طرق الحج في مصر

كانت محافظة قنا ملتقى الحجاج المصريين والوافدين من بلاد المغرب العربي، من الوادي الجديد وأسوان لمدة 200 عام، كما اشتملت على طرق سير الحجاج، واحتوت على أهم محطات الاستراحات التي اتخذها الحجاج خلال رحلتهم.

لم تكن مشقة الحجاج قديما قاصرة على مناسك الحج التي يقومون بها في الأراضي المقدسة والحرم المكي الشريف فقط، بل كانت أهوال المشقة تبدأ قبل الحج بقرابة 20 يومًا وقد تزيد، إلا أن القلوب المحبة لا تعرف للمشقة سبيل مهما كانت الصعاب ولو كانت نهاياتها هلاك، وفق ماذكره الدكتور عطية القوصي، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة.

يقول القوصي لـ”باب مصر”، إن رحلة الحج كانت لها طرق وكلها مخاطر ومتاعب قوافل الجمال تتعرض للاعتداء، بالإضافة إلى مشقة الطريق، وعواصف البحر الأحمر ودواماته البحرية وهجوم القراصنة أحيانًا، فالحجاج كانوا يصطحبون معهم أكفانهم تحسبًا للقاء حتفهم في أي وقت، أما طرق الحجاج بمصر كالتالي:

خريطة للطريق البحري للحجاج قديمًا- أمدنا بها الدكتور إبراهيم الدسوقي
خريطة للطريق البحري للحجاج قديمًا- أمدنا بها الدكتور إبراهيم الدسوقي

طرق الحج

الحجاج القادمون من شمال إفريقيا والأندلس يأتون إلى الاسكندرية عن طريق البحر التوسط، ثم إلى بورسعيد، ومنها من خلال الجمال إلى السويس ومنها إلى ميناء عيذاب عن طريق البحر الأحمر، لافتًا أن ميناء عيذاب مواجهًا لميناء أو ساحل جدة من الجهة الأخرى في الأراضي الزراعية.

وكان الحجاج يركبون مراكب ذات صفات معينة من ميناء عيذاب تسمى “جلاب”، مصنوعة من نباتات معينة جوز هند وورق جوز هند تناسب طبيعة البحر الأحمر، لأن مياه البحر لا تناسبه المراكب المصنوعة من المسامير إلى ميناء جدة.

وعن طريق العودة، من الممكن من نفس الطريق السابقة أو عن طريق سوريا ثم الأوردنية، وهذا الطريق آمن.

فيما يؤكد الدكتور إبراهيم دسوقي، أستاذ الجغرافيا ووكيل كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي، أن هذا الطريق من أهم طرق مصر الخارجية التى ربطت مصر خارجيا عبر شبه جزيرة سيناء، وكانت أهميته تكمن في الناحية الدينية كأهم طريق للحج عبر الأراضى المصرية، حيث كان يخدم فى المقام الأول قوافل الحج السنوية والعمرة الرجبية.

ويضيف، كما استغل الطريق منذ بداية الفتح الإسلامي لمصر حتى انتهى دوره تماما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تحديدًا عام 1885، وإن تغيرت وظيفته من الوظيفة الدينية إلى أخرى عسكرية فترة طويلة من القرن السادس الهجري حتى أوائل العصر المملوكي أي مدة تزيد على قرن ونصف القرن، ثم عاد مرة أخرى لوظيفته الأساسية كطريق حيوي ومهم لرحلات الحج من العاصمة المصرية إلى الأراضي المقدسة عبر شبه جزيرة سيناء.

وكانت بداية الطريق من القاهرة المعزية وحتى عجرود “بالسويس”، وطول هذه الرحلة حوالي 150كم، أما المرحلة الثانية ما بين عجرود و نخل “وسط سيناء” ويبلغ طولها أيضا حوالي 150 كم، ثم المرحلة الأخيرة ما بين نخل وعقبة أيلة “على رأس خليج العقبة” ويبلغ طول هذه المرحلة حوالي 200كم.

وهذه المراحل الثلاثة كانت تًقطع كل مرحلة منها في نحو 3 أيام في رحلة الحج، أي قرابة 9 أيام من القاهرة المعزية حتى عقبة آيلة على رأس خليج العقبة.

خريطة للطريق البري للحجاج قديمًا- أمدنا بها الدكتور إبراهيم الدسوقي
خريطة للطريق البري للحجاج قديمًا- أمدنا بها الدكتور إبراهيم الدسوقي

البري

يعاود الدكتور القوصي، أستاذ التاريخ الإسلامي، الحديث عن طرق الحج أنه بعد استيلاء أرناط أثناء الحروب الصليبية على حصن بالأردن يسمى الكرك، وكان يمنع الحجاج القادمين من الشرق من المرور من هذا الطريق، تم التحايل من قبل الحجاج لسلك طريق آخر وهو النيل إلى قوص ومن هناك يتم ركوب إبل إلى ميناء عيذاب بالبحر الأحمر، وينتظروا الريح و يستخدمون المراكب الشراعية.

وأشار القوصي، إلى أن الطريق شاق وخطر، كان فيه قطاع طرق وقراصنة من البحر الأحمر، ومنهم من كان يموت أو يعتدوا عليه ويستولوا على أموالهم، إلا أن قضى صلاح الدين على أرناط وفتح طريق الشام لمصر الطبيعي.

ويذكر أنه زادت أهمية طريق “قوص- عيذاب” في نظر عديد من الرحالة الذين مروا به أو المؤرخين الذين كتبوا عنه، فقد أشار الرحالة “ابن جبير” له في عام 1217م، فالطريق إلى عيذاب من قوص موضعين أحدهما يعرف بطريق العبدين وهي أقصر مسافة، والطريق الآخر من دوية قنا ومجمع هاتين الطريقين على مقربة من ماء دنقاش، ووفق ابن جبير هذا الطريق حاولنا إحصاء القوافل الواردة والصادرة فلم يمكن لنا، لا سيما القوافل العيذابية المحملة بسلع الهند الواصلة إلى اليمن ثم من اليمن إلى عيذاب وأكثر ما شهدناه أحمال الفلفل وقد خيل إلينا لكثرته أنه يوازى التراب قيمته، ومن عجيب ما شهدناه بالصحراء أنك تلتقي بقارعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذا السبيل.

كما ذكره المقريزي عام 1442م، عبور الحجاج وكذلك تجارة الهند واليمن والحبشة يردون بحر عيذاب، ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص ومنها يردون مدينة مصر، فكانت هذه الصحراء ولا تزال عامرة آهلة بما يصدر أو يرد من قوافل التجار والحجاج.

 ابن جبير

يذكر قبل 802 سنة “ابن جبير” عن طرق الحج في رحلته إلى الأراضي المقدسة “مكة المكرمة” للحج، أن من عدل السلطان صلاح الدين إزالته رسم المكس المضروب وظيفة على الحجاج من دولة العبيديين، حبث كانوا يلاقوا الحجاج من الضغط في استدانتها عنتًا ومجحفًا، وبدأت الرحلة الأحد 6 محرم 579 هجريًا و 1مايو عام 1183م في الصعود إلى النيل قاصدين الصعيد مدينة قوص.

والطرق في طريقنا متصلة في شطي النيل والبلاد الكبار فمنها “أسكر- وميامنًا مبنية أنصنا، وجبل المقلة، ومنفلوط بمقربة من الشط الغربي للنيل، مدينة أسيوط، أبي تيج، أخميم، منشأة السودان على الشط الغربي من النيل وهي قرية معمورة، البلينة، دشنة، دندرة، مدينة قنا، ووصلنا قفط”، وهنا انتهت الرحلة النهرية بعد أن مر 18 يومًا، ثم قوص يوم الخميس 24 محرم و19 مايو، وأقمنا في فندق ينسب لابن العجمي بالمنية وهي مساكن وبيوت خارج المدينة.

ويستفيض الدسوقي وفق المقال الذي أمدنا به، أن ابن جبير قطع هذه الرحلة فيما بين قوص وعيذاب في تسعة عشر يوما، إذ كان خروجه من قوص يوم 6 يونيو 1183م، ووصل عيذاب يوم 25 من ذات الشهر.

وساعدت الأوضاع السياسية فى ازدهار دورهم بطريق الحمامات خلال هذه المرحلة، حيث هجرت الطرق الشمالية فى مصر والتى كانت تمثل المنافسة الرئيسية لطريق الحمامات وذلك بسبب الاحتلال الصليبي لأيلة وتهديدهم سبل التجارة فى الحوض الشمالي للبحر الأحمر، لذلك نال طريق قوص- عيذاب اهتماما متزايدا من قبل الولاة والحكام.

ويذكر ابن سعيد المغربي: “القصير فرضة قوص المشهورة على بحر القلزم، حيث تسافر منها مراكب الحجاج والتجار إلى الحجاز واليمن”، ويضيف المقريزي “وأعلم أن حجاج مصر والمغرب أقاموا زيادة عن مائتى سنة لا يتوجهون إلى مكة شرفها الله تعالى إلا من صحراء عيذاب”.

فكانت قوافل الحجيج ترد من بلاد المغرب وشمال أفريقيا إلى مصر ومنها إلى الحجاز عبر قوص  -عيذاب أو قوص- القصير كما ذكر كل من ابن سعيد والمقريزى، وكان للحملات الصليبية فيما بين (1050-1268م) وتهديدهم لسبل التجارة الشمالية واستيلائهم على “أيلة” ميناء خليج العقبة (1116م)، مما أدى إلى قطع الطريق البرى بين مصر والشام والحجاز، فانعكست هذه الظروف على رواج للطريق الجنوبى بصعيد مصر واستغلال الحجاج والتجار له لبعده عن الخطر الصليبى.

بقايا منازل قديمة استراحة للحجاج بقرية الكرنك- تصوير: مريم الرميحي
بقايا منازل قديمة استراحة للحجاج بقرية الكرنك- تصوير: مريم الرميحي

المقريزي

من ضمن طرق الحج جاء “قوص-عيذاب” فيقال أستاذ التاريخ الإسلامي، إنه بلد فقيرة المياه وآبارها مالحة، ولا يوجد بها زرع وكان تفقد المياه فيهم بالأربع أيام، وهي قطعة من العذاب خاصة لو تخر الريح على الحجاج واضطروا للمكوث بها فترة أطول.

عيذاب

يذكر المقريزي عنها في مخطوطاته قبل 577سنة، أنهم يركبون الإبل من قوص ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب، ثم يركبون البحر في الجلاب إلى جدة ساحل مكة، وكذلك تجارة الهند واليمن والحبشة يردون بحر عيذاب ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص ومنها يردون مدينة مصر، كانت هذه الصحراء ولا تزال عامرة آهلة بما يصدر أو يرد من قوافل التجار والحجاج، حتى أن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها، والقفول صاعدة وهابطة، لا يعترض لها أحد، إلى أن يأخذها صاحبها.

وظلت مسلكًا للحجاج في ذهابهم وإيابهم، زيادة على 200 عام ومن 450 إلى 660، وذلك منذ أن كانت الشدة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر وانقطاع الحج في البر، إلى أن كسا السلطان الملك الظاهرة ركن الدين بيبرس البندقداري الكعبة وعمل لها مفتاحًا ثم أخرج قافلة الحاج من البر في سنة 666 فقل سلوك الحاج لهذه الصحراء.

واستمرت فقط بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص حتى بطل بعد 760، تلاشى أمر قوص حينئذ، هذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب 17 يومًا، ويفقد فيها الماء من 3 إلى 4 أيام متتالية.

“عيذاب” مدينة على ساحل بحر جدة، وهي غير مسورة، وأكثر بيوتها أخصاص، وكانت من أعظم مراسي الدينا، بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها، صارت جدة أعظم مراسي الدنيا، وكذلك هرمز فإنها مرسى جليل.

وكان الحجاج يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالاً عظيمة، لأن الرياح تلقيهم في الغالب بمراس في صحاري بعيدة مما يلي الجنوب، فينزل إليهم التجار من جبالهم فيكارونهم الجمال، ويسلكون بهم على غير ماء، فربما هلك أكثرهم عطشًا وأخذ التجار ما كان معهم، ومنهم من يصل ويهلك عطشا، من سلم يدخل إلى عيذاب كأنه نشر من كفن، وقد استحالت هيئاتهم وتغيرت صفاتهم.

وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي، منهم من يساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب وهو الأقل، وجلباتهم التي تحمل الحجاج في البحر لا يتسعمل فيها مسمار ألبته، إنما يحيط خسبها بالقنبار وهو متخذ من شجر النارجيل ويحللونها بدسر من عيذاب النخيل، ثم يسقطونها بسمن أو دهن الخروع أو دهن القرش، وهو حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى، وقلاع هذ الجلاب من خوص شجر المقل.

ولأهل عبذاب في الحجاج أحكام الطواغيت، فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناسحتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصًا على الأجرة، ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر، بل يقولون دائمًا: علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح.

أما الاستراحات كانت على نظام الخرز، كانت محدودة وأهلية يتطوع بها الأهالي البدو أو القبائل العربية، يقضوا للحجاج ما يريدون حتى يصلوا لميناء عيذاب، ومن الاستراحات التي يعرفها أهالي قنا ومنها ما تم ضمها للآثار الإسلامية والقبطية مثل استراحة قرية الكرنك بمدينة أبوتشت شمالي قنا، وأخرى لم يتم ضمها مثل استراحة قرية بئر عنبر بقفط.

منطقة اثارية بقرية الكرنك استراحة للحجاج - تصوير: مريم الرميحي
منطقة آثارية بقرية الكرنك استراحة للحجاج – تصوير: مريم الرميحي

الكرنك

مساحة شاسعة تتخطى 100 فدان تكسوها رمال مخلوطة ببقايا أواني فخارية، تتخللها منازل قديمة يتخطى عمرها مئات السنين، مازال بعضها يحتفظ ببعض الرسومات الملونة للكعبة والجمال وزخارف أخرى مبهجة، يتوسط المكان قرية نجع تركي، إحدى توابع قرية الكرنك، التابعة بدورها لمركز أبوتشت، شمالي قنا، مستحوذة على ثلاث أرباع القرية فيما يُعرف بين الأهالي بمنطقة الخرابة.

تُقدر مساحة منطقة “الخرابة” بـ167 فدانًا و22 قيراطًا و21 سهمًا، على الحافة الشرقية للهضبة الجبلية التي تحد المركز من الناحية الغربية مجاورة لقرية الكرنك من الجهة الجنوبية، وفق الخريطة المساحية للمنطقة الصادرة من الهيئة العامة للمساحة المصرية 1904، وسجلت هذه المنطقة ضمن الآثار المصرية لقطاع الآثار الإسلامية والقبطية في 29 سبتمبر 1984 بناءًا على القرار رقم 1686.

استراحة الحجاج من الداخل بالكرنك- تصوير: مريم الرميحي
استراحة الحجاج من الداخل بالكرنك- تصوير: مريم الرميحي

ويذكر محمود عبدالوهاب، مدير هيئة الآثار الإسلامية والقبطية بنجع حمادي، أن لموقع قرية نجع تركي أهمية كبيرة كمدينة تقع على طريق الدرب الأربعيني، وكانت تعد إحدى الاستراحات الهامة بطريق الحج والتجارة القادمة من الوادي الجديد، ولأهمية هذا الطريق قامت الحكومة المصرية بمد خط سكة حديد به.

ويضيف عبدالوهاب، أن الطريق كان يسلكه أيضًا القوافل التجارية من الفاشر بالسودان وحتى أسيوط، مستغرقة 40 يومًا، مشيرًا لاحتواء القرية على مباني وأساسات مختلفة لأنماط من الوحدات السكنية، والاستراحات، ومخازن حفظ الغلال، كما يوجد بها بعض الرسومات الملونة للكعبة والجمال والجبل المرسومة بالجير الملون، وتعطينا مخطط تفصيلي يمكن دراسته من خلاله هل كانت هذه المباني هي النمط المعماري السائد في صعيد مصر خلال العصر العثماني أم لا.

بقايا اواني فخارية بمنطقة اثار استراحة الحجاج بقرية الكرنك- تصوير: مريم الرميحي
بقايا أواني فخارية بمنطقة آثار استراحة الحجاج بقرية الكرنك- تصوير: مريم الرميحي

اقرأ أيضا

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر