ما وراء سجن مدير «اللوفر».. أوراق من قضايا مافيا آثار مصر في فرنسا

لا تزال التحقيقات مستمرة للكشف عن خبايا عصابة تهريب الآثار المصرية، والدور الذي لعبه رئيس متحف اللوفر السابق جان لوك مارتينيز في منح عصابات محترفة في تهريب الآثار شهادات منشأ مزورة.

جرى التحقيق مع مارتينيز، وأمين قسم الآثار المصرية، فينسينت روندو، وعالم المصريات أوليفييه بيردو، ورغم الإفراج عن الاسمين الأخيرين، إلا أن مارتينيز الموضوع تحت المراقبة مازال يواجه لائحة اتهام بارتكاب جرائم غسيل أموال والاحتيال ضمن تنظيم عصابي كبير.

سرقات الربيع العربي

يواجه جان لوك مارتينيز، مدير المتحف الفرنسي، اتهامات عن فترة طويلة أدار فيها المتحف -الأكثر زيارة في العالم خلال الفترة من عام 2013 حتى عام 2021. وسبب استقالته بعدها من منصب رئيس متحف اللوفر العام الماضي، ليصبح سفير فرنسا للتعاون الدولي في قضايا التراث، وقيادة الجهود المبذولة لحماية القطع الأثرية المعرضة لخطر النهب والتدمير في مناطق النزاع خلال فترة وجوده في متحف اللوفر.

تُنذر القضية بإحراج كبير لوزارتي الثقافة والخارجية الفرنسية. خاصة أنه تم فتح ملف القضية في يوليو 2018، بعد عامين من شراء متحف اللوفر أبوظبي من متحف اللوفر الفرنسي بقيادة “مارتينيز”، نصب تذكاري نادر بطول 170 سم من الجرانيت الوردي. يجسد الملك المصري القديم “توت عنخ آمون” وأربعة أعمال قديمة أخرى مقابل 8 ملايين يورو.

ويظهر في النصب التذكاري الذي يرجع إلى عام 1327 ق.م، بصفته الوسيط الوحيد بين عالم الإنسان والآلهة، وظهر الفرعون توت عنخ آمون مرتين على الشاهدة وهو يقدم قرابينه للآلهة ويصدر أوزوريس مرسوم ملكي على اليسار.

 

ورغم محاولات “مارتينيز” السابقة لنفي ارتكابه أي جريمة أو مخالفة، كما أوضح لوكالة الأنباء الفرنسية. إلا أنه يواجه تهم بالتواطؤ والاحتيال وإخفاء أصل قطع أثرية تم الحصول عليها بطرق غير شرعية، وبيع شهادات مزيفة لقطع آثار مُهربة بطرق غير شرعية، باعتباره فرد في منظمة أو بمعنى أدق “عصابة” عالمية يتورط فيها العديد من خبراء الفن الآخرين لبيع آثار مسروقة.

**

يعتقد المحققون الفرنسيون أن مئات القطع الأثرية تعرضت للنهب خلال ثورات الربيع العربي، التي اجتاحت العديد من دول الشرق الأوسط في أوائل عام 2010. يقدر عددها بحوالي 2000 قطعة. وتم بيعها إلى معارض وأشخاص ومتاحف ­لم تطرح الكثير من الأسئلة حول إثبات ملكيتها. ولا تبحث بما فيه الكفاية عن شهادات منشأها. ومن البلاد التي تأثرت بعمليات سرقة الآثار مصر وليبيا واليمن وسوريا.

القطعة الأثرية محل الجدل ذات أهمية تاريخية كبيرة. إذ خصص لها “مارك جابولد” عالم المصريات الفرنسي دراسة علمية كاملة مكونة من 47 صفحة، ونشرها في مارس 2020 للتنديد بأهمية هذه القطعة.

الشاهدة الأثرية التي صادرتها نيويورك
الشاهدة الأثرية التي صادرتها نيويورك

ويقول عالم المصريات المشرف على الناحية العلمية في القضية -في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “تعتبر الشاهدة الأثرية كنزا. مازالت قطعة ناجية من كنوز الملك توت عنخ آمون. رغم تعرض أغلب مقتنياته للسرقة، ولكنها الآن تطرح العديد من الأسئلة حول أصول ملكيتها. وهل خرجت بطريقة شرعية من مصر أم أنها مسروقة، لأنه من المعتقد أن خبير آثار وتاجر قدموا وثائق مزورة لغسل مئات القطع الأثرية المسروقة وهذا ما لاحظته منذ أول مرة شاهدتها”.

لن تتوقف القضية باستجواب “مارتينيز” فقط. ولكن سيتم استجواب متخصصين فرنسيين في الفن المصري هذا الأسبوع أيضا. ولكن تم الاتجاه إلى الرأس الكبرى والعقل المدبر. من خلال اعتقال صاحب المعرض الألماني اللبناني روبن ديب الذي توسط في عملية البيع المشبوهة في هامبورج في مارس الماضي. بعد تسليمه إلى باريس لاستكمال التحقيق في القضية.

كيف اُكتشفت القضية!

تواصل «باب مصر» مع مصدر فرنسي مسؤول وشاهد أساسي في قضية تزوير أوراق تصدير قطع أثرية مسروقة من مصر وعرضها في متحف اللوفر الفرنسي، بعد الانتهاء من التحقيق، وقال المصدر – رفض ذكر اسمه – إنه اطلع على الشاهدة الأثرية وتمكن من فحصها وجمع آراء علمية لها، وأضاف: “القضية بدأت معي منذ عام 2017”.

وتابع أنه جمع آراء علمية من العديد ممن شاهدوا الشاهدة. وكان ذلك في سويسرا خلال إبريل 2018. موضحا أنها بيانات تفيد بأنه قطعة أثرية تم بيعها من قبل التاجر المصري حبيب تواضروس عام 1933 إلى ضابط البحرية التجارية يوهانس بيهريز من بريمن ألمانيا.

واستطاع الربط بين العديد من قطع التاجر المصري. ومن بينها تابوت “نجم عنخ”. موضحا أنه ربما هناك العديد من القطع المسروقة، ولكن حتى الآن لم يتم إدانة أي شخص بعد. ويقول: “في هذه القضية يوجد منقبون غير شرعيين ومصدرون غير شرعيين ومهربين، هم الجناة الحقيقيون بعضهم قيد الاعتقال بالفعل. ومن ناحية أخرى هناك الشعب المصري ومتحف اللوفر أبوظبي وأمناء المتحف وعلماء المصريات الذين تعرضوا للخداع عمدًا، وهم ضحايا للمتاجرين وليس شركائهم في أي جريمة”.

تابوت «نجم عنخ» المسروق

من الصفقات المشبوهة التي تورط فيها “مارتينيز”، قطعة مصرية أخرى ثمينة. وهو التابوت الذهبي للكاهن المصري القديم “نجم عنخ”، الذي اشتراه متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك في عام 2017 مقابل 3.95 مليون دولار. والذي كان محل تحقيق منفصل أجراه المدعى العام في نيويورك.

وتمكنت مصر من استعادة التابوت في فبراير 2019. بعدما اتصل مكتب المدعي العام لمقاطعة نيويورك بمتحف متروبوليتان. والذي قدم للمتحف دليلًا قدمته الحكومة المصرية على أن رخصة التصدير الخاصة بالقطعة لعام 1971 مزورة. وأظهرت أدلة أخرى أن التابوت سُرق في عام 2011. وأن ​​تاريخ ملكيته ليس إلا عملية احتيال. ثم أغلق المتحف معرض نجم عنخ الذي كان مستمرًا في ذلك الوقت وسلم التابوت إلى إدارة إعادة الآثار بوزارة الآثار المصرية.

وعن تابوت «نجم عنخ» هو تابوت مصري قديم لنجم عنخ. ويرجع إلى العصر البطلمي المتأخر. ويبلغ ارتفاع التابوت 181 سم وعرضه 53 سم وعمقه 28 سم. مصنوع من الكارتون والكتان والغراء، ومطلي بالذهب الخالص والفضة، ومزين بالزجاج والخشب والبرونز. ويتضمن غطاء التابوت بالكامل كتابات جنائزية، وبداخله معلومات عن «نوت» إلهة السماء.

تجار الآثار المتورطين بالأسماء

يعتبر القضاء الفرنسي تورط “مارتينيز” بداية لقضية خطيرة. إذ تطرح المسألة مشكلة تهريب الآثار وتعمد المسؤولين عن حمايتها تهريبها. مما يهدد آثار وتراث العالم بالخطر.

وعن تمثال “نجم عنخ” فقام بتهريبه خبير التحف «كريستوف كونيكي» تاجر الآثار والقطع الفنية المقيم في باريس ومالك دار مبيعات “بيرج وأسوشيكتيس”. ومن المعروف أنه متخصص في آثار البحر الأبيض المتوسط. خاصة الآثار الرومانية واليونانية والمصرية.

بالإضافة إلى تورط تاجر الآثار الألماني اللبناني «روبن ديب»، لاشتباهه في تزوير وثائق وأصول لمئات القطع الأثرية المسروقة في أماكن مختلفة من دول الشرق الأوسط. ووفقا لسجل الملكية المزور الذي حصل عليه المتحف حينها. فقد خرج التابوت من مصر في عام 1971 بترخيص من هيئة الآثار، والمتحف المصري بالقاهرة.

وقيل إنه كان من بين ممتلكات تاجر التحف المصري حبيب تواضرس، الذي مارس مهنته منذ عام 1936. كان يدير «حبيب وشركاه» فندق «شبرد» الذي تم تدميره في حريق القاهرة عام 1952. وتستكمل الوثيقة المزورة أنه قام ممثل عن ورثة تاوضرس بتصدير التابوت إلى سويسرا. مع ترجمة رخصة التصدير المقدمة في فبراير 1977 من قبل السفارة الألمانية بالقاهرة. لاستخدام الممثل والمالك الأوروبي الجديد. إذ سمحت مصر بتصدير بعض الآثار قبل صدور قانون حماية الآثار لعام 1983. ويعتقد المتحف أن التابوت ظل في مجموعة تلك العائلة حتى شرائها عام 2017.

فندق شبرد بالقاهرة عام 1920
فندق شبرد بالقاهرة عام 1920
موقف القانون الفرنسي

رغم الملابسات الواضحة في القضية، إلا أنه في ظل النظام القانوني الفرنسي، تشير التهم الموجهة إلى “مارتينيز” إلى أن المحققين يشتبهون في تورطه في جريمة، لكنه قد لا يُحاكم. ويمكن إسقاط التهم في أي وقت إذا كشفت الشرطة عن أدلة جديدة. وغالبًا ما تستغرق التحقيقات القانونية المعقدة عدة سنوات لتكتشف في فرنسا.

لم يفصح مارتينيز بأي تعليق إعلامي، لكنه رغم ذلك يسلك مساره أمام العالم في مهمته التي قد تكون وهمية في صون التراث. إذ كتب تقريرا قدمته فرنسا إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في عام 2015، تضمن 50 اقتراحًا، مثل رسم الخرائط الرقمية للمواقع المهددة وزيادة ضوابط الحدود، لحماية الآثار من اللصوص. وفي الوقت نفسه امتنع ممثلو متحف اللوفر الفرنسي ومتحف اللوفر أبوظبي عن التعليق.

وأصدر “اللوفر” أبو ظبي بيانا قالوا فيه: “إن اللوفر أبوظبي يطبق بروتوكولا دوليا صارما للأعمال الفنية التي تدخل المتحف. وفقا للاتفاقية الحكومية الدولية بين أبوظبي وفرنسا، الموقعة في عام 2007. ويتوافق هذا البروتوكول بشكل صارم مع اتفاقية اليونسكو لعام 1970 ويتبع أكثر المعايير صرامة للمتاحف الكبرى في العالم”.

جان لوك مارتينيز مدير متحف اللوفر السابق
جان لوك مارتينيز مدير متحف اللوفر السابق
مسلة مصرية ضلت طريقها إلى نيويورك!

هذه ليست القضية الأولى التي يتورط فيها مثلث تجارة الآثار المصرية (ديب وكونيكي وسيروب سيمونيان). إذ رُفعت دعوى قضائية في وقت سابق ضد خبير الآثار كونيكي الذي باع تابوتا ذهبيا مسروقا إلى متحف «متروبوليتان». وتم إلقاء القبض عليه في ألمانيا.

وفي القضية السابقة سعى مالك المعرض الفرنسي “سيبيل”، للحصول على تعويض عن لوحة أو شاهدة مصرية تمت مصادرتها في عام 2019 في نيويورك الأمريكية ضمن تحقيق في تهريب الآثار، ومالك المعرض “ناصيف الخوري” الذي يعيش هامبورج. وكذلك دار المزادات الفرنسية «بيير بيرجي» وخبيرها «كريستوف كونيكي»، في محاولة لاسترداد مبلغ 126.700 يورو الذي تم دفعه مقابل القطعة المصرية في عام 2016.

وبعد الإطلاع على الأدلة، وقع “جان بيبر مونتيسينوس”، صاحب جاليري “سيبيل”، اتفاقا يتنازل فيه عن حقه في هذه القطعة بهدف إعادتها إلى مصر موطنها الأصلي. وكانت شاهدة جنائزية التي يبلغ طولها 110 سم وترجع إلى العصر المتأخر (664ق.م – 332 ق.م). تم نقشها لكاهن معبد حتحور وتجسيده مع أوزوريس وحورس وحتحور. وقام المعرض الذي كان قد عرض العمل سابقا في عام 2018، بشحنه إلى نفس المعرض في “تيفاف نيويورك”.

**

في عام 2018، كان من المفترض أنه تم شحن هذه القطعة للعودة إلى مصر. ولكن في أكتوبر 2019 اتضح أن هذه القطعة الأثرية لم تصل أبدا إلى مصر. وقال المدعي العام الأمريكي “سايروس فانس” إنه تم تهريبها من مصر بشكل غير قانوني قبل عام 2012 من قبل أعضاء منظمة دولية لتهريب الآثار، والتي حقق فيها أيضا “ماثيو بوجدانوس”.

ولكن يبدو أن “كريستوف كونيكي” قدم مصدرا مزيفا للكتالوج الخاص بهذه القطعة. وتضمن وصف القطعة المزور أن المسلة كانت مملوكة لجامع آثار ألماني اقتناهها عام 1970 من تاجر الآثار المصري «حبيب تواضروس» بالقاهرة، بالتعاون مع جامع التحف «سيموني» صاحب الـ83 عامًا، المقيم في كاليفورنيا، والذي كان تاجر نشط في القاهرة في الفترة من عام 1969 إلى عام 1984.

ولكن يؤكد «بوجدانوس» في تقريره أن هذا المصدر للشاهدة المصرية مزيفا، بل وخطأ إجراميا، مشيرًا إلى أن كونيكي قدم نفس الأصل للتابوت الذهبي الذي باعه لمتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك في عام 2017 مقابل 3.5 مليون يورو. رغم أنه سُرق في عام 2011. وألقي القبض على “كونيكي” وشريكه “ريتشارد سمبر” ووجهت إليهما تهمة الاحتيال الجماعي وغسل الأموال في باريس في يونيو.

مذكرة استرداد تابوت نجم عنخ
مذكرة استرداد تابوت نجم عنخ
مصير مجهول لـ29 قطعة مصرية في فرنسا

على جانب آخر مازالت 28 قطعة آثار مصرية في فرنسا ذات مصيرا مجهولا. ووفقا لصحيفة “ذا آرت نيوز بيبر” مازالت السلطات الفرنسية تحقق في 29 قطعة بما في ذلك الشاهدة التي تم بيعها بالمزاد العلني في باريس منذ عام 2007 بأكثر من 4.3 مليون يورو. وتم شراء أغلى قطعتين من قبل متحف متروبوليتان، وهما لوحة فيوم لسيدة، تم بيعها بـ1.4 مليون يورو في عام 2013، وخمسة أجزاء من لوحات كتاب الخروج، لوصايا المسيح. وتم بيعها بـ1.2 مليون يورو في عام 2013 عن طريق الوسيط “روبن ديب”.

وبالبحث عن تاريخ تاجر الآثار المثير للجدلروبن ديب، هو مدير معرض “ديونيسوس” في “هامبورج” ويملكه سيروب شقيق سيمونيان، الاسم الذي يتكرر كثيرا ظهر هو ووالدته وزوجته 14 مرة كبائعين من أصل 29 قطعة. بالإضافة إلى جدارية لمغنية أمام قرابين لحتحور مقابل 62 ألف يورو في عام 2015، وكان الوسيط لدار المزاد هو “ناصيف الخوري” أيضا.

ولكن بالنسبة إلى الشاهدة المصرية، أكد “سايمون سيمونيان” للشرطة الفرنسية أن المسلة خرجت رسميا من مصر في عام 1970، وفقا لأوراق تصدير رقم 1067، ووفقًا لتقرير بوجدانوس، تنفي وزارة الآثار المصرية وجود رقم الترخيص.

وجاء رد ديب بأنه يشك في أن الوزارة لديها أرشيفات ترجع إلى ذلك الوقت. ولكن نفى ديب وسيمونيان هذه المزاعم، وقالا أنه تم تصدير المسلة والتابوت بشكل قانوني في عامي 1970 و1971. ولكن أخيرا سُجن ديب في “هامبورج” نهاية أغسطس، بعد القبض عليه متهما بتجارة آثار من الشرق الأوسط.

اقرأ أيضا

«متحف الميمورابيليا»: رحلة كنوز الأسواق الشعبية للبيوت المصرية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر