالتها حركة التأميمات في الستينيات.
قاهرة يوليو وموجة الحساسية الجديدة في الأدب
إن التحولات التي شهدتها القاهرة الناصرية لم تقتصرعلى حالة الحماس الثوري التي ظهرت جلية في لا تطفئ الشمس، ولكن امتدت أصداؤها إلى أجيال لاحقة من الروائيين فرصدوا حالات جديدة.
فقد تناول كتّاب جدد من جيل الستينيات – عُرفوا بـ”جيل موجة الحساسية الجديدة” –التحولات السياسية وأثرها على القاهرة ومجتمعها برؤية أكثر نضجًا وعمقًا. رصد هؤلاء الكتّاب مسيرة المشروع الناصري، بما حققه من انتصارات، وما مُني به من إخفاقات، وتأثير ذلك كله على المجتمع المصري. فعكست رواياتهم واقعًا مجتمعيًا وحضريًا يتأرجح بين الحماسة والإحباط. كان من بين هؤلاء: رضوى عاشور، وصنع الله إبراهيم، وبهاء طاهر، ولطيفة الزيات، ويحيى الطاهر عبدالله، وإبراهيم أصلان، وخيري شلبي، وجمال الغيطاني.
وقد تجاوز هؤلاء في كتاباتهم مرحلة انتقاد الهيمنة الأجنبية في العهود السابقة إلى مرحلة نقد الواقع المعاصر لهم. وكما تذهب مارا نامان، فإن روايات هؤلاء الكتّاب تحولت إلى أداة لطرح تساؤلات جوهرية حول التجربة القومية الشمولية، والممارسات القمعية التي جرت في عهد ناصر.
وقد استطاع هؤلاء الروائيون – بما يتمتعون به من وعي اجتماعي رفيع وثقافة متنوعة – أن يرسموا صورة دقيقة لتطور المشهد الحضري، وأن يصوروا كيف أثرت الاضطرابات السياسية والاجتماعية على الحياة اليومية لسكان قاهرة يوليو، وهو موضوع الحلقات القادمة.