الحكيمات.. حكاية أول مدرسة مصرية للفتيات

على خلاف ما يردده الكثير من المؤرخين، بأن المدرسة السنية التى أسسها الخديو إسماعيل عام 1873 كانت أول مدرسة للفتيات فى مصر، إلا أن الكثير من الدراسات الحديثة تذكر أن محمد علي باشا سبق تأسيس مدرسة عرفت باسم مدرسة الحكيمات (الضابطات الصحيات) وتحديدًا في عام 1832.

مدرسة الحكيمات

ذكر كتاب “أرواح في خطر، الصحة العامة، فى مصر فى القرن التاسع عشر”، لمؤلفه لافيرن كونكة، الذي يؤرخ لأحوال الصحة العامة في مصر بالقرن التاسع عشر، وترجمه الدكتور أحمد زكي أحمد: جاء الطبيب الفرنسي كلوت بك، إلى مصر عام 1825 وعرف عنه كفاءته العالية، فتم تعيينه من قبل محمد علي باشا رئيسا لأطباء الجيش المصري عام 1830، وهو الذي أنشأ مدرسة لتخريج الأطباء بجوار المستشفى العسكري في أبوزعبل، وكان أيضا صاحب فكرة تأسيس مدرسة لتدريب الفتيات للعمل كضابطات صحة “حكيمات”، يساعدن الأطباء في تطبيب المرضى، ودعم محمد علي تلك المدرسة، وقد كان التفكير في بداية إنشاء هذه المدرسة أن تعمل خريجاتها كقابلات كأحد الحلول لعلاج مشكلة موت الأطفال عند الولادة، وهو ما كان يتعارض مع رغبة محمد علي في زيادة السكان، حيث كان انخفاض عدد السكان يعطل مساعيه وجهوده للحصول على القوة العسكرية والاقتصادية التي يلزمها توفر الموارد البشرية الذي يتطلب في الأساس حماية الأم والأسرة.

كانت مدرسة الحكيمات ( الضابطات الصحيات) الأولى من نوعها كمدرسة أميرية تعليمية مخصصة للبنات في الشرق الأوسط، وكانت تجربة رائدة وغير مسبوقة، وقد أصدر محمد علي باشا موافقته على تأسيس المدرسة في عام 1832، وأطلق عليها في البداية مدرسة القابلات،  وتضمن المنهج الدراسي مواد عن رعاية الطفل والولادة، إلا أنهم استخدموا وصف أو مصطلح حكيمة على الطالبات لتميزهن عن القابلات الشعبيات غير المدربات واللائي يطلق عليهن لقب “الدايات.”

واجه كلوت بك عقبات كبيرة لإنشاء هذه المدرسة، لكن كانت العقبة الكبرى هي كيف يتم إقناع واستقطاب الطالبات للالتحاق بالمدرسة؟، حيث كان ينظر لتعامل الطبيب مع المريضة بشئ من العيب وفق تقاليد وممارسات سلوكية متجذرة، فكيف يسمح الآباء لبناتهن تلقي الدروس على أيدي مدرسين من الذكور، إضافة إلي أن العمل بعد التخرج سيكون بعيد عن أماكن عيشهن مع أسرهن، ولم يتحمل محمد علي باشا ما سيحدث إذا أمر بتجنيد الفتيات بالأمر، واقترح كلوت بك أن تكون الدفعة الأولى من طالبات المدرسة من الفتيات العبدات، وكان عددهم حينها ثماني طالبات سودانيات وحبشيات، وتم تخصيص ثلاثة من الرجال الخصيان لحراستهم، بالإضافة لتوفير شيخ كبير في السن لتعليمهم الكتابة والقراءة، وكان مقر وجودهم بجوار المستشفى العسكري خارج القاهرة في منطقة أبوزعبل، وتم بناء مستشفى صغير يضم 20 سريرًا لتدريب الطالبات بشكل عملي.

امتيازات كثيرة

انتقلت مدرسة الحكيمات إلى القاهرة مع انتقال مدرسة الطب في عام 1837، وتم إلحاق الحكيمات بجناح السيدات بالمستشفى الميداني، وكانت مدة الدراسة بالمدرسة 6 سنوات، تبدأ بسنتين في تعليم القراءة والكتابة، ثم أربع سنوات تدرس فيها الطالبات منهج دراسي نظري إضافة إلي الجانب العملي، وكلما تميزت الطالبة وبرعت في المستوى التعليمي، يتم ترقيتها وتقوم بتدريب الطالبات عمليًا وتشرح الدروس لطالبات الدفعة الأحدث.

كانت الدراسة بالمدرسة على نفقة الدولة، كما كانت الطالبات تحصل على الملابس والطعام والإقامة، وفي أول سنتين من الدراسة تحصل الطالبة على عشرة قروش كمصروف شهري، ثم تزيد إلى 35 قرشًا عند تقدم مستواهم التدريبي، وكان يصرف لكل طالبة في بداية العام الدراسي (طربوش، قميص من الكتان الأبيض، حزام وسروالين، سترة من الجوخ المطرز بالحرير، 2 فستان من القطن، حذاء اسطمبولي، 3 أمتار من قماش الموسلين المصري للحجاب، فوطة للحمام، وفي منتصف العام يتم إعطاء الطالبة شبشب وعباءة طويلة للاستخدام خارج المدرسة، ومعطف كبير يطلق عليه الحبرة وهو زي نسوي فاخر في هذا الوقت).

بعد التخرج يتم تعيين الطالبات في وظائف حكومية براتب شهري 75 قرشًا يصل إلى مائة قرش، أما الطالبات الراسبات فكان يتم طردهن من المدرسة، ويعين في المستشفى الميداني كمعاونات، كما يتم منح الطالبات رتبة ملازم ثان بمرتب 250 قرشًا شهريًا ولقب أفندي، كما كن يحصلن على ترخيص لإعطاء التطعيم وإجراء الولادات وعلاج السيدات والأطفال بالمجان بوصفهن موظفات حكوميات، وكانت المدرسة تخضع للسلطة القانونية لوزارة الجهادية، وخضعت الطالبات إلى نظام وأحكام الجيش.

خصصت الحكومة الحمير وسيلة لانتقال الحكيمات بين المراكز خلال جولاتهم، وبلغ راتب الحكيمة في 1851 حوالي 140 قرشا، إضافة إلى مبلغ مخصص للملابس والطعام وعلف للحمار الذي وصل ثمنه نحو 400 قرش، يتم خصمه بنظام الأقساط من راتب الحكيمة الشهري.

زواج الحكيمات

كان محمد علي لا يترك شيئا للصدفة، فقد وضع خططا حول مصير الطالبات بعد التخرج والزواج، وماذا إذا لم يقبل أزواجهن عملهن؟، فتضيع سنوات الدراسة والهدف منها، فأرسل في عام 1844 إلى مدير مدرسة الحكيمات يبلغه بالأمر أن يرشح أسماء أزواج مناسبين من الأطباء الضباط الذكور ليكونوا أزواجًا للطالبات بعد تخرجهن، وسيعين كل من الزوج والزوجة على رتبة ملازم ثان ويحصلون على منزل صغيرا تؤسسه الحكومة على نفقتها، وكانت الطالبات لا يحصلن على ترقيات أو أجر زيادة حتى يتزوجن، ومن المفارقات والقصص الطريفة في هذا الشأن هو أن إحدى الطالبات أرادت الزواج من أحد عمال النسيج وليس من طبيب، وما كان من الحكومة إلا أنها أرسلت خطابا للفتاة ترفض فيه تلك الزيجة، حيث قالت الحكومة أن الغرض من تزويج الطالبات من طلبة مدرسة الطب من الذكور هو تمكين كل منهما من ممارسة ما تعلموه معا، وأن زواج الحكيمة من عامل بمصنع النسيج لا يخدم هذا الغرض، وعليه تقترح الحكومة البحث عن شريك مناسب للفتاة، وذلك  وفق ما ذكره عدد من جريدة الواقع المصرية عام 1845.

وتسبب شرط الزواج في عزوف الكثير من الفتيات في السنوات الأولى للمدرسة عن الالتحاق بالمدرسة التي عانت من قلة عدد الطالبات، وفي عام 1842 صدرت أوامر لرئيس جباة الضرائب بالقاهرة بالتعاقد مع المشايخ ومشايخ الحارات المحليين بجلب فتيات تكون أعمارهم ما بين 12 و13 عام للالتحاق بالمدرسة، وبحسب الوقائع المصرية بلغ عدد الطالبات بالمدرسة عام 1847 نحو 60 طالبة.

تزايد الإقبال

بات أثر الحكيمات واضحًا، حيث أصبحت أعداد من السيدات تذهب للمستشفيات لتلقي الرعاية على يد الحكيمات أثناء الولادة، وتعاملت العديد من الأسرات مع الحكيمات الصحيات بدلاً من الدايات أو القابلات الشعبيات، وحفزت الحكومة النساء للذهاب للمستشفيات بمنح السيدة التي تذهب لمستشفى الولادة مكافأة قدرها 30 قرشًا بجانب ملابس للمولود ثمنها 12 قرشًا بجانب الطعام والرعاية المجانية، وكان الهدف من ذلك تدريب الطالبات بشكل عملي وجذب مزيد من السيدات.

تدهور أوضاع المدرسة

بالرغم من الدور الكبير والرائد الذي لعبته الحكيمات في الصحة العامة المصرية حتى بدايات القرن التاسع، خاصة في مجال التطعيم، الذي جعل مصر خالية من مرض الجدري حتى القرن العشرين لاسيما في المدن الكبرى، إضافة إلى دورهن في الكشف عن أسباب وفاة النساء في القرى، وقيامهن بتسجيل أعداد الوفيات، لكن في عام 1872 تدهورت أوضاع المدرسة، حيث تزامن ذلك مع خطة التوسع التي تبناها الخديوي إسماعيل لإنشاء عدد من مدارس البنات، وحينها تخلت الحكومة عن المدرسة خاصة بعد الأزمة المالية التي أعقبت هبوط أسعار القطن المصري في السوق العالمي أوائل سنة 1865، إضافة إلي أعباء الديون التي خلفها الخديوي إسماعيل، ومع الاحتلال البريطاني لمصر اختفت الضابطات الصحيات بشكل تدريجي وحلت محلهن الممرضات الأجنبيات.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر