فيلم «أميرة»: الحسبة تطل بوجهها الخبيث مجددا
لا يكفي السينمائيون العرب ما يعانونه من ضعف الصناعة وإحجام الجمهور والرقابات الرسمية ولامبالاة المسؤولين بواحدة من أهم وسائل الدعاية السياسية، ومفهومهم الضيق لهذه “الدعاية” التي لا تتأتى بأعمال مدرسية تعليمية. بقدر ما تصنعها أعمال قوية جريئة. ولكم في السينما والدراما الأمريكية والكورية والأوروبية وحتى الهندية عبرة لأولي الألباب.
إتهام بالخيانة
ها هو هاني أبوأسعد، الذي وضع للسينما الفلسطينية اسما على الخريطة العالمية. وأجبر فيلمه “الجنة الآن” أكاديمية علوم وفنون السينما على أن تعترف بوجود دولة اسمها فلسطين (بينما الحكومة الأمريكية لا تعترف بذلك). ها هو أبوأسعد متهم بالخيانة والعمالة والتهديد بالقتل. لأنه شارك في إنتاج فيلم عن القضية الفلسطينية اسمه “أميرة”.
و”أميرة” هو فيلم فلسطيني أردني مصري. وواحد من الأعمال العربية المشتركة النادرة التي تتناول القضية الفلسطينية. تحول صناعه بين يوم وليلة. المخرج محمد دياب والممثلين صبا مبارك وعلي سليمان وصالح بكري وغيرهم إلى مطاردين مهددين بسبب جماعة لا أنزل الله بها من سلطان اسمها “الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال”. تتحدث باسم السجناء الفلسطينيين، أصدرت بيانا ضد الفيلم (المرشح باسم الأردن لأوسكار أفضل فيلم دولي) يتهم صناعه بالإساءة إلى “أعظم ظاهرة في التاريخ الحديث” وهي “النطف المحررة”.
الثقافة الفلسطينية
ولمن لا يعلم فإن هذه الظاهرة العظيمة تتمثل في قيام الزوج الأسير بإرسال حيواناته المنوية لزرعها في رحم زوجته لتنجب منه دون جنس. وقد طالب البيان نقابات الفنانين وذوي الاختصاص في الأردن ومصر ووزارة الثقافة الفلسطينية بسحب الفيلم ومعاقبة جميع من شارك فيه. واعتبر البيان أن كل من شارك في هذا العمل “شخصيات غير مرغوب بها في فلسطين وأي مكان يتعاطف ويقف مع قضيتنا”. وأن الشخصيات المذكورة مطلوبة للملاحقة الأخلاقية والقانونية.
وأخيرا يطالب البيان كل من شارك بالإنتاج والإخراج والتمثيل والتسويق لهذه الجريمة (الفيلم). بإعلان التوبة والاعتذار العلني للأسرى و”سفراء الحرية” (النطف المهربة) وعوائلهم ولشعب فلسطين ومحبيه”.
سحب الفيلم من الأوسكار
بمجرد إصدار البيان، منذ أيام، أعلنت الحكومة الأردنية أنها سحبت الفيلم من الأوسكار. وأصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية بيانا ضده. وقام مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بإلغاء عرضه. وسرت رعدة من الخوف والهلع بين العاملين في الفيلم وكل من ارتبط به بدرجة أو أخرى. وهكذا مرة أخرى، يثبت الشعب العربي الأصيل أنه يعشق المنع والقمع ويستمتع بممارسة القهر على نفسه أكثر من محتليه وحكامه.
مع احترامنا لكفاح الأسرى والسجناء وكل الشعب الفلسطيني. فليس من حق جهة ما، مهما كانت “قدسية” وجلالة اسمها أن تجعل من نفسها رقيبا على الإبداع وحرية التفكير. سواء باسم الدين أو الوطنية أو جمعية الأسير.
لقد كنت من أوائل الذين انتقدوا فيلم “أميرة” في مقال سابق تحت عنوان “فيلم «أميرة» لمحمد دياب: فكر خجول، وشجاعة مرتبكة!”.
النقد والمنع
لكن النقد شيء والمنع شيء آخر لا تفهمه العقلية العربية الأصيلة. وكالعادة كان يمكن استغلال فيلم “أميرة”، بل “عيوبه” و”أخطاءه الفنية” وحتى”جرائمه الوطنية”. إذا صحت الاتهامات السابقة، لتصحيح معلوماته ومفاهيمه الخاطئة التي لابد أن تكون منتشرة خارج وداخل الأوساط الفلسطينية. خاصة وأن كثيرا من صناع الفيلم فلسطينيون. وكان يمكن استغلال الفيلم للدعاية لـ”أعظم ظاهرة في العصر الحديث” ولقضية الأسرى بشكل عام. وللقضية الفلسطينية بشكل أعم. ولكن، مرة أخرى، يتسبب هوس وغباء المنع في الإساءة لكل هؤلاء (أبناء النطف المهربة، الأسرى، الفلسطينيين) أكثر من أي فيلم يمكن أن يصنعه إنسان. فما بالكم بفيلم صنعه رفاق نضال وأصدقاء درب وليس أعداء (قبل أن يحولهم البيان ومن ارتعشوا منه إلى أعداء).
قضايا الحسبة
مرة أخرى تعود “قضايا الحسبة” تحت مسمى آخر: الجماعات التكفيرية، المحامون، النقابات الفنية، المذيعون والإعلاميون، وجمعية “الحركة الأسيرة”. ولكن أكثر ما يحزن في الأمر هو بعض الفنانين، الذين يفترض أن يكونوا أول من يدرك معنى الفن وحرية التعبير، الذين انهالوا بالطعنات على زملائهم من صناع فيلم “أميرة” في حوارات صحفية وتليفزيونية. ربما بدافع الغيرة وربما بدافع النفاق، وربما بدافع الفهم القاصر للوطنية.
يعتقد البعض أننا يجب أن نناصر فقط الأفلام التي نحبها. أو أن الدفاع عن فيلم يعني أننا نتفق على كل ما جاء فيه. لقد انتقدت فيلم “أميرة” بقسوة، ولكنني اليوم أتضامن مع صناعه بمنتهى القوة!
اقرأ أيضا
فيلم «أميرة» لمحمد دياب: فكر خجول، وشجاعة مرتبكة!