قبل الكارثة.. جرد أولى لـ مقابر القاهرة التراثية المهددة

تتواصل أعمال الهدم في جبانات القاهرة خصوصا ترب الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وسيدي جلال، لإنشاء مجموعة مشاريع استثمارية، وهي الموجة الثانية من هدم المقابر بعد الموجة الأولى التي طالت ترب الغفير بالدراسة في 2020.  ومع غياب الإعلان الرسمي عن مسار عمليات الهدم والمقابر التي ستزال في الفترة الحالية. ارتفعت أسهم بورصة التكهنات حول المقابر والأحواش التي قد تزال، خصوصا أن بعضها يمثل ثقلا تاريخيا وتراثيا لشخصيات عامة من عصر أسرة محمد علي، أو لمقابر لشخصيات عامة تركت بصمتها على الحياة المصرية سواء في مجالات الفن أو الفكر أو غيرها من المجالات التي شكلت قوة مصر الناعمة، هنا نرصد أشهر هذه المقابر لعل الحكومة تنتبه لها وتحافظ عليها بعيدا عن منطق الهدم الذي يطيح بجزء عزيز من ذاكرة هذا الوطن.

***

الرصد الذي نقوم به هنا هو رصد أولي ويحتمل الزيادة، إذ يقوم على جهود مجموعة من المهتمين بتسجيل وتوثيق مقابر القرافة بجهود ذاتية من أمثال مصطفى الصادق وإبراهيم طايع وعمر النعماني ومحمد شافعي وغيرهم ممن يعملون على التوثيق الدوري لهذه المقابر، والتنبيه على أهميتها وأهمية من دفن فيها، إذ تغيب عمليات التوثيق عن جبانات القاهرة بشكل أساسي، لذا تكتسب هذه الجهود أهمية استثنائية حتى لا تتعارض خطط التطوير الجارية مع تراث هذه الأمة قد يتعرض للإزالة والمحو إذا لم ننتبه لما في المقابر من قيم متعددة الأبعاد سواء على المستوى التراثي والأثري والفني والحضاري والثقافي، فيمكن من خلال هذا الحصر المبدئي أن نلغي مشروع الهدم ونعمل على الاستفادة من هذا المقابر ذات التراث البديع في مشاريع استثمار سياحي.

وبينما تم نقل رفات الأديب الكبير يحيى حقي لمقبرة في العاشر من رمضان، أنقذت مقبرة عميد الأدب العربي في آخر لحظة، وإن جردت المنطقة من المقابر حول مقبرة العميد، وأقيم كوبري فوق المقبرة بما يهدد سلامتها مستقبلا، كما أزيلت عدة مقابر مهمة في منطقة مقابر الشافعي، منها مقبرة الخطاط الشهير عبد الله بك الزهدي، وحسن أفندي الليثي، رسام كسوة الكعبة المعظمة، وقبر عشق بريان معتوقة الخديو إسماعيل، ومقبرة عبد الحميد باشا صادق، رئيس البرلمان المصري في عهد الخديو عباس حلمي الثاني. ورغم فداحة الخسارة إلا أن القادم أكثر رعبا، لأن الكثير من المقابر التي تحمل قيمة تراثية وتاريخية كبرى، مهددة بالإزالة في ظل غموض التحركات الحكومية واستخدام عمال غير مدربين على العمل في مناطق ذات طبيعة تراثية هشة.

***

المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قال في بيان صدر في 30 مايو المنصرم، إنه تم إخطار حراس عدد من المقابر المهمة بقرار إزالتها و”منها: حوش محمد راتب باشا السردار، حوش عائلة العظم السورية، الفريق إسماعيل سليم باشا، رشوان باشا عبدالله، البرنس يوسف كمال، نشأت دل قادن زوجة الخديوي إسماعيل، علي باشا فهمي، محمود سامي البارودي، أحمد شفيق باشا، إبراهيم الهلباوي، محمد محمود باشا، بل وتم وضع علامات تفيد بذلك على الجدران الخارجية لبعض هذه المدافن”، وذلك رغم صدور قرار وزير الإسكان في نهاية مارس الماضي بإضافة 85 مدفنا بنطاق حي الخليفة والمقطم ومنها تلك المدافن المهددة بالإزالة، بينما قدم إبراهيم طايع، المعني بتوثيق القرافة، قائمة تضم 24 مدفنا مهددة بالإزالة.

ومن أشهر المقابر المهددة بالإزالة حوش محمد راتب باشا سردار الجيش المصري في عهد الخديو إسماعيل، وزوجتيه، وهي مقبرة ذات جمال استثنائي تأسر كل من يدخلها بروعة الفنون المستخدمة فيها، من أسفلها حتى السقف الذي يحتاج إلى بعض الترميم ليستعيد كامل جماله وبهائه، أما شواهد القبور نفسها فهي تحفة معمارية تستحق العناية والترميم لأن المياه الجوفية مع الإهمال نالت من هذا التراث الذي يستحق أن يسجل في قوائم الآثار المصرية لا أن نفكر مجرد تفكير في هدمه وإزالته من الوجود، بينما تردد أن قبر ورش صاحب الرواية عن الإمام نافع لإحدى القراءات المعتمدة للقرآن الكريم، وهو مدفن يعود لأكثر من 1200 عام، ويجب العمل على الحفاظ عليه كأثر مهم لشخصية مهمة يكشف عن مشاركة مصرية في التراث الإسلامي.

***

ومن المقابر المهددة بالإزالة مقبرة آل العظم أو حوش فاطمة برلنتي هانم، والذي يضم رفات حقي العظم أول حاكم لدولة دمشق بين عامي 1920 و1922، ثم عين رئيسا لمجلس الشورى في دولة سورية كما عين رئيسا للحكومة، وظل يتنقل بين المنصبين حتى غادر سورية إلى مصر واستقر بالقاهرة منذ العام 1938 حتى وفاته 1955، حيث دفن في المقبرة التي تحتوي على قبر المؤرخ رفيق بك العظم المتوفى سنة 1925، صاحب مجموعة من الكتب التي شارك بها في النهضة الأدبية التي عرفتها مصر وقت ذاك، ومنها كتابه (أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة) وكتاب (البيان في أسباب التمدن والعمران)، وأهمية حوش فاطمة برلنتي في أنه يكشف عن مظهر من مظاهر التواصل الحضاري بين الشام ومصر، فقيمة هذا الحوش لا تقتصر على روعة شواهده التي تحتوي على فنون زخرفة وخطوط كتابة بديعة، بل تمتد لرمزية العلاقة بين مصر والشام.

من جهته، قال عمر النعماني، أحد القائمين على توثيق معالم جبانات القاهرة، لـ “باب مصر”، إن واقع الجبانات حاليا ينقسم إلى قسمين الأول مقابر تم إزالتها مثل مقبرة الخطاط الشهير عبد الله الزهدي، الذي تزين أعماله الخطية الحرمين الشريفين، وسبيل أم عباس بالصليبية، وجامع الرفاعي، كذلك تم إزالة قبر عشق بريان معتوقة الخديو إسماعيل، كما نجد قبر الشهيد عباس أفندي المقتول برصاص قوات الاحتلال البريطاني في أحداث ثورة سنة 1919م، الذي يقف وحيدا الآن بعد إزالة كل ما حوله من مقابر، ولا نعرف مصيره هل سيدهسه البلدوزر أم سيتم الإبقاء عليه وحيدا ينعي شواهد القبور التي غابت من حوله، أم هل سينقل إلى ميدان عام ويطلق اسمه على ميدان عام مثلا.

عباس أفندي شهيد ثورة 19- تصوير: عمر النعماني
عباس أفندي شهيد ثورة 19- تصوير: عمر النعماني
***

أما القسم الثاني من واقع المقابر فهو بحسب النعماني، يضم العدد الأكبر من المقابر التي يخشى عليها من الإزالة لما لها من قيمة تراثية رفيعة المستوى، منها حوش محمد راتب باشا سردار الجيش المصري سابقًا والمتوفى سنة 1920. كذلك مقبرة الأمير يوسف كمالمؤسس مدرسة الفنون الجميلة في العام 1905 وجمعية محبي الفنون الجميلة العام 1924، ومن المقابر التي يخشى عليها من الإزالة مقابر إسماعيل صدقي باشا، رئيس الوزراء السابق، وشاعر الإحياء محمود سامي البارودي، وعلي باشا فهمي، والمؤرخ الحولي أحمد باشا شفيق، ومحمد محمود باشا رئيس الوزراء السابق، ومخطط القاهرة علي مبارك، والشاعر حافظ إبراهيم، والإمام ورش.  ويتابع النعماني: “وغيرها الكثير من المقابر لأن القرافة تضم الكثير من الكنوز التي يجب الحفاظ عليها وهو دور وزارة الآثار التي نضع كل جهودنا وما قمنا به في خدمتها لأن هذا كله تراث مصر الذي نسعى جميعا للحفاظ عليه”.

تركنا عمر النعماني ومجموعة من المصريين المحبين لتراث هذا البلد يعملون على توثيق ما يقدرون عليه من تراث القرافة البديع، وفي العقل سؤال كبير حول مصير كل هذه التحف ذات الجمال الاستثنائي التي تزين الجبانات المصرية ومصيرها. فما تم إزالته لن يعود. لكنه جرس إنذار بأن قائمة ضحايا الإزالات المحتملة يجب أن تتوقف. فإذا واصل البلدوزر رحلة الهدم بدون عقل، فإن ما ينتظرنا هو مذبحة في الجبانات، ضحيتها الأولى تاريخ هذا البلد وتراثه الذي إذا ضاع بعض صفحاته فلن تعود مرة أخرى أبدا.  وستترك لنا لوحة عار لكل من شارك في هذه المذبحة إذا وقعت الواقعة.

اقرأ أيضا:

«حوائط القرافة».. خبايا تاريخية تنتظر التنقيب

هشاشة القرافة.. لعنة التاريخ ورسائل الحكومة

أسفار الجبانة.. شهادات تاريخية تدين المحو الحكومي

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر