القاهرتان (15): هويتان وطنيتان

لم يكد القرن العشرون يبتديء حتى شهدت القاهرة نُمُوًّا غير مسبوق، سواء من حيث المساحة أو السكان. فبين عامي 1882، عام الاحتلال البريطاني، ونهاية الحرب العالمية الأولى، نما عدد سكان المدينة من 375000 إلى 791000 ثم إلى 1312000 في عام 1937 قبيل الحرب العالمية الأولى لتصبح المساحة المبنية في نفس السنة 3177 هكتارًا، يعني بزيادة قدرها 250% تمت خلال 55 سنة. تميزت فترة النمو بتحولات سياسية واجتماعية جمة: منها أنه خلال عهدي الخديو توفيق وخلفه عباس حلمي الثاني (1892-1914).

تركزت السلطة في يد المندوب السامي الإنجليزي، اللورد كرومر حتى عام 190 7، ومنها أن قامت حركة وطنية في مطلع القرن بقيادة الزعيم الشاب مصطفى كامل (1874-1908)، تمخض عنها أول حزب سياسي في مصر، الحزب الوطني، أخيرًا وبسبب دعمه للحركات الوطنية وانحيازه لتركيا في الحرب العالمية الأولى خلعت بريطانيا العظمى، عباس الثاني من منصبه واستبدلت به عمه حسين كامل (1914-1917) الذي تمت تسميته سلطانًا. منذ ذلك الحين، أصبحت مصر تحت الحماية البريطانية ولم تعد تتبع الدولة العثمانية التي سقطت على يد أتاتورك بعد سنوات معدودات. على أن هذه التغيرات كانت نتيجة لتحولات سياسية واقتصادية كبيرة محليًا وَدَوْلِيًّا حدثت ما بين 1867. تاريخ الزيارة الباريسية الشهيرة لإسماعيل التي نتج عنها إنشاء المدينة الحديثة وحتى بداية القرن العشرين. أوضحنا في الحلقات السابقة كيف أثرت الأزمة السياسية والاقتصادية، في نهاية عهد إسماعيل (1879)، على استمرار مشروعه الحضري الكبير.

***

ومنذ بداية القرن العشرين، ساهم في نمو القاهرة ظهور ضواح جديدة مثل مصر الجديدة، التي تأسست في صحراء شمال القاهرة في عام 1907، وكذا ضاحية المعادي في جنوب المدينة عام 1904. ووفقًا لأرنو. ارتبط نمو القاهرة أيضًا بـ«ديناميكية المضاربة في سوق الأراضي بشكل أساسي» لدرجة «التسبب في اتساع محيط المدينة». أدت الأزمة الاقتصادية عام 1907 في الولايات المتحدة إلى أزمة وضعت حَدًّا لعمليات للتنمية الحضرية». ومن ثم انخفضت أسعار الأراضي آخذة في وتوقفت مشاريع البناء متوقفة.

بعد مرور أزمة عام 1907، يقول أرنو: «لم تستأنف القاهرة نموها إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى». أصبحت صورة القاهرة بعد هذه الأزمة تعطي انطباعًا بأنها “مدينة غير متجانسة” لأنها تتكون، كما يقول أرنو، من “أجزاء مختلفة الأصل والطبيعة تجاور بعضها البعض”. تكونت هذه الصورة بفعل الظروف والتغيرات التي أسلفنا ذكرها وهي التي جعلت تطور المدينة لا يسير بصورة خطية صاعدة، لأن عمليات البناء والهدم التي نفذها القطاعان العام والخاص «كانت متغيرة للغاية وغير مستمرة».

بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وفي عهد السلطان فؤاد (1917-1922)، أرادت الحركة الوطنية بقيادة سعد زغلول المشاركة المصرية في مؤتمر باريس للسلام لعرض قضية الاستقلال. ورفض البريطانيون وتم نفي زغلول ورفاقه إلى جزيرة مالطا فاندلعت الثورة الشعبية في مارس 1919. بعد ثلاث سنوات، كان من ضمن مكاسب الثورة أن ألغيت الحماية البريطانية في عام 1922 وأن أعلن السلطان فؤاد نفسه ملكًا حتى وفاته في عام 1936. وكان منها أيضًا أن تضاعف الشعور القومي لدى المصريين ليتلخص في شعار «مصر للمصريين». وهو الشعار الذي تمخضت عنه حركة النهضة، التي أكدت فكرة العودة إلى الجذور مع فكرة التجديد الوطني.

***

عززت الحركة الوطنية حركة النهضة في عدة مجالات: في المجال الاقتصادي، رافقت حركة النهضة القومية جهود الاقتصادي طلعت حرب (1867-1941)، الذي بفضله تأسس أول بنك مصري في عام 1920. خلال نفس المرحلة، جدد الملحن والمغني سيد درويش (1892-1923) الموسيقى الشرقية وحررها من الصور النمطية القديمة، تطورت بفضله الأغنية المحلية حتى سماه المصريون فنان الشعب. كرست كتابات المفكر قاسم أمين (1863-1908) وجهود هدى شعراوي (1879-1947) للحركة النسوية المصرية هادفة إلى المطالبة بحقوق المرأة وبتحريرها. فيما يخص الحركة الأدبية، فتعد مساهمات أحمد شوقي الملقب بـ«أمير الشعراء» وحافظ إبراهيم الملقب بـ«شاعر النيل» الوفيرة خلال الثلث الأول من القرن العشرين مثالًا خالدًا لا سيما تناولهما لموضوعات اهتمت بالحضارة المصرية القديمة وكذا بارتباط مصر بالعالم العربي والإسلامي.

الشاعر حافظ إبراهيم
الشاعر حافظ إبراهيم

على المستوى المعماري، ارتبطت حركة النهضة وزيادة الشعور القومي بفكرة البحث عن طراز معماري «مصري». واتصل ذلك بالجدل حول الهوية المصرية المتذبذبة بين اللحاق الحداثة والانتماء للأصالة وهو الجدل الذي اشتبكت فيه أغلب الدوائر السياسية والمجتمعية إلى الحد الذي وصفه بيرك، أنه في ذلك الوقت «لا شيء أكثر حتمية، ولا شيء أكثر جدلًا من تحديد الهوية المصرية».

في عشرينيات القرن الماضي، دعا وزير الأشغال العامة محمد علي علوبة باشا (1875-1956) المهندسين المعماريين إلى مسابقة بخصوص طرق الحفاظ على الآثار القديمة. أدت هذه الدعوة إلى إنشاء لجنة متخصصة تتألف من العديد من المؤرخين المعماريين مثل كريسويل ووايت. في وقت لاحق، تحديدًا عام 1935، حدثت واقعة طريفة أن اقترح نفس الوزير- علوبة باشا- تدشين طراز مصري للمعمار أسماه «طراز فؤاد الأول». وفيما بعد عُقدت مؤتمرات من أجل مناقشة موضوع الهوية المصرية أو شخصيتها التقليدية، علق بيرك على المسألة بقوله «ولكن في هذه المرحلة وفي ظل هذا الغطاء من الأحداث نمت مشكلة خطيرة ابرزت في وقت واحد أحد أكبر الشرور في المجتمع المصري مثلما اخرجت أحد أكبر آماله: هذه المشكلة هي تحدي التساؤل عن الذات المجتمعية من داخلها».

***

وبغض النظر عن مبالغات بيرك، فقد أدت هذه المحاولات الحثيثة إلى ظهور طرز وطنية بالفعل، عبرت عن هوية مصر ذات الوجوه المتعددة. كان أبرز هذه الطرز نمطان سادا في الفترة مابين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي. النمط الأول هو الطراز الفرعوني المستحدث والمستوحى من العمارة المصرية القديمة. ويتميز بالضخامة مع استخدام عناصر مستوحاة من عمارة المعابد والمقابر المصرية القديمة، على هذا الطراز ظهر ضريح سعد زغلول ومبنى المحاكم المختلطة (دار القضاء العالي حاليًا) أما النمط الثاني، فهو مستوحى من العمارة العربية الاسلامية وعليه فقد ظهر للوجود مبنى بنك مصر الواقع حاليا في شارع محمد فريد، والمعهد العربي للموسيقى بشارع رمسيس.

فيما بعد، تم تعميم هذين النمطين حال تصميم المباني العامة وفقًا لقرار سياسي منسوب لوزير الأشغال العامة الوفدي عثمان محرم باشا: بحيث يتم تصميم المباني العامة الواقعة في شمال المملكة- حيث تتركز عواصم الفتح العربي لمصر- على الطراز العربي. بعكس المباني المراد تصميمها في الجنوب، حيث تقع معظم المعابد والمقابر المصرية القديمة. فتكون بذلك مخصص للطراز الفرعوني أو المصري القديم. إذا تحولت المسألة إلى إرادة سياسية تسعى– بحسب مرسيدس فوليه- إلى إنشاء «برنامج حكومي يخص المباني الرسمية ويحمل دلالات مهمة ناطقة بالانتماء الوطني». في هذا البرنامج، والكلام لفوليه: «كان من الضروري أن تحمل المباني الحكومية علامات الولاء للتراث المصري حتى ولو كانت النتيجة غير محسوسة أحيانًا».

اقرأ أيضا:

القاهرتان (14): تمييز صارخ

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر