فنان الواحات «أحمد سعداوي»: الرسم بريشة النار
من النحت على الأحجار وجذوع النخيل إلى الرسم باستخدام «ريشة النار»، 8 سنوات قضاها أحمد سعداوي محمد، ابن واحة الداخلة بالوادي الجديد، في تطوير موهبة الرسم لديه، إذ تخرج في كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1992، ويعمل أخصائيا اجتماعيا بإحدى المدارس، إلا أن الرسم حياة خاصة يعتبرها متنفسه الوحيد.. «باب مصر» يتعرف على قصته.
البدايات في الواحات
أخذ سعداوي على عاتقه توثيق مظاهر الحياة القديمة في الواحات من عادات وتقاليد وموروثات شعبية، استخدم في البداية الأحجار وجذوع النخيل، والآن فرشة النار، ويقول عن بداياته: اكتشفت موهبتي في الرسم منذ المرحلة الابتدائية، إذ شجعني مدرس الرسم حينها كثيرا، كنت ارسم مظاهر الحياة حولي مثل النخيل والجبال والبيوت والحيوانات، كما كنت أحب جميع المواد التي بها رسومات مثل الجغرافيا والعلوم والأحياء.
وتابع: ظل حب الرسم ينمو بداخلي برغم عدم ممارستي له بصفة مستمرة، حيث كنت أتوقف لسنوات ثم أعود إذا ما واجهتني مشكلة ما، الرسم هو المتنفس لي، وبعد أن أنهيت المرحلة الثانوية كنت أرغب في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، لكنى لم أجد تشجيعيًا من أحد حولي سواء الأهل أو الأصدقاء، لذا التحقت بكلية الخدمة الاجتماعية بجامعة الإسكندرية، ولحبي للرسم قمت برسم سجادة على أرضية الحجرة التي كنت أسكن فيها بالمدينة الجامعية بألوان الباستيل، بلغت من الحقيقة أنه من كان يدخل الغرفة يخلع حذائه ظنا منه أنه سجادة حقيقة.
توثيق التراث
بدأ سعداوي في استخدام خامات البيئة مثل جذوع النخيل وغيرها، فيقول: بعد تخرجي ظللت فترة كبيرة لا أعمل بالفن، ثم راودني الحنين عندما جاءت إلي فكرة توثيق العادات والموروثات وأشكال الحياة بالواحة وخاصة القديمة منها، فمنها ما هو باق ومنها ما اندثر، وبدأت في استخدام الأحجار من خلال النحت على الحجر الجيري وتشكيله، متأثرًا بالفن الفرعوني، ولم يكن لدي أدوات للنحت واستخدمت ما كان متوفر لدي من أدوات مثل سكاكين المطبخ، وقمت بتوثيق منازل الواحات المعروفة بالسقيفة من خشب النخيل أو السنط، كما تناولت منحوتات للسيدات بالواحة وهن يمارسن أعمالهن اليومية، مثل خض اللبن بواسطة القربة، ملء المياه من الآبار باستخدام أواني فخارية، عادات مثل ختان الإناث والذكور، وغيرها من عادات لا توثقها الصور الفوتوغرافية، واستمرت تجربتي في النحت على الحجر لمدة قصيرة لصعوبة العمل عليه.
يكمل سعداوي: استخدمت أيضًا جذوع النخيل المتوافر بكثرة بالواحة فقمت بتشكيل جذوعه كأثاث يستخدم مثل الكراسي والمناضد، ونال إعجاب العديد من السائحين عند عرضها بإحدى القرى السياحية، وكتبت عنها إحدى الصحف الروسية وقتها.
ريشة النار
الصدفة وحدها هي من قادت سعداوي لاستخدام فرشة النار وعمل لوحات بطريقة الحرق، فيقول: لم أكن أعلم شيء عن فن الرسم بالحرق، وفي يوم ما جاء أحد الأصدقاء وهو يحمل بين يديه آلة أو ماكينة كان أحد أقاربه أهداها له، لكنه لا يستخدمها ولمعرفته أني أحب الرسم والفن، أحضرها لي وهو لا يعلم عنها شيئا هو الآخر سوى أنها تستخدم في اللوحات الفنية، ظلت تلك الماكينة قرابة الشهر في علبتها لم أفتحها، ثم قررت التعرف على تلك الآلة، وفتحتها وبدأت تجريبها على قطعة من الخشب صغيرة.
«أتخطفت وحسيت بسعادة كبيرة» هكذا يصف سعداوي شعوره الأول عن استخدامه ريشة النار، فيقول: تركت كل شيء وتفرغت للرسم بالحرق على الأخشاب، وأصبحت ريشة النار جزء لا يتجزأ مني، وقمت بتحويل منحوتاتي إلى صور من خلال الحرق، وأكثر ما أسعدني هو تقبل الناس لهذه الطريقة بمزيد من الإعجاب والتشجيع والاستمتاع، وهو ما جعلني أتفرغ وأبدع فيه، لاسيما أنه لا يستخدمه كثيرين.
واستمر سعداوي ما يقرب من 8 أعوام في تطوير فنه من خلال ريشة النار، حتى أنه رسم بورتريهات للعديد من الشخصيات العامة والوزراء ممن زاروا معارضه في الواحات وخارجها.
الحرق على الأخشاب
يتحدث الفنان عن ريشة النار ويقول: هي عبارة عن ما يشبه القلم الذي يحتوي على مجموعة من السنون التي تتغير حسب ما تحتاج إليه الرسمة أو الموضوع، متصلة بدائرة كهربائية، أما السنون فهي تشبه سلك السخان الكهربائي، ويمكن التحكم في درجة حرارتها حسب الحاجة، وأقوم بالرسم بشكل مباشر على اللوحة الخشبية دون تخطيط مسبق إلا في البورتريهات من الممكن أن أقوم بوضع بعض الخطوط الأساسية بالقلم الرصاص، وفي الغالب أقوم برسم اللوحة بشكل مباشر بواسطة ريشة النار وهو ما يحتاج لخبرة طويلة.
لم يكتف سعداوي بالحرق على الأخشاب بريشة النار، بل ابتكر أيضًا الحرق على القماش وهو صعب ودقيق للغاية، ويقول: استخدمت ريشة النار في الرسم بالحرق على قماش الكتان والقطن، كان الكثير يسألون هل أقوم بمعالجة القماش قبل استخدام الحرق، لكن الحقيقة أني لا أقوم بأي معالجة للقماش، فقط اعتمد على دقة يدي في ملمس القماش، حيث إن ثانية واحدة زائدة من الوقت قد تتلف قطعة القماش وتحرقها، لذا يجب التركيز التام وهو ما يجعلني أغلق مرسمي ولا أعمل في الحرق على القماش سوى بعد منتصف الليل حتى لا يقاطعني أحد، فخطأ واحد قد يهدر مجهود شهور، وتم عرض أول عمل لي بالحرق على القماش في مكتبة الإسكندرية، ضمن صالون النسيجيات في عام 2019، وكان العمل مستوحى من ثلاثية الأديب الكبير نجيب محفوظ، وهو عبارة عن سيدة جميلة من “العوالم” ترتدي “الملاية اللف”، وتخرج من برواز قمت بتنفيذه بطريقة الحرق أيضًا، وتكسر تحت أقدامها وورائها بضع طرابيش ملقاة على الأرض، وقمت بوضع وحدات من القرنفل الحقيقي تحت أرجلها على القماش، مستوحيًا استخدام النساء الفرعونيات للقرنقل لرائحته الذكية.
الظواهر الاجتماعية
يذكر سعداوي أن دراسته علم الاجتماع ساعدته في التعبير عن بعض الظواهر الاجتماعية من خلال لوحاته، فيقول: تناولت في لوحة على سبيل المثال “الفجوة بين الأجيال” وكان مضمونها رجل كبير السن يجلس مستندًا على جذع شجرة، لأن تلك الشريحة من المجتمع تعاني الوحدة، وفي المقابل له حفيده يجلس بزى عصري ويمسك هاتفه بيده ومبتعدًا عن الجد في فجوة كبيرة، كما صورت لوحة الصراع الذي يدور بداخل أبناء الواحة بين واقعهم اليومي المعاش وبين الحياة العصرية خارج الواحة، وكانت اللوحة باسم “شيزوفرينيا”، وفيها رسمت فتاتين ذات وجهين متصلين بثلاثة عيون.
الجداريات التراثية
يعمل سعداوي الآن في رسم الجداريات التي توثق تراث الواحات، ويقول: جاء مشروع الجداريات بدعوة من محافظ الوادي الجديد، فقد قام ببناء جداريات تم تخصيصها للفنون في مدخل الواحات، وقمت بتوثيق التراث الخاص بالواحات على تلك الجداريات، فرسمت الدروب والمنازل والسقايف القديمة، وتعطي هذه الجداريات لزائر الواحات فكرة عن طبيعة المكان وموروثاته.
ويتمنى الفنان أن تنتشر تلك الجداريات في مختلف الأماكن في مصر، فهي تخاطب جميع شرائح المجتمع، ويرى أنها تعمل على توصيل الفن لمن لا يرتادون قاعات الفنون والعرض الكبرى، كما يتمنى أن يشارك في عمل تلك الجداريات جميع الفنانين، بحيث يوثق كل فنان تاريخ وتراث منطقته كما فعل الفنان الفرعوني العظيم، مشيرا إلى أهمية أن ينتشر الرسم باستخدام تقنية ريشة النار، ويحلم بأن يكون لديه متحفًا صغيرًا يضم تاريخ الواحات وتراثها.
تعليق واحد