عرض لكتاب| «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه».. قراءة في أحد روائع «ماركيز»
كتب – مارك أمجد
من المعروف أن الكاتب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز واحد من أهم كتّاب مدرسة الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية. وتعتبر أيقونته “مئة عام من العزلة” هي أهم عمل أدبي شهدته البشرية بعد التوراة. وجدير بالذكر أنها الرواية التي نقلته لمصاف الروائيين العالميين رغم أنه لم يملك ثمن نشرها حينما عرضها على الناشر لأول مرة، واضطر هو وزوجته لرهن بعض متاع المنزل ليدبروا المبلغ المطلوب. وماركيز بشكل عام لم يتكلف لونه الأدبي بل كان نتاجا طبيعيا للبيئة التي عاش فيها، وهي بيئة صاخبة مليئة بالغرائبيات والأحداث العجيبة والشخصيات التي تبدو لك وكأنها بهلوانات في سيرك. وهذا يرجع إلى المناخ اللاتيني المشحون بكل هذه المعطيات التي لا تحتاج إلا لطباخ ماهر يقدمها في خلطة مضبوطة. وهذا لا يعني بالطبع أن الأحداث الحقيقية تصنع دوما الكاتب الناجح، لأنه هو ماركيز نفسه ذكر في كتاب سيرته الذاتية “عشت لأروي” أن الأحداث الحقيقية نفسها تكون سيئة لو أنتجت أدبا ضعيفا.
تحكي رواية “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” عن جنرال متقاعد يعيش هو وزجته وحدهما في منزلهما المتواضع بعد أن قُتل ابنهما في حلبة مصارعة الديوك بالرصاص. الكولونيل أحيل على المعاش وصار ينتظر كل يوم بريدا يخبره إلى أي شيء وصلت قضية راتب المحاربين القدامى. لكن أحدا لا يراسل الكولونيل. يملك الرجل وزوجته ديكا تركه لهما ابنهما قبل أن يُقتل، وكان الديك هو أمل تلك الأسرة الصغيرة إذا فاز في حلبات مصارعة الديكة، الأمر الذي توجب عليهما تغذيته بشكل مستمر وقوي وشراء الذرة له بالمال الذي كان يمكن أن يوفر لهما وجبة طعام معقولة.
وهذه الرواية ليست الوحيدة للمؤلف الكولومبي الذي يكون بطلها شخصية مهيبة الجانب، إذ كتب أيضا “خريف البطريرك”. ومثل كل رواياته، وخاصة أن الرواية هذه المرة بطلها عسكري، يقدم ماركيز صورة عن الحياة السياسية في بلدة الكولونيل وتناحر الأحزاب وقهر الحكومات للمعارضة واعتقال موزعي المنشورات وكراهية سكان أمريكا الجنوبية لأمريكا الشمالية لأنهم لا يرون اللاتين سوى رجال بشوارب يحملون جيتارا ومسدسا. بل ويتخطى المؤلف حدوده الجغرافية في الرواية ويرصد أنه في نفس توقيت أحداثها يتم تأميم قناة السويس ويتضاءل نفوذ الاستعمار الغربي في أراضي الشرق.
يمتاز أسلوب ماركيز بالسلاسة والوضوح رغم أن القصة مليئة بالتعقيدات. وأكثر ما يميزه أنه كان قادرا دوما على لمس تجارب الآخرين حتى لو لم يجتازها. وقد روى في أحد اللقاءات الصحفية التي أجريت معه كيف وهو يكتب “الحب في زمن الكوليرا” كان متحيرا من رسم تفاصيل علاقة رومانسية بين اثنين تخطيا سن الشيخوخة، وبالمصادفة على مائدة الغداء اقترح عليه ابنه أن يتأمل زوجين يعرفونهما عن قرب وأن يستمد منهما ما يناسب روايته الجديدة. وبالفعل هذا ما سار ماركيز على نهجه في معظم رواياته، وفي رواية الكولونيل لا يجد من يكاتبه نجده يصف حياة المحارب المعزول وكأنه كان جنرالا فعلا في حياة سابقة له لم نعرفها. فيصف طريقة صنعه للقهوة في الصباح وأزرار بدلته وياقتها ونظرات عينيه حينما يغضب أو يريد قول شيئا لكنه يتراجع عنه في الوقت الأخير.
جابرييل جارثيا ماركيز
صحفي وروائي وسيناريست كولومبي ولد عام 1927 في قرية أراكاتاكا واستلهم من البيئة هناك وحكايات الجدات موضوعات كتبه. من أهم أعماله: مئة عام من العزلة، الحب في زمن الكوليرا وتم تحويلها لفيلم سينمائي من بطولة خافير برديم، قصة موت معلن، ساعة نحس، القصص القصيرة الكاملة لجابرييل غارسيا ماركيز، إيرينديرا البريئة، ذكرى عاهراتي الحزينات، عن الحب وشيطين أخرى. حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982 وتوفي عام 2014 عن 87 عاما بعد أن أصابه الخرف وفقدان الذاكرة وتوقفه بطبيعة الحال عن الكتابة.
ليس لدى الكولونيل من يكاتبه
رواية قصيرة صادرة باللغة العربية عن دار المدى طبعة أولى عام 2009 وطبعة ثانية عام 2014 من ترجمة صالح علماني في 300 صفحة من القطع الكبير ويضم الكتاب أيضا نصا آخر للمؤلف بعنوان ساعة شؤم.