في ذكرى رحيله.. أهال بدشنا يروون ذكرياتهم مع نبأ موت “عبدالناصر”
“فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية وفقدت الإنسانية كلها رجلًا من أغنى الرجال، رجلًا من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال، هو الرئيس جمال عبدالناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة والربع من مساء يوم 27 رجب عام 1390، الموافق 28 سبتمبر 1970، ليس هناك كلمات تكفى لعزاء جمال عبد الناصر”.
كان هذا نص البيان الذي أذيع في صباح يوم 28 سبتمبر 1970 بمثابة الصدمة لأهالي مدينة دشنا وقراها، والذين خرجوا إلى الشوارع والميادين في شبه ملحمة شعبية جنائزية، في جنازات رمزية جابت جميع أنحاء مركز دشنا وقراه، وبكى الجميع رجالًا ونساءً وشيوخًا وشبابًا، موت الزعيم.
يعود عبدالمنعم أبوالحسن، أحد أهالي دشنا، تاجر، بذاكرته إلى الوراء في صباح أحد الأيام وهو يجلس بدكانه بشارع المحطة بدشنا يستمع إلى المذياع و حين قطعت الإذاعة المصرية برنامجها العادي وبدأت في إذاعة الموسيقى العسكرية وآيات من القرآن الكريم، تنبه قليلًا وأحس بغضة في صدره ليأتي إليه هذا البيان الذي تلي بصوت يعرفه أنه صوت السادات، نائب الرئيس في ذلك الوقت.
يروي أبو الحسن لم أشعر إلا والدموع تنهمر من عيني وخرجت إلى الشارع وأنا أبكي بكاءً شديدًا وأهذي في جنون “عبد الناصر مات”، لم أحزن على موت جدي، الذي توفي قبل عبد الناصر بيوم واحد كما حزنت على الزعيم الأب، فلم نعرف العزة والكرامة إلا على يديه، مضيفًا أنه يذكر عندما كان في ليبيا في أواخر الستينيات أن صور عبدالناصر كانت تكلل ميادين شوارع طرابلس العاصمة، وكان المصري يعامل بكل احترام وتقدير كأنه مواطن ليبي وربما أفضل قليلًا.
ويتابع بدت على وجهه علامات الحزن، خرج المئات من بيوتهم يصرخون ويبكون مشيعين لجنازة الأب والأخ والصديق عبدالناصر، في جنازات رمزية بنعوش فارغة مغطاة بأعلام مصر، ويتصدرها صور الراحل عبدالناصر، مضيفًا أن النساء اجتمعن أمام البيوت بملابس الحداد في ذلك الوقت، ورحن يلقين قصائد العديد على موت عمود البلد وكبيرها “كداب ياللي تقول الكبير يرجع تاني، وما راح الكبير ولا بعده كبير تاني”.
ويلفت معروف عبدالجليل، معلم بالمعاش، أنه تلقى الخبر أثناء ممارسته عمله بالمدرسة الإعدادية بدشنا في ذلك الوقت كمدرس للمواد الاجتماعية، وكان يشرح درسًا عن تأميم قناة السويس، ودور عبد الناصر في اتخاذ القرار الصعب ونتائجه، حين سمع العويل والصراخ يأتي من الخارج “عبد الناصر مات” لتسقط قطعة التباشير من يده وينظر إلى التلاميذ باكيا “أبويا مات.. أبويا مات” لينفجر التلاميذ وأستاذهم في نوبة بكاء عارمة.
يتابع عبد الجليل وقد بدأت عيناه تذرف الدموع “لقد صافحت عبدالناصر في أواخر الخمسينيات حين كرمني كمعلم مثالي وسلمني شهادة التقدير والميدالية البرونزية، وتقلدت بوشاح الجمهورية المتحدة، لا أذكر كلماته معي والتي كانت قليلة ولكني أذكر الهيبة والحنان اللذان استقبلني يهما.
ويسترسل “عاشت دشنا وقراها شهورًا في حالة حداد وفتحت جميع المنادر والساحات الاستقبال العزاء، كان الكل يعزي الكل فقد كان المصاب عظيما”.
وتروي أم أشرف، ربة منزل، أن حين توفى عبدالناصر كانت متزوجة حديثًا في إحدى بيوت عزازية دشنا، في وقت لم يكن يُسمح للمرأة المتزوجة أن تطل برأسها من شرفة المنزل، لكنها أصرت في ذلك الوقت أن تصعد إلى سطح المنزل لتشاهد جنازة عبدالناصر الرمزية، والتي اجتمع لها- على حد قولها- الآلاف.
وتابعت أنها بمجرد أن صعدت إلى السطح وشاهدت النعش المحمول على أعناق الرجال انهارت وانخرطت في البكاء ملوحة بيدها للنعش “مع السلامة يا حبيبي”، ولم تلاحظ أن خالها والذي كان من المشيعين قد شاهداها، مضيفة أن يومها نالت “علقة ساخنة” من زوجها لأنها خالفت العرف والتقاليد لتشيع عبدالناصر، مردفة “لم أهتم كثيرًا.. عبد الناصر يستاهل حياني كلها”.
ويقول رمضان عبدالموجود، موظف، إنه حين مات عبدالناصر كان بعمر الثانية عشرة، وكان وقتها يعيش بالقاهرة، وبالرغم من صغر سنه إلا أنه شارك في الجنازة العالمية التي انطلقت من أمام القصر الجمهوري وجابت جميع أنحاء العاصمة وسط بكاء ونحيب وترديد هتافات “جمال حبيب الملايين”.