في الإسكندرية.. طعم القهوة من أيدي “الخواجات” شيء مختلف
“يا مين يقول لي أهوى.. اسقيه بأيدي قهوة.. أنا أنا أنا أهوى.. ياللي تبات الليل.. سهران من أيدي لو تشرب فنجان.. راح تلقى فيه السلوى والدنيا تصبح حلوة”.. تلك الأغنية النادرة التي كتبها مأمون الشناوي، ولحنها فريد الأطرش، وغنتها المطربة أسمهان، حبًا وعشقًا في شراب القهوة، أصبحت عنوانًا لكل محبي هذا المشروب الذي خصص يوم 29 سبتمبر من كل عام، يومًا خاصًا للاحتفاء بعيد القهوة، إذ تتمتع محافظة الإسكندرية بعدة محال، لاحتساء القهوة بمذاق قد لا تجده في أماكن أخرى.
ذاكرة التاريخ
“مشروب القهوة له تاريخ قديم بل ذاكرة تحتويها أماكن وحواري وأذقة مصر فلا يمكن الاستغناء عن تناول هذا المشروب السحري العظيم، حيث أنه بدأ ظهورها في مصر في أوائل القرن الـ16، عبر قيام طلبة الأزهر المصريين باستعارة هذا المشروب من زملائهم اليمنيين المغتربين”.. هذا ما قاله الدكتور عبد المجيد شوقي، أستاذ التاريخ المصري بجامعة الإسكندرية، موضحًا تاريخ شرب القهوة في مصر.
ويقول شوقي، إنه بعد مشاهدتهم لزملائهم أثناء الليل يحتسون هذا المشروب ليلًا أثناء المذاكرة، ومنها ذاع صيت القهوة حتى أن أصبح لها جمهورًا خاصًا، مبينًا أنه بعد ذلك حدثت ثورة عارمة ضد المشروب المنبه، بسبب قيام أحد فقهاء المذهب الشافعي بحملة عنيفة ضد المشروب الجديد الذي أفتي بتحريمه.
ويضيف شوقي، أن الأمر وصل ببعض الأئمة في المساجد بعمل خطب تفيد بحرمانية القهوة، الأمر الذي أدى لحالة غضب شعبي، مشيرًا إلى أنه في أواخر عام 1572 صدرت فتوى تقضي بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات، وبغلق أبواب الحانات، ومنع استعمال القهوة والتجاهر بشربها، وإغلاق أماكن تقديمها وكسر أوانيها، بدعوى أنها حرام، لكونها تؤثر في العقل بالإيجاب أو بالسلب.
ويوضح أستاذ التاريخ المصري أن تلك الفترة تسببت في خسائر فادحة لتجارها وبائعيها، بل وصل الأمر إلى أن قتل أحد تجار البن على أيدي مساندي فتوة هذا الشيخ، إلى أن وصلت تلك الثورة التي تسببت فيها القهوة إلى السلطان العثماني آنذاك، والذي قرر بإقالة المفتي صاحب الفتوى، وأجاز شربها وبيعها وعين مفتي جديدًا في القاهرة.
البن البرازيلي
“البن البرازيلي” يعد من أقدم المحال الخاصة ببيع وتقديم شراب القهوة في محافظة الإسكندرية، والذي أسسه الخواجة سيدارس عام 1928، ويوجد منه ثلاث أفرع؛ الأول أو الرئيسي وهو المتواجد في شارع فؤاد، والفرع الثاني في شارع شريف بمنطقة محطة الرمل، ومؤخرًا تم افتتاح الفرع الثالث في منطقة جليم شرقي المحافظة.
ويتمتع هذا المحل بالعراقة والأصالة والطابع اليوناني القديم، كما يحظى بشهرة واسعة في المحافظة وله زبائن دائمين، ويعد من أفضل وأعلى الأماكن التي من الممكن أن تحتسي فيها القهوة، لأن البن الذي يقدم فيه يأتي من البرازيل وكوبا، لذلك فهو غالي الثمن وله زبائنه.
عالم آخر
يقول محمد علوي، أحد رواد كافيه “البن البرازيلي” إنه من الزبائن الدائمين للكافيه، لا يمكن أن يذهب لعمله في الصباح، قبل أن يأتي ليأخذ فنجان من القهوة البرازيلية، ويستمتع بالأغاني اليونانية وأغاني فيروز، مبينًا أن الجو العام للكافيه يشعرك بالبهجة والآمل ويعطيك دفعة لكي تتحمل كل “سخافات” اليوم.
ويوضح رامي فرغلي، أحد رواد الكافيه، أن ما يميز المكان هو ديكوراته الفريدة والعتيقة، حيث تجد في المدخل لون العلم البرازيلي والأهرامات والنخل وورق البن الأخضر، وحبات البن القرمزية المتناثرة على جدران المحل، مبينًا “هذا لا يوجد في أي محل آخر.. حقًا كل شيء هنا مختلف ورائع”.
علامة في الإسكندرية
يقول محمد المسيري، أحد ملاك البن البرازيلي، إن المحل تم تأسيسه عام 1928 وأسسه اليوناني سيداريس، الذي كان يملك محلات “الصالون الأخضر”، مبينًا أنه تم تمصير المحلين سنة 1957، عندما قرر الخواجة سيداريس تصفية ممتلكاته، فاشتراهما محمد صبحي وحمدي غالب، وهما من أصل سوري، ثم حدث خلاف بينهما فانفصل المحلين.
ويضيف المسيري، أنه بعد الانفصال اختلف الاسم، وأصبح المحل معروف بـ “محل البن البرازيلي”، أما الثاني فاسمه “مخازن البن البرازيلي”، مشيرًا إلى أن المحل يتميز بالأعمدة “الموزايكو”، حيث أنه من تصميم أحد المقاولين الإيطاليين، وتظهر بعض حروف من اسمه محفورة على الواجهة.
ويوضح المسيري، أن محلاته تحوز على شهرة واسعة في عالم البن، حيث أنه له زبائن لا يتغيرون يأتون يوميًا من أجل احتساء هذا المشروب السحري، لافتًا إلى أن المكان سمعته معروفة بأن البن الذي يقدمه لا يقدمه أحدًا غير محلات “البن البرازيلي”، لذلك فهو له زبائن خاصين من مَن يعشقون القهوة.
ملك البن “سفيانو بولو”
حينما تسير في شارع محطة الرمل تجذبك رائحة البن الذكية، والتي تجذب أنفك حتى أن تصل أمام محل يتميز بالتراث القديم، وتحتوى جدرانه على تاريخ عتيق، وصور لفنانين الزمن الجميل منهم “عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الوهاب” له 3 مداخل، اثنان على شارع سعد زغلول والآخر جانبي، وتعلوه لافتة كبيرة مدون عليها “سفيانو بولو” للبن.
ووفق ما قاله عمر طنطاوى، أحد ملاك سفيانو بولو، فإن تاريخ محل “سفيانو بولو” للبن يرجع إلى عام 1932، إذ كان نشاط المحل قبل ذلك مكتب بريد يونانيا أسس عام 1908، ثم تم تحويله إلى محل بن أسسه الخواجة اليوناني سفيانو بولو ورجل الأعمال إيهاب طنطاوي، والذي لم يغير اسم المحل بعد رحيل سفيانو من مصر وفاءً وإخلاصًا له.
ويقول طنطاوي، إن المحل لا زال محافظًا على التراث القديم، وما زالت الديكورات القديمة بنية اللون وصور القهوة هي من تشكل جدرانه من منذ 102 عامًا، و حتى أدوات عمل القهوة وطحن البن القديمة ما زالت موجودة ومستخدمة حتى الآن، مشيرًا إلى أن المحل يتميز بتوليه جميع مراحل طحن البن وحتى تقديمه للزبائن.
ويوضح طنطاوي، أن المحل له زبائن دائمين يأتون يوميًا لاحتساء القهوة، والجلوس في الكافيتريا الصغيرة التي قمنا بعملها من أجل راحة الزبائن، مشيرًا إلى أن أجواء المحل تعطيك دفعة لتخطي جميع ضغوطاتك اليومية بمجرد احتسائها في الصباح أو بعد الظهيرة أو حتى ليلًا.
رائحة زمان
تامر وفائي، أحد زبائن محل بن سفيانو بولو، يشير إلى أنه رغم صغر سنه؛ إلا أنه يأتي هنا منذ زمن لإحساسه بأنه يعيش أيام زمان، ووسط التاريخ الجميل المكتوب على جدران هذا المحل، لافتًا إلى أنه اعتاد المجيء يوميًا للمحل من أجل احتساء النسكافيه في الصباح، وقبل الذهاب لجامعته، واصفًا شعوره بمتعة ولذة عجيبة وسعادة لا توصف بعد تناول هذا المشروب السحري.
ويوافقه في الرأي عادل بشير، أحد رواد المحل، ويضيف أن المكان يعطيك إحساس غريب بأنك تعيش أيام الخمسينات والستينات، خاصة حينما تجلس على مقعدك وتنظر إلى صور المطربين القدامى المعلقة على الحوائط.
ويذكر بشير أن تاريخ حوائط المحل تنطق بالروعة والجمال والهدوء والرقي، وكل ذلك وأنت تحمل بين يديك فنجان القهوة الرائع، الذي يرى أنه يشربه في مكان آخر خارج هذا المحل بهذه الروعة.
اقرأ المزيد عن أسرار القهوة: من هنا
2 تعليقات