قاهرة يوليو (12): لا تطفئ الشمس واحتضار جروبي

كان للوجود الأجنبي والنخبوي في وسط قاهرة يوليو ونهايته الدرامية تأثيرًا مهمًا على الأدب المصري، لاسيما فيما أنتجه جيل روائيي خمسينيات القرن الماضي. استهدف بعض أدباء هذا الجيل، الذي لم يكن لينفصل عن الاتجاه العام وقتئذ، الأجانب والنخب، ربما مساهمة صادقة من بعضهم في الحملة التي شنها النظام الناصري ضدهم، وربما لارتباط بعضهم بهذا الأخير، كونهم جزءًا من آلة الدعاية الخاصة به. تؤكد ناقدة الأدب مارلين بوث في مقدمة ترجمتها الإنجليزية لرواية “لصوص متقاعدون” لحمدي أبو جليل أن المشروع القومي للحقبة الناصرية كان يسيطر على الأدب المصري لدرجة أنه مازال يلقي بظلاله على المشهد الخيالي (الروائي والقصصي) حتى الوقت الحاضر.

على الرغم من أن حدث ثورة الضباط الأحرار 1952 في حد ذاته لم يتم التطرق إليه في كثير من روايات الأدب المصري كأنه “حدث سلبي”، بحسب تعبير الناقدة الأدبية إيف دامبيير نويري، إلا أن تأثير هذه الثورة على تحول المشهد الحضري للعاصمة تناوله بعض الروائيين بشيء من الابتهاج أو على الأقل الارتياح. لعل من هؤلاء الروائي الكبير إحسان عبد القدوس (1919-1990) في روايته الشهيرة «لا تطفئ الشمس»، التي نشرت عام 1960 في مجلدين.

***

تتناول الرواية حياة عائلة الزهدي، وهي عائلة أرستقراطية مصرية، بعد وفاة عائلها. تتألف الأسرة من الأم وولدين وثلاث بنات. تدور الأحداث خلال فترة محورية في تاريخ البلاد من 1952 إلى 1956، حيث ومن خلال الرواية، تُطرح أسئلة مجتمعية مهمة مثل استقلال وحرية الشباب والرقابة الاجتماعية التي تفرضها التقاليد القديمة.

توضح الرواية الصراع العميق بين العقلية المحافظة للمجتمع المصري، التي يمثلها أحمد، الموظف الذي يتحمل مسؤولية الأسرة بعد والده كونه الابن الأكبر. على عكس أخيه وأخته، ممدوح وليلى، اللذان يمثلان العقلية المتحررة، وتمرد الشباب على القيود. تتسبب هاتان الرؤيتان المتعارضتان للحياة صراعات داخل البيت الواحد.

ترتبط ليلى ضمن أحداث الرواية بعلاقة برجل متزوج يكبرها سنًا هو معلم البيانو. تتصاعد الخلافات بين الأخوة أحمد وممدوح وليلى حتى تصل لمرحلة الذروة بوفاة ممدوح عرضيًا في حادث سير. وهنا تأخذ الأحداث منعطفًا خطيرا: يتمرد أحمد على نمط حياة الموظف التقليدية المحافظة، ويقرر مواصلة السير على طريق شقيقه المتوفى. يتزامن التحول العقلي والنفسي الذي يعتري أحمد زهدي مع أحداث مصيرية في البلاد: تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956، متأثرا بالروح القومية العامة، ينضم أحمد لكتائب المتطوعين في الجيش ويغادر القاهرة إلى منطقة القناة للذود عنها.

***

أما ليلى، فقد وقعت في غرام جندي من الجيش بعد أن أعطت ظهرها لمعلم البيانو. تنتهي الرواية بوصف شروق الشمس الذي يمثل الأمل والانتصار، توائما مع الحالة العامة للمصريين. وبالتالي تمثل الشمس في عنوان الرواية المستقبل المشرق والمجيد للبلاد، تحققه الرغبة الأكيدة في التغيير نحو الأفضل، وذلك كله بفضل إرادة وحماس الشباب.

القراءة السريعة للرواية توحي بأن حبكتها مبنية على فكرة التحول. كما أن النهاية السعيدة للرواية المتمثلة في شروق الشمس أخيرًا على الأسرة الأرستقراطية لم تكن لتحدث بدون أحداث جسام اختلطت فيها الدموع بالدم. لا نعتقد أننا نبالغ لو قلنا إنه – قياسًا على الوضع في مصر بعد عام 1952- فإننا نبصر من خلال أحداث الرواية توجهًا ضمنيًا نحو فكرة أن الطريق إلى التغيير هو الثورة و المسار الذي اتخذه النظام الناصري.

وبالرغم من أن هذا المسار محفوف بالمخاطر، إلا أنه ضروري في سبيل المجد المنشود للبلاد! من خلال ذلك نستنتج أن عائلة زهدي، بعد رحيل والدهم، تمثل المجتمع المصري بعد سقوط النظام الملكي في مواجهة زمن جديد متغير. يُستنتج أيضًا أنه من غير المجدي مقاومة تطور الزمن وما يصاحبه من رياح التغيير التي هبت على عائلة زهدي، تمامًا كالتي تهب على مصر عبد الناصر.

***

ظهرت منطقة وسط مدينة القاهرة في رواية “لا تطفئ الشمس” على أنها بقعة لطبقة الأرستقراط لكنها تعج بالمارة والزائرين بفضل الرواج التجاري وأنشطة التسوق. في الفقرة التالية، يصف الراوي حركة ليلى بين شارعي سليمان باشا وقصر النيل:

“ونزلت من الأتوبيس.. وسارت في شارع سليمان باشا ووقفت تتفرج على معرض موبليات.. ثم وقفت مرة ثانية أمام معرض آخر،  ووصلت إلى ميدان سليمان باشا. ثم سارت في شارع قصر النيل، ثم دخلت أحد المحال الأنيقة وأخذت تنتقي منفضة السجائر. ضيعت وقتا طويلا في اختيارها.. كأنها تختار قطعة من الماس. ثم حسبت النقود التي معها واشترتها”.

على الرغم من تغيير أسماء الشوارع منذ عام 1954 (راجع الحلقة الثامنة)، يحتفظ الراوي بالأسماء القديمة لشوارع وسط المدينة مثل ميدان وشارع سليمان باشا. نعتقد أنه نظرًا لأن الأسماء الجديدة للشوارع حديثة جدًا مقارنة بزمن الرواية الذي تتم فيه الأحداث، فقد ارتأى الكاتب عدم استخدامها لئلا تُحدث ارتباكًا للقارئ. يُفهم من الفقرة السابقة ومن غيرها أن ميدان وشارعي سليمان باشا وقصر النيل، بسبب تنوع بضائعها ومحلاتهما العصرية، هما محط نظر الزائرين ولاسيما المتسوقين منهم، وهو ما يضيف طابعًا تجاريًا خاصًا لوسط المدينة يختلف عن أي منطقة أخرى في المدينة.

***

في نفس الفقرة السابقة، يمكننا أن نلاحظ التأثيرات الأجنبية على الواقع الحضري وقتئذ، والتي تتمثل في استخدام مصطلحات أجنبية معينة مثل mobilia، وهو مصطلح إيطالي يعني الأثاث. وعلى الرغم من أن لكلمة “موبيليا” نظيرًا في اللغة العربية، إلا أن الراوي ارتأى استخدام مصطلحات تشكل جزءًا من اللغة العامية المصرية، وهو ما يؤكد على الطابع الكوزموبوليناني للمجتمع الذي كان يسكن وسط المدينة. البضائع متنوعة وجذابة هناك، ويمكننا أن نفهم لماذا تسعد ليلى بقضاء الوقت في اختيار هدية. ويبدو أن البضائع باهظة الثمن لدرجة أن ليلى، المنحدرة أصلًا من عائلة ثرية، ستحتاج إلى حساب أموالها لشراء منفضة سجائر بسيطة. بعد شراء الهدية، تتوجه ليلى لزيارة مدرس البيانو الخاص بها في شقته بشارع شامبليون:

“واتجهت إلى شارع شامبليون […] ودخلت إلى العمارة وحاولت أن تنظر إلى البواب لكنها لم تستطع. دخلت كأنها تتسلل. ووضعت نفسها في المصعد وصعدت.. وقلبها يصعد إلى حلقها”.

كقاعدة عامة في ذلك الوقت، كانت مهمة حراسة العمارات في وسط المدينة معهودة إلى حراس (بوابين) نازحين من جنوب مصر، لاسيما من النوبة. تدلف ليلى إلى داخل العمارة والخوف يملؤها من البواب، إذ أنه من المؤكد أنه سيسألها عن وجهتها، خاصة وأنه كان – ولا يزال – من غير المقبول في المجتمع أن تذهب فتاة إلى شقة يعيش فيها رجل بمفرده. يمكننا أن نلاحظ أنه، على الرغم من الأجواء الكوزموبوليتانية للحي، فإن التقاليد المصرية لم تزل مصانة.

***

يُعتبر بوابو وسط المدينة من العناصر البارزة فيها. ورغم اضطرارهم للعمل بعيدًا عن مدنهم الأصلية في جنوب مصر، استقر معظمهم في حي شعبي قريب من وسط المدينة: حي بولاق الذي سيصبح “غيتو” لهم خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. تعتبر المؤرخة جانيت أبو لغد هذا الحي عالمًا قائمًا بذاته، كما تصف سلوكيات حراس العقار أثناء العمل:

“يُرى البوابون في حالة استرخاء بعد انتهاء مهمتهم اليومية في تنظيف طرقات وباحات العمائر، لكن أناقة ملابسهم وقيامهم أحيانًا بالانحناء حال دخول أحد السكان، وكذا حملهم لأغراض السكان تميزهم كأعضاء مفيدين في مضمار العمل، بعكس المتواكلين ساكني بولاق (غالبا تقصد النازحين من الجنوب بدون عمل)”.

تتمثل التحولات الجذرية في حياة أحمد زهدي بعد وفاة أخيه ممدوح في سلسلة من القرارات التي أثرت على نمط حياته اليومي. على سبيل المثال، كان معتادًا على تناول إفطاره يوميًا في صالون جروبي في وسط المدينة، وتحديدًا في ميدان سليمان باشا. يُعتبر جروبي من أبرز أماكن الترفيه التي افتتحت أولًا في الإسكندرية عام 1890 ثم في القاهرة عام 1903.

***

ترجع شهرة جروبي إلى كونه المكان المفضل لنخبة المجتمع المصري منذ بداية القرن العشرين، حيث اشتهر بصالونه ومطعمه المسمى «الروتوند»، بالإضافة إلى حديقته الخلفية التي كانت أحيانًا تعمل كـ«سينما في الهواء الطلق». علاوة على ذلك، فإن جروبي سليمان باشا، وهو الأخير في سلسلة الفروع، قد شهد أحداثا مهمة في تاريخ المجتمع المصري، ففيه تمت ولادة الحركة السريالية في الفن التشكيلي المصري.

يتميز جروبي بإطلالته على ميدان سليمان باشا وبموقعه المميز أسفل أحد العمارات الضخمة المصممة على الطراز النيو كلاسيكي من تصميم جوزيبي مازا. واجهة المحل مزينة بالفسيفساء الفينيسية متعددة الألوان، وهي من عمل أنطونيو كاستامان. أما الديكور الداخلي فهو على طراز «آرت ديكو» تصميم ليون كاييه. ساهمت كل هذه العناصر التلقيطية في ترسيخ طابع جروبي الاستثنائي وسمعته المرموقة.

في ذروة تحوله العميق، يبدأ أحمد زهدي في رؤية الأماكن التي كان يرتادها يوميًا بطريقة ثورية. وفقًا للنظرة الجديدة، يصف الراوي جروبي بعيون أحمد زهدي:

“ووصل محل جروبي في ميدان سليمان باشا، وهم أن يدخله ليتناول في طعام إفطاره.. ولكنه توقف عند الباب فجأة.. لماذا يصر على أن يتناول افطاره في جروبي؟ إنه محل معتم، رطب، صامت، لا يضم إلا العجائز، وكبار الموظفين..كأنه آخر محطة في الحياة”.

***

إن العتمة والرطوبة والصمت في جروبي، رغم إطلالته وإضاءته، إنما تأتي من رواده لأنهم هم النخبة التي عفا عليها الزمن. إنهم يمثلون، في عيون أحمد زهدي، العصر البائد الذي يحاول النظام الجديد القضاء عليه. داخل جروبي، يوجد عالم قديم يحتضر، تمامًا مثل العصر الذي ينتمي إليه. يعبر الراوي عن التباين بين الأجواء المحتضرة داخل جروبي والحياة الصاخبة خارجه في المشهد التالي:

“وهز كتفيه ساخرًا من جروبي، ثم استدار وسار على قدميه في شارع سليمان باشا، ودخل محلا لبيع الساندويتش.. ووقف يقضم في قطعة ساندويتش، ويلتقط قطع المخلل، ويملأ أذنيه بضجيج الشارع، ويملأ عينيه بالزحام النشط الذي يضم آلاف المتجهين.. ويبتسم في حبور.. يبتسم لكل وجه يمر أمام عينيه. وهو يحس أنه واقف في وسط الحياة”.

يمكننا أن نرى بوضوح حركة المشاة في شارع سليمان باشا. يمكننا أن يشعر بالحشود التي تغزو الحي، والتي تنتمي بلا شك إلى الطبقة الوسطى. هذا الجانب من الحشود يبدو جديدًا في عيون أحمد زهدي، ومع ذلك فهو لا ينزعج من رؤية آلاف الأشخاص الذين يمثلون السعي النشيط. أما القيمة التاريخية والمعمارية العميقة للمدينة الحديثة (وسط المدينة) فلا تلبث تختفي أمام حيوية جماهير الشعب التي تمثل، في نظره، حياة حقيقية قد بدأت للتو، بعكس التي تقترب من النهاية خلف أبواب مقهى جروبي. وبالتالي فإن انفتاح وسط المدينة على هذه الجماهير الغفيرة هو بمثابة إصدار شهادة وفاة لعصر قد ولى.

اقرأ أيضا:

قاهرة يوليو (11): خلافة سكنية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر